مسلمو روسيا.. أُمم تعبد الله منذ ألف عام في بلاد القياصرة

يحظى مسلمو العالم بقدر معين من الاهتمام، إما لكونهم يعيشون داخل “أرض الإسلام” والبلاد الإسلامية، أو لأنهم جاليات شكّلها مغتربون تحوّلوا إلى أقليات في بلدان غير إسلامية. إلا أن فئة من مسلمي العالم لا تنتمي إلى أي من الفئتين، فلا هي تقيم في “بلاد الإسلام” ولا هي مجموعة من المغتربين والمهاجرين، بل هم ملايين ممن كان أجدادهم سباقين إلى اعتناق الإسلام، ولم تحملهم رياح الهجرة والاغتراب، وهم مسلمو روسيا الاتحادية.

وقد عادوا إلى الواجهة بقوة في سياق الأزمة العالمية التي فجّرها الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا متم فبراير/شباط 2022، حيث توجّهت الأنظار إلى كل مسلمي هذه المنطقة، خاصة بعد محاولة الطرفين توظيف ورقة الإسلام في مواجهتهما الإعلامية، حيث حرصت موسكو على إبراز المشاركة الشيشانية في الحرب ضمن الجيش الروسي، بينما حاولت أوكرانيا استمالة المسلمين وإصدار “فتوى” باسم مسلميها تحرم مشاركة مقاتلين مسلمين إلى جانب روسيا.

هم أول أقلية غير مسيحية داخل روسيا الاتحادية، ويشكلون الأغلبية داخل عدد من جمهوريات الاتحاد الروسي، وبفضل تعدادهم تتمتع روسيا بدور العضو المراقب في منظمة المؤتمر الإسلامي، وهم بذلك يشكلون ورقة أساسية في السياستين الداخلية والخارجية لروسيا الطامحة إلى استعادة موقع القطب الثاني في المنتظم الدولي في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية.

مسلمو روسيا.. جذور راسخة في أعماق التاريخ والجغرافيا

يعتبر أكبر تجمّع للمسلمين في أوروبا هو الذي تحتضنه روسيا، وعلى خلاف قسم كبير من الوجود الإسلامي في أوروبا الذي يتسم بكونه يعود إلى مهاجرين، فإن الوجود الإسلامي في روسيا يتميز بكونه يهم ساكنة محلية أصلية تحافظ على إسلامها منذ أكثر من ألف عام.[1]

يقدّر مجموع المسلمين الذين يعيشون في روسيا بنحو 25 مليونا (الإحصاءات الرسمية تشير إلى أنهم في حدود 20 مليونا)، ويتركزون أساسا في مناطق شمال القوقاز وتتارستان وباشكورتوستان.

مائدة الإفطار.. طقس إسلامي محترم لدى العائلات في روسيا

ويتميز مسلمو روسيا بتزايدهم المستمر نتيجة ارتفاع نسبة الخصوبة في صفوفهم، وهجرة المزيد من مسلمي آسيا الوسطى نحوها.[2]

وتوضح بعض المصادر أن حوالي خمسة ملايين من مسلمي روسيا هم من المهاجرين حديثا من آسيا الوسطى نحو الأراضي الروسية، لكن يُتوقع أن يتواصل نمو الساكنة المسلمة لروسيا لتمثل 30% من مجموع السكان خلال السنوات العشر المقبلة.[3]

أكل حلال.. منتجات موجهة لربع سكان العاصمة الروسية

لا يعتبر الحضور الإسلامي في روسيا مسألة ثانوية، بل يمكن ملامسته في قلب العاصمة الروسية موسكو، حيث تقدم محلات التسوق الروسية المنتجات الحلال الموجهة للمسلمين، وأنواعا من الأقمشة الخاصة بالحجاب.

كما تتوفر العاصمة الروسية موسكو على مجازر خاصة بذبح المواشي بالطريقة الإسلامية، إلى جانب مطاعم إسلامية تقدم أطباقا معدة من مواد حلال بالنسبة للمسلمين.[4]

وعكس الاعتقاد السائد بكون المسلمين يتركزون في مناطق هامشية من “القارة” الروسية المترامية الأطراف، يشكل المسلمون قرابة ربع سكان العاصمة الروسية موسكو، أي مليونين ونصف مليون نسمة من أصل حوالي عشرة ملايين ونصف مليون نسمة.[5]

فتح فارس.. بداية التوغل الإسلامي في بلاد القوقاز

خلافا لكثير من بقاع العالم التي يوجد بها حضور إسلامي ناتج عن تلاقح ثقافي وتجاري لاحق عن حقبة الإسلام الأولى، يعتبر المجال الروسي واحدا من أولى المناطق التي وصلتها الدعوة الإسلامية في مراحلها الأولى، وذلك مباشرة بعد انتصار الجيوش الإسلامية على الدولة الساسانية التي كانت قائمة في بلاد فارس.

فقد شمل الفتح الإسلامي أذربيجان عام 18 للهجرة، ثم توغل المسلمون في داغستان عامي 22 و23 للهجرة، وفتحوا دربند (باب الأبواب) عام 32 للهجرة ثم تراجعوا عنها، وأعادوا فتحها عام 38 للهجرة، وبهذا فتحت جميع بلاد القوقاز.[6]

وتعود أولى الاتصالات بين العالم الإسلامي والشعوب التي ستلتحق في وقت لاحق بالدولة الروسية، إلى القرنين السابع والثامن للميلاد، حيث كانت الفتوحات الإسلامية قد بلغت منطقة شمال القوقاز وآسيا الوسطى مع منتصف القرن السابع، قبل أن يتمكن المسلمون من توحيد هذا المجال الجغرافي تحت سلطتهم مع مطلع القرن الثامن، أي جنوب القوقاز وما وراء النهر.[7]

شعب البولغار.. رسالة من “القبيلة الذهبية” إلى الخليفة

توثقت علاقة روسيا بالإسلام خلال مرحلة قوة الدولة المغولية التي قامت بغزو البلاد الروسية خلال القرن الثالث عشر للميلاد، فاحتلوا بلاد البولغار وأطلقوا على دولتهم اسم “القبيلة الذهبية”. ورغم المقاومة الطويلة التي خاضها الروس ضد الغزو التتاري، إلا أن المصادر التاريخية لا تفيد بانطواء هذه الحرب على أي عداء تجاه الإسلام. كما بقيت علاقة روسيا بالإسلام متسمة بكثير من التعايش والقبول المتبادل، رغم فترات الجفاء والصراع السياسيين.

وقد لعبت الطرق الصوفية (النقشبندية والقادرية) دورا كبيرا في نشر الإسلام شمال القوقاز، وذلك في فترة تاريخية حديثة تبتدئ في القرن الـ14 للميلاد، وقد لعب الدعاة المنحدرون من داغستان دورا مهما في نشر الدين الإسلامي في بلاد الشيشان ثم في إنغوشيا. بينما ساهمت طموحات الدولة العثمانية و”خانية” القرم في نشر الإسلام عبر سواحل البحر الأسود.

وتنسب المصادر الروسية لشعب البولغار (تتارستان المتمتعة بحكم ذاتي داخل روسيا)، أبرز الأدوار التاريخية في تثبيت الإسلام داخل روسيا، إذ تتحدث المصادر الموثقة عن مبادرة ملك البولغار في أواخر القرن العاشر للميلاد، إلى دعوة الخليفة المقتدر لإيفاد بعثة تسهر على نشر الإسلام والتعريف بأصوله داخل بلاطه، مع تولي بناء مسجد ورفع الآذان وإطلاق عملية دعوة واسعة للإسلام في بلاده.[8]

“فلاديمير” العظيم.. قيصر وثني كاد أن يسلم لولا الخمر والخنزير

أصبح الإسلام دينا رسميا في دولة “فولغا بلغاريا” التي تقع أراضيها ضمن روسيا الحالية، وذلك قبل أكثر من ألف سنة، وتحديدا في عام 922 ميلادية، أي قبل نحو 66 عاما من اعتماد المسيحية الأرثوذوكسية دينا رسميا لأوكرانيا القديمة.

ففي القرن العاشر للميلاد، قرر الأمير الروسي “فلاديمير” العظيم اعتناق ديانة سماوية بدلا من الوثنية، كنهج سياسي ارتآه لتثبيت حكمه وتوحيد شعبه. وقام “فلاديمير” باستدعاء علماء دين مسلمين ومسيحيين (كاثوليك وأرثوذوكس) ويهود، ليقع اختياره في النهاية على المسيحية الأرثوذوكسية، رغم أن مصادر عديدة تتحدث عن إعجابه الشديد بالإسلام لولا رغبته في الاحتفاظ بإمكانية شرب الخمر وأكل لحم الخنزير.[9]

للمسلمين في روسيا حرية اختيار طعامهم الحلال المتوفر في الأسواق وبلا أية موانع

هذه الخطوة السياسية لم تكن وراء وصول الإسلام إلى روسيا، بل كان قسم من الشعوب الروسية يؤمن بالرسالة المحمدية أصلا، وعندما قرر حاكم روسيا الأمير “فلاديمير” اعتناق إحدى الديانات السماوية، طلب من البولغار (المسلمين حينها) إرسال رجال دين يوضحون له مبادئ الدين الإسلامي، إلى جانب المبشرين اليهود والمسيحيين الكاثوليك والأرثوذكس.

ورغم أنه انتهى إلى اعتماد المسيحية دينا رسميا، فإن ما قام به يوضح أنه كان يجعل الإسلام ضمن الاحتمالات الواردة بالنسبة إليه. وتقول بعض المصادر إن تحريم الإسلام للحم الخنزير والخمر، كان وراء قرار الحاكم الروسي اختيار المسيحية بدلا من الإسلام.[10]

سياسات البلاط القيصري.. مد وجزر على مر التاريخ الروسي

كان حرص قياصرة روسيا دائما على استقطاب ودعم شخصيات مسلمة بعينها يهدف إلى السيطرة على العنصر الإسلامي ومنعه من زعزعة استقرار البلاد، وكان مسلمو الإمبراطورية الروسية في بعض الفترات التاريخية يتعهدون أمام الله ورسوله، ويقسمون على الإنجيل والتوراة والمزامير والقرآن، بأن يكونوا موالين لجلالة الإمبراطور.[11]

لكن رغم الوجود القديم للإسلام في المجال الجغرافي الروسي، فإن السياسة الروسية تجاه المسلمين شهدت تحولا بداية القرن 18، وذلك نتيجة تنامي العلاقات الروسية مع أوروبا، وازدياد التوجس تجاه الإمبراطورية العثمانية.

مير سعيد سلطان غالييف عضو الحزب الشيوعي ومؤلف نظرية “الشيوعية الإسلامية”

واتسمت هذه السياسة بين التشدد والتضييق تارة وبين محاولة الاحتواء واستقطاب النخب الإسلامية تارة أخرى، خاصة بعد ضم منطقتي القرم وكوبان المتميزتين بأغلبية إسلامية إلى الأراضي الروسية. بينما أدت محاولة روسيا فرض سيطرتها الكاملة على شمال القوقاز إلى اندلاع الحرب القوقازية خلال القرن الـ19 وهي التي ستجعل العلاقة بين الدولة الروسية وبين هذا المكون الإسلامي تنطبع بقدر من التوتر في تلك المنطقة بشكل شبه دائم.[12]

وقد واجه المسلمون بعد ثورة 1917 البلشفية تحدي التوفيق بين معتقداتهم الفكرية وبين الشيوعية. وحاول بعض المفكرين المسلمين إيجاد نقاط التقاء بين الإسلام والماركسية، منهم مير سعيد سلطان غالييف، وهو عضو في الحزب الشيوعي ومؤلف نظرية “الشيوعية الإسلامية”.[13]

فقد كان عدد المسلمين في الإمبراطورية الروسية يبلغ قبل ثورة عام 1917 نحو عشرين مليون نسمة. وأدت مشاركة المسلمين في الأحداث الثورية التي شهدتها روسيا في مطلع القرن العشرين، إلى إنشاء عدد من الأحزاب السياسية التي استخدمت في خطابها شعارات إسلامية، أبرزها على الإطلاق حزب “اتفاق المسلمين” الذي كان يدعو إلى رفع منزلة الدين الإسلامي وتوحيد صفوف الشعوب الإسلامية مع بقائها ضمن الدولة الروسية.[14]

حقبة السوفيات.. ظلال سبعين سنة من الإلحاد العنيف

تعرض المسلمون لعمليات استهداف وتهديد بالإبادة في بعض الحقب التاريخية لروسيا، وتتوزع بين المرحلة القيصرية والمرحلة السوفياتية والمرحلة الجمهورية، وتوجه أصابع الاتهام في هذا الاستهداف إلى الكنيسة الأرثوذوكسية.

ويجد هذا العداء امتداده في خطابات بعض السياسيين، إذ يُنسب إلى الرئيس السوفياتي “ميخائيل غورباتشوف” قوله سنة 1988: إن أي حرب تخوضها روسيا ستكون باسم الإنسان الأبيض ومباركته، ويجب أن تتخذ صورة الحرب الصليبية باسم المسيحية.[15]

لقد تعرض الإسلام في الفترة السوفياتية لحملة دعائية وفكرية، رافقتها حملة على المؤسسات الإسلامية، إذ ألغيت عام 1924 المحاكم الشرعية ومحاكم الأعراف، كما ألغيت عام 1924 جميع المدارس الدينية الثانوية والابتدائية والكتاتيب، وكان عددها في ذلك الوقت 15 ألف مؤسسة. كما شهدت الحقبة السوفياتية حملات ديمغرافية استهدفت المسلمين من خلال عمليات تهجير وتوطين قسري.[16]

وعاش مسلمو روسيا على مدى 70 سنة من الحقبة السوفياتية، في ظل حظر العبادات وفرض نمط حياة لا ديني، مما حرم أبناء المسلمين من تعلم مبادئ الإسلام في المدارس القرآنية والكتاتيب، وهو ما جرى استرجاعه تدريجيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.[17]

كما أدى انهيار الاتحاد السوفياتي إلى تفكيك نظام الإدارات الدينية للمسلمين، فانقسمت إلى مجالس إفتاء مستقلة عدة، قبل أن ينضم معظمها إلى مؤسستين متنافستين، وهما الإدارة الدينية المركزية للمسلمين، ومقرها في أوفا، ومجلس المفتين في روسيا، ومقرها في موسكو.[18]

ستون شعبا فرقتهم الأعراق وجمعهم الدين.. مكونات المسلمين

يشكل المسلمون أغلبية السكان في سبعة أقاليم روسية هي إنغوشيا والشيشان وداغستان، وقبردينو- بلقاريا وقره شاي -شركيسيا وبشكيريا وتتارستان، إلى جانب شبه جزيرة القرم التي عادت روسيا لتضمها من أوكرانيا عام 2014، ويشكل المسلمون حوالي 15% من سكانها.[19]

وبحسب إحصاء عام 1989، فإن أكثر من 60 شعبا من الشعوب القاطنة في الاتحاد الروسي هي شعوب إسلامية. تتوزع على دول مستقلة وأخرى ذات استقلال ذاتي ضمن الاتحاد الروسي، والبقية تتوزع على دول الاتحاد الروسي الأخرى كأقليات عرقية أو على شكل قبائل مشتتة في جمهورية أو أكثر.[20]

وبينما ينتمي غالبية مسلمي روسيا إلى السُنّة، خاصة منهم المذهبين الحنفي والشافعي؛ يتركز شيعة روسيا أساسا في داغستان، وجلهم منحدرون من أصول أذربيجانية وطاجيك، لكنهم يظلون أقلية.

أما عرقيا، فينتمي مسلمو روسيا بالدرجة الأولى إلى التتار الذين يشكلون قومية مميزة لها جمهورية متمتعة بحكم ذاتي، ويعتبرون من بين أهم حاملي مشعل الإسلام في روسيا الاتحادية، بتعداد يفوق الخمسة ملايين نسمة. ثم تأتي بعد التتار قومية الداغستانيين الذين يفوق تعدادهم الثلاثة ملايين نسمة، ثم يأتي بعدهم المسلمون الشيشان والبشكير والشركس.[21]

 

المصادر

[1]https://www.youtube.com/watch?v=JdXY9enTsMQ
[2]https://www.aljazeera.net/news/international/2018/3/11/كيف-يعيش-25-مليون-مسلم-في-روسيا
[3]https://www.sasapost.com/this-is-how-russia-control-its-muslims/
[4]https://www.youtube.com/watch?v=kP5IYQEGjVw
[5]https://www.youtube.com/watch?v=kP5IYQEGjVw
[6]https://al-maktaba.org/book/1541/1511
[7]https://arabic.rt.com/info/805272-الإسلام-والمسلمون-في-روسيا/
[8]https://arabic.rt.com/info/805272-الإسلام-والمسلمون-في-روسيا/
[9]https://www.youtube.com/watch?v=bLupOzCd1Jg
[10]https://arabic.rt.com/info/805272-الإسلام-والمسلمون-في-روسيا/
[11]https://www.sasapost.com/this-is-how-russia-control-its-muslims/
[12]https://arabic.rt.com/info/805272-الإسلام-والمسلمون-في-روسيا/
[13]https://arabic.rt.com/info/805272-الإسلام-والمسلمون-في-روسيا/
[14]https://arabic.rt.com/info/805272-الإسلام-والمسلمون-في-روسيا/
[15]https://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?id=6689
[16]https://al-maktaba.org/book/1541/1511
[17]https://www.youtube.com/watch?v=kP5IYQEGjVw
[18]https://arabic.rt.com/info/805272-الإسلام-والمسلمون-في-روسيا/
[19]https://arabic.rt.com/info/805272-الإسلام-والمسلمون-في-روسيا/
[20]https://al-maktaba.org/book/1541/1511
[21]https://www.youtube.com/watch?v=JdXY9enTsMQ