“مصور الفرعون”.. عبقرية “هاري بورتون” الذي التقط كنوز وادي الملوك

 خاص-الوثائقية

وادي الملوك بمصر هو المكان الذي دفن فيه الفرعون توت عنخ أمون، وقد كان اكتشاف قبره عام 1922 سببا في منح عالم الآثار “هوارد كارتر” شهرة عالمية، لكن كان هناك شخص آخر في فريقه هو من صنع كل هذا الزخم العالمي للاكتشاف، بيد أنه لم يكن يظهر في صور الحفريات، لأنه هو الذي التقطها، وساهمت كاميراته في نشر حب هذا الفرعون في أرجاء العالم، وكشف الغموض الذي كان يلف الأسر الملكية في مصر القديمة.

لقد استطاع هذا المصور بعبقريته تطويع ظروف الصحراء القاسية وبيئة المقابر الفرعون بكاميرته البدائية، والتقط ألبومات من الصور بدقة متناهية تنافس الكاميرات الرقمية في نقل التفاصيل، ليتحول أرشيفه المصور إلى نواة في علم المصريات ودراسة الآثار.

كرست الباحثة الأمريكية “مارغريت ماونتفورد” نفسها لتعريف الناس بهذا المصور العبقري ونشر علومه الفوتوغرافية في أوساط المهتمين.

وقد سلطت الجزيرة الوثائقية بدورها الضوء على جهود الباحثة “مارغريت”، وبثت فيلما بعنوان “مصور الفرعون”، حكت فيه قصة “هاري بورتون” ومدرسته الفوتوغرافية الفريدة.

 

توت عنخ آمون.. بعثة البحث عن الفرعون في وادي الملوك

تقول “مارغريت ماونتفورد”: أردت أن أعرف سر عبقرية هذا المصور، وقمت بالاستعانة بمصور يستخدم نفس التقنيات، لنفهم كيف استطاع هذا العبقري تكييف تقنيات عشرينيات القرن الماضي في أجواء صحراوية قاسية يلفها الغبار والأتربة والحرارة المرتفعة من كل مكان، ليخرج لنا بهذا الكنز الثمين من الصور الرائعة، وسوف ننشئ غرفته المظلمة للتحميض في أعماق قبر قديم، ونكشف عن إرثه الحي.

يعتبر المصور الإنجليزي “هاري بورتون” أهم المصادر لدراسة الملك أمون، فقبل 3500 عام شقّ موكب من الكهنة طريقهم في التلال الصحراوية غرب مدينة طيبة (الأقصر حاليا) لدفن الملك الصغير الذي مات بطريقة مفاجئة وغامضة بعد مرور تسع سنوات فقط على تتويجه، ولم تكتشف جثته والكنوز الثمينة المخبأة معها إلا في بدايات القرن العشرين.

قرر “كارتر” العثور على هذه المقبرة، وكان مقر عمله في وادي الملوك، وقد قام بتمويل البعثة الأرستقراطي اللورد “كارنوفون”، ولكن بعد 8 سنوات من الحفر المتواصل فشلت العملية، ونفد التمويل الذي كان مخصصا للبعثة. وفي لحظة تغير كل شيء، عندما مسح أحد العمال التراب عن أحد المواقع، فكأنما كشف الستارة عن أعظم حدث أثري في التاريخ.

 

“هوارد كارتر”.. صدفة تكشف أعظم الآثار العالمية

في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 1922 جرى الكشف عن سلّم حجري يقود إلى قبر تحت الأرض، وكانت تلك بداية القصة، حيث عرف “كارتر” أنه بحاجة إلى فريق متخصص من علماء الآثار وخبراء التحنيط وأساتذة الهيروغليفية، ومعهم مصور معروف اسمه “هاري بورتون”، وعلى مدى السنوات العشر التالية سجّل “بورتون” لنفسه دورا هاما في أعظم قصة تاريخية عالمية، والتقط صورا أسرت خيال العالم.

ما زالت معظم كنوز “بورتون” في مصر، ولكن الكثير أيضا منها موجود في معهد “غريفيث” في أكسفورد، وهو يحوي أيضا أرشيف “كارتر” عن مغامراته الأثرية طوال عشر سنوات في وادي الملوك، وفي مقدمتها خارطة مرسومة باليد للمواقع الأثرية في وادي الملوك، ومذكراته التي كتبها بخط يده.

لم يكن “كارتر” مجرد صياد كنوز، ولكنه كان عالم آثار ومصورا بارعا، وقد أراد تسجيل اكتشافاته بطريقة علمية، ولكنه لم يكن راضيا عن جودة الصور التي التقطها. أما “مارغريت” فقد فهمت اللعبة، واستعانت بالمصور “هاري كوري رايت”، فهو ما يزال يستخدم نفس التقنيات التي استخدمها “بورتون” من قبل، باستثناء أن “رايت” يستخدم الفيلم، بينما كان “بورتون” يستخدم ألواحا زجاجية رقيقة، مطلية بنترات الفضة.

المدهش أن “بورتون” صنع بصوره قصة متكاملة لأعمال الحفر والتنقيب في وادي الملوك، والأكثر دهشة هو أن هذه الكنوز الفنية بقيت حوالي 100 عام دون تلف.

“هوارد كارتر” مكتشف قبر الملك توت عنخ آمون

 

عودة إلى قبر الملك بعد مئة عام.. سير على آثار “بورتون”

عندما أتى “كارتر” إلى مصر كان “بورتون” يعمل هناك منذ عشر سنوات بعيدا عن موطن طفولته في ستانفورد، لقد كانت بداياته متواضعة ولكنه كان ذكيا، فقادته الصدفة البحتة للعمل مع الأثرياء عاشقي الفنون، فانتقل إلى فلورنسا موطن الفنون في إيطاليا وهو في عامه الـ17، وهناك صار شغوفا بالتصوير وبرع فيه.

التقى “هاري” بأمريكي اسمه “ثيودور ديفز”، وهو مليونير مولع بمصر وحاصل على امتياز التنقيب في وادي الملوك من الحكومة المصرية، وقد عمل معه “بورتون” في البداية كعالم آثار، ثم بدأ يركز على التصوير الفوتوغرافي، وبعد ثماني سنوات من العمل مع “ديفز”، طلبه “كارتر” ليعمل معه في تصوير الكنز الأثري الثمين الذي عثر عليه باكتشافه مقبرة توت عنخ آمون.

في هذه الأيام تكاد تكون غرفة الملك فارغة إلا من جثته المسجاة داخل صندوق زجاجي يجري التحكم بحرارته آليا، ولكن الكنوز الأثرية التي تظهر في صور “بورتون” نقلت إلى المتاحف، وهنا تظهر أهمية هذه الصور التي حفظت لنا قائمة موثقة بمحتويات مقبرة الملك، من تماثيل حراس المقبرة إلى المقاعد مختلفة الأشكال والأحجام، وصولا إلى العرش الخشبي الموشى بالذهب.

 

ضريح آمون المذهب.. أرشيف التراث الملكي

أخذ “هاري بورتون” صورا عامة تحدد أماكن الأشياء، ثم صوَّر كل قطعة مع رقمها على حدة، حتى تكون هناك إحصائية دقيقة عن المحتويات، وأضاف عالم الآثار “كارتر” على الحواشي قائمة بألوان المحتويات التي لم تتمكن كاميرا “بورتون” بالأسود والأبيض تمييزها.

وصل المصور “هاري رايت” إلى مصر، ليعيد استخدام تقنيات التصوير التي كانت متوفرة لدى “بورتون” قبل مئة عام، وبدأ رحلته من مدينة هابو، وهي المعبد الجنائزي للفرعون رمسيس الثالث الذي حكم مصر لمدة 150 عاما بعد وفاة الملك آمون، وهو موقع صوره “بورتون” قبل أن يعمل مع “كارتر”، وقد طور “رايت” كاميرته لتعمل على الألواح الزجاجية التي استخدمها “بورتون”.

بالعودة إلى محتويات غرفة الملك نجد تمثالا مخيفا لإله التحنيط عند المصريين أنوبيس، ثم في الداخل ضريح آمون المذهب، وتحميه أربعة آلهة مجنحة، وهناك العصي والصولجانات رمز القوة والسلطة. وقد أبدع “بورتون” في صوره إلى حد أن الكاميرات الرقمية عالية الدقة اليوم، لا يمكن أن تلتقط التفاصيل الدقيقة التي التقطتها عدسة “بورتون”.

وخلال عشر سنوات من الحفر، احتفظ “بورتون” بأرشيف يتكون من أكثر من 1400 صورة، وكان يلزمه في كل صورة أن ينزع اللوح الزجاجي من الكاميرا، ويستبدله بلوح آخر، ويحتفظ بهذه الألواح بعيدة عن الأتربة والغبار حتى يعود إلى معمل التحميض ويطبع الصور.

كاميرا بورتن السحرية التي كشفت أسرار وادي الملوك للعالم وجلبتهم إليه

 

كاميرا “بورتون”.. أكاديمية التصوير الخالدة

في هذه الأيام أصبحت تقنيات “بورتون” في التصوير علما تدرسه الأجيال المتعاقبة، وتوجد مجموعات من فرق التصوير في وادي الملوك حيث يعمل “هاري رايت”، فعلماء جامعة شيكاغو لم يغادروا هذا المكان منذ عشرينيات القرن العشرين، وقد أبقوا على هذا التقليد حتى يومنا هذا، ويستخدمون نفس الكاميرات القديمة بتقنية عالية وجودة تفوق الوصف.

تسجل صور “بورتون” القطع الأثرية التي عثر عليها في القبر، وكان يصور علماء الآثار أثناء العمل أيضا، إذ تظهر إحدى الصور بعض العلماء وهم يتفحصون عربة ملكية من أصل ستّ عربات موجودة في القبر، وهي مذهبة ومطعمة بالزجاج الملون والمعادن النفيسة، ويطمح “رايت” إلى إنتاج صورة مشابهة اليوم.

نجح “هاري رايت” في اختيار لقطة مشابهة، فأحد العلماء يقرأ الآن بعض النقوش على الحائط ويتمعن فيها، بينما هنالك عامل محلي في الخلفية، طلب منهم “هاري” الاستمرار في وضعهم مع الصبر قليلا حتى يأخذ اللقطة، فالفيلم الزجاجي يحتاج إلى مدة أطول لجمع الضوء الكافي لصورة جيدة، مدة حوالي 5 ثوان.

تصدر اكتشاف القبر عناوين الصحف العالمية، وهرع المراسلون والمصورون وجموع السائحين إلى المنطقة بشكل لا يوصف، وهذا ما لم يكن يفضله علماء ودارسو الآثار، فهم يحبون الوحدة والهدوء والابتعاد عن الضجيج والأضواء في أعمالهم.

بعض مقتنيات الملك توت بعدسة”بورتون”

 

بعثات الغرب الأثرية.. تراث مصر المسروق

عطية قديس هو مصور مصري عاصر “كارتر” و”بورتون”، وكان يصور بنفس التقنية تقريبا، ويبيع الصور للسائحين، وحافظ أولاده وأحفاده على معمل التصوير حتى يومنا هذا، وقد التقينا من بينهم حفيده إيهاب قديس فأرانا الكاميرات القديمة التي كان جده يستخدمها، ومجموعة من الصور لمقبرة آمون عندما كان “كارتر” يعمل هناك.

في يناير/كانون ثاني 1923 وبعد اكتشاف المقبرة كان اللورد “كارنافون” قد ضاق ذرعا بالصحفيين المتطفلين، فباع امتياز الصور حصريا لصحيفة التايمز اللندنية مقابل 5000 جنيه إسترليني، كان المبلغ ضئيلا، لكن المصريين شعروا أن تراثهم يسرق ويباع بثمن بخس للأجانب. بينما كان “بورتون” الوحيد الذي شعر أنه دخل التاريخ من أوسع أبوابه بفضل صوره التي طارت في آفاق الكون.

تعتبر صور “بورتون” نواة هامة لدراسات متطورة حديثة عن الآثار المصرية، فقد طور باحثون تقنية لرسم صور ثلاثية الأبعاد اعتمادا على صور “بورتون”، وبتقنية الأبعاد المساحية والكاميرات الليزرية والماسحات الضوئية الدقيقة أمكن تجسيد صور “بورتون” ثنائية الأبعاد، وخلق واقع افتراضي لشكل القبر ومحتوياته بأبعاده الثلاثة.

ضريح الملك توت عنخ آمون يتكون من مجموعة غرف فيها كل مقتنياته الثمينة

 

ضريح الملك البكر.. إلهام المصممين وفرجة الجماهير

بالإضافة إلى “كارتر” يمكن أن ترى في الصور مجموعة من الناس المهمين الذي أغفلتهم التقارير الصحفية، مثل العلماء الآخرين والعمال المصريين الذين كانت لهم مساهمات هامة في هذا الحدث، ومن هنا تكمن أهمية صور “بورتون” في كونها تكمل الأرشيف والسجل والتقارير المكتوبة.

ألهمت صور الملك آمون المصممين الغربيين، وتوافدت الجماهير على المسارح لتسمع من “كارتر” عن اكتشافاته، وكان يصطحب معه الصور التي التقطها “بورتون”، وقد قام بتلوين بعضها يدويا من أجل إيصال دقة وجمال أشياء الملك التي أصبحت فيما بعد رموزا تتزين بها عواصم الغرب من لندن إلى نيويورك وواشنطن.

كانت أكثر المراحل دراماتيكية عند الكشف بالصور التدريجية عن الغرفة التي دفن فيها الفرعون نفسه، كانت بقايا آمون مغطاة بأضرحة خشبية مزخرفة، وكان تصوير “بورتون” لباب الغرفة المقفل بالأختام دليلا على أن الأضرحة لم تمس من قبل ولم تصل إليها أيدي اللصوص قط، وقد تطلب ذلك أعمالا مضنية نظرا لضيق الغرفة وانخفاض سقفها.

صورة عبقرية التقطها “بورتون” لـ”كارتر” وهو ينظر في وجه الفرعون

 

“كارتر” ينظر في وجه الفرعون.. إعادة المشهد

كان على “بورتون” أن يقطع مسافة بين موقع التصوير وموقع التحميض في قبر مظلم مجاور، وكان يكرر ذلك مئات المرات كل يوم، لأن “كارتر” لم يكن يقبل الانتقال إلى خطوة أخرى في الحفر إلا بعد أن يرى الصور السابقة، وكان لـ”هاري رايت” شرف كبير في تحميض صوره في نفس المكان الذي بقي مغلقا منذ أن غادره “كارتر” و”بورتون”.

نجحت تجربة “هاري وايت”، وبعد عملية التحميض والغسل والتثبيت كان بالإمكان رؤية لوحة زجاجية سلبية غاية في الروعة والإتقان، وقد فعل ذلك باستشعار السيد “بورتون” وحيدا في هذا القبر يقوم بنفس الخطوات، لكن “رايت” يعترف أن جودة صور “بورتون” أعلى بكثير من نوعية صوره، وكان يقوم بمعالجات غامضة لإزالة ذرات الغبار العالقة على اللوحة السلبية، وهو الأمر الذي لم يتقنه “رايت”.

كانت هنالك صورة عبقرية التقطها “بورتون” لـ”كارتر” وهو ينظر في وجه الفرعون، ويريد “رايت” أن يقلدها بأن يدع “مارغريت” تقوم بدور “كارتر” في تلك الصورة الرائعة، والحقيقة أن “كارتر” كان صلبا قاسيا ويحب تنفيذ الأعمال بالدقة المتناهية التي يقررها، ولكن عبقرية “بورتون” ودبلوماسيته في التعامل مع “كارتر” كانت قد أكسبته ودّ “كارتر” وتعاونه معه على وجه كبير.

“هاري بورتون” مصور آثار الفرعون العظيم الموهوب

 

“هاري بورتون” العبقري.. صانع أرشيف الفراعنة العظيم

انتهت مهمة “بورتون” العظمى سنة 1933 بعد أن قام بتصوير آخر كنوز المقبرة، الضريح والآلهة الأربعة المجنحة التي تحرسه، وقد كانت فرحته كبيرة بإنجاز هذا السِّفر الأسطوري من الصور، ثم واصل عمله لصالح شركة نيويورك نت حتى توفي سنة 1940.

تقول الباحثة “مارغريت ماونتفورد”: لقد شاهد ملايين الناس صور الفرعون توت عنخ آمون، وأعجبوا بها حد الدهشة، ولكن لم يفكر أحد من هؤلاء في من وقف خلف الكاميرا، أما أنا فقد قررت أن لا أقع في مثل هذا الخطأ، وقررت دراسة “هاري بورتون” العبقري الذي كان وراء اكتشاف الفرعون وإظهاره للناس، وقد عملت مع “هاري رايت” على تتبع عبقرية “بورتون” بما كان يملك من تكنولوجيا بدائية في ذلك الزمان، وبالرغم من أن الصور التي التقطها “رايت” كانت متميزة، فهو يعترف بأنه سيبقى تلميذا بجانب “بورتون”.