معبد هندوسي على أنقاض مسجد بابري.. خرافة توشك أن تتحقق

محمود العدم

قصة المسجد البابري حلقة من سلسلة طويلة من المآسي التي تعيشها الأقلية المسلمة في الهند، وهي واحدة من النزاعات الطويلة الأمد الممتدة لقرون بين المسلمين والهندوس في شبه القارة الهندية.

جاء قرار المحكمة الهندية العليا أمس السبت (9/11/2019) ليحسم القضية بشكل نهائي، لكنه في الوقت ذاته قد يكون حكما على نزاهة القضاء الهندي أمام مئات الملايين من الهنود سواء من المسلمين أو الهندوس.

قضى حكم المحكمة العليا الهندية بتسليم الأرض التاريخية لمسجد بابري للهندوس لتشييد معبد عليه، مقابل منح المسلمين أرضا بديلة بمساحة هكتارين لبناء مسجد عليها في نفس منطقة المعبد.

وأمرت المحكمة العليا في قرارها بأن يُعهد بالموقع لهيئة ستقوم ببناء معبد هندوسي فيه وفق بعض الشروط، بينما يتم تسليم أرض أخرى منفصلة في أيوديا إلى مجموعات مسلمة لبناء مسجد جديد عليها.

 

ادعاءات لم تثبتها المحكمة

الغريب أن المزاعم الهندوسية بشأن بناء المسجد على أنقاض معبد هندوسي، هي مجرد خرافة اصطُنعت إبان الاستعمار الإنجليزي.

وبحسب قرار المحكمة العليا فإن المسجد البابري أقيم سنة 1528م مكان معبد هندوسي، بينما نفس القرار يقول إن تقرير هيئة الآثار الهندية التى قامت بالحفريات فى موقع البابري، لم يثبت أي شيء بصورة قطعية.

وهنا نشير إلى أن أول ما وردت بذور خرافة بناء المسجد مكان معبد كان في العام 1611 في أعمال للمسافر الإنجليزي وليام فينش الذي تكلم عن هدم قلعة للهندوس كانت مقامة على هضبة راما كوت في بلدة أيوديا بولاية أوتار براديش الممتدة وسط وشمال الهند، لكنه لم يذكر شيئا عن بناء مسجد مكانها.

ثم ظهرت أعمال للمبشر جوزيف تيفينثالير الذي عاش وعمل في الهند لمدة 38 عاما بدءا من العام 1743، وقال في بعضها إن الملك المسلم أورانغزيب هدم قلعة راما كوت التي كانت تضم مسقط رأس أكثر الآلهة تبجيلا لدى الهندوس (راما)، وبنى مكانها مسجدا.

وعلى مر الزمن وردت روايات كثيرة، غير أن دراسات هندية حديثة أثبتت أن حاكم المنطقة مير باقي بنى المسجد في القرن الـ16 الميلادي في عهد ظهير الدين بابر أول ملك مغولي حكم الهند على أنقاض مسجد آخر، ولم يرد ذكر لوجود أي معبد في المنطقة، وهو ما أشار إليه قرار المحكة ضمنيا.

لكن المتطرفين الهندوس لاحقا وظفوا الرواية الأسطورة وبدؤوا يطالبون بالمكان، ووفقا لكثير من المؤرخين فإن فكرة مطالبة الهندوس بأرض المسجد لم تكن موجودة قبل عام 1855، غير أن الإنجليز شجعوا -لاعتبارات سياسية- مزاعم للهندوس تدعي أن مسقط رأس راما موجود في باحة المسجد.

وبالعودة إلى قرار المحكمة الأخير المتناقض، فإنه نص على أنه ليس من اختصاص المحكمة العليا أن يقرر صحة أو بطلان أي معتقد ديني، لكن المحكمة نفسها قالت في قرارها إن المكان هو ملك للإله “راما” لأنه ولد هناك حسب اعتقاد الهندوس.

 

حسابات انتخابية

بعد قرار تقسيم شبه القارة الهندية وإعلان انفصال باكستان عن الهند عام 1947، بقيت قضية المسجد البابري واحدة من القضايا التي تشكل هاجسا للدولة الجديدة.

وحدث ما لم يكن في الحسبان، ففي ليل 22 ديسمبر/كانون الأول عام 1949 وضع بعض غلاة الهندوس -بتواطؤ من الحكام المحليين- أصناما فى المسجد، فثارت ثائرة المسلمين، وعوضا عن إزالة الأصنام قامت الحكومة بإغلاق المسجد ووضعه تحت الحراسة، باعتباره أرضا متنازعا عليها إلى حين البتّ فى أحقية ملكيتها من قبل المحاكم المدنية.

وعينت الحكومة كاهنا هندوسيا سمح له بالدخول إلى المسجد من باب خلفي لإقامة الطقوس الهندوسية كل يوم.

واستمرت القضية تراوح مكانها فى المحاكم الهندية إلى أن استغل حزب الشعب الهندوسي القومي المتعصب (بهارتيا جاناتا) -المغمور آنذاك- القضية عام 1984، فجعل قضية بناء المعبد مكان المسجد أبرز مطلب في برنامجه الانتخابي، وأقام مهرجانات ومسيرات منادية بإعطاء المكان للهندوس لبناء المعبد.

ومن باب المجاراة استثمر حزب المؤتمر الحاكم آنذاك القضية أيضا لكسب تأييد الهندوس، وسمح رئيس الوزراء الأسبق راجيف غاندي للهندوس يوم 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1984 بوضع حجر أساس لمعبد هندوسي في أرض ملاصقة لساحة المسجد.

وتبع ذلك حكم صادر من إحدى المحاكم عام 1986 سمح بفتح أبواب المسجد للهندوس، وإقامة شعائرهم التعبدية فيه، وهو ما شكل انحيازا ضد المسلمين، وأعطى في الوقت ذاته دفعة للهندوس للضغط على الحكومة للحصول على ما هو أكبر.

هندوس يحتفلون بتسليم الأرض التاريخية لمسجد بابري لهم لتشييد معبد عليه
هندوس يحتفلون بتسليم الأرض التاريخية لمسجد بابري لهم لتشييد معبد عليه

 

اعتلاء المسجد وهدمه

استمرت احتجاجات الهندوس إلى أن جمعوا أكثر من نصف مليون شخص عند المسجد، وفي صباح يوم 6 ديسمبر/كانون الأول 1992 اقتحمت الحشود الهائلة المسجد وقاموا بهدمه بأدوات الحفر والهدم اليدوية، وكان ذلك في ظل حكومة حزب المؤتمر الذي ظل المسلمون يصوتون له عقب الاستقلال بصورة عمياء.

كان رئيس الوزارء آنذاك ناراسيمها راو المعروف بتعاطفه مع التيار الهندوسي المتعصب، وقيل إنه لم يرد على الهاتف طوال ذلك اليوم حتى انتهت عملية الهدم.

وتسببت الحادثة باندلاع مواجهات عنيفة بين المسلمين والهندوس امتدت في طول البلاد وعرضها، وراح ضحيتها وفق تقديرات حكومة نحو ثلاثة آلاف قتيل معظمهم من المسلمين.

وتجدر الإشارة هنا الى أن عددا كبيرا من زعماء حزب “بهارتا جاناتا” كانوا على رأس المحرضين على هدم المسجد، وأظهرت التسجيلات المصورة خطاباتهم وهم يهتفون لهدم المسجد ومنهم زعيم الحزب ووزير الداخلية السابق لال كريشنا أدفاني ووزير البنى التحتية السابق مورلي مانوهارجوشي، ونائبته “أوما بهارتي” التي شوهدت وهي تهتف من على المنصة وقت هدم المسجد وتقول “إيك دهاكّا أور دو” أي أعطوه ضربة أخرى (تقصد حائط المسجد)، حتى أصبحت هذه الكلمات خالدة في معجم المتعصبين الهندوس.

وبعد الهدم مباشرة أقام الهندوس معبدا مؤقتا فوق أنقاض المسجد، ولا يزال هذا المعبد قائما تحت حراسة مشددة تقام فيه الطقوس بانتظام ولا يسمح للمسلمين بالاقتراب منه.

ولاحقا، وإثباتا لتورطهم في هدم المسجد والأحداث التي تلت ذلك، وجهت محكمة في مدينة لكناو في 30 مايو/أيار 2017 اتهاما رسميا لأدفاني وقادة آخرين بينهم وزيرة بالتآمر الجنائي في هدم المسجد.

صورة أرشيفية لمسجد البابري
صورة أرشيفية لمسجد البابري

 

معبد مكان المسجد

بعد هدم المسجد ارتفعت أسهم حزب الشعب القومي الهندوسي (بهارتيا جاناتا) واستطاع الفوز بانتخابات عام 1996 وحكم الهند حتى عام 2004، وأكد رئيس الحزب آنذاك أدفاني أن مسألة بناء المعبد ساهمت في تحول الحزب إلى قوة رئيسية على الساحة السياسية في الهند.

وقال “إن بناء المعبد يبقى أمنية لم تتحقق وغير قابلة للتراجع، وإذا فزنا في الانتخابات فإن بناء المعبد سيصبح مسألة وقت فقط”.

ولكن الحزب خلال فترة حكمه التي امتدت ثمانية أعوام عجز عن تحقيق الحلم ببناء المعبد، وكبلته القوانين والدستور والبرلمان والمحاكم والتوازنات السياسية، وأدى فشله في تنفيذ بناء المعبد إلى فقدان ثقة المنظمات المتطرفة، مما أسهم في خسارته الانتخابات التشريعية سنة 2004 أمام منافسه اللدود حزب المؤتمر.

ويومها قال أشوك سينغال زعيم المنظمة الهندوسية المتطرفة “فيشوا هيندو باريشاد” إن حزب بهارتيا جاناتا هو حزب علماني معاد للهندوسية، فرغم حكمه الذي استمر ثمانية أعوام عجز عن تحقيق الأماني الهندوسية ببناء المعبد.

بقيت قضية المسجد أمام المحاكم الهندية، لكن بناء المعبد ظل في الوقت نفسه حلما يراود المنظمات الهندوسية المتطرفة، يقول الكاهن الهندوسي نيراتا غوبال داس وكان هو المشرف على عملية بناء معبد “رام جانام” الذي سيقام مكان المسجد: نحن لن ننتظر تعديلات دستورية تسمح لنا ببناء المعبد، فبابر بنى المسجد على هذه الارض بالقوة، ونحن هدمنا المسجد بالقوة وسنبني المعبد بالقوة مهما كلفنا ذلك.

ويقول زعماء من “جمعية الكهنة الهندوس” التي تضم نحو 600 ألف كاهن: لن يكون من الصعب علينا أن نجمع نصف مليون أو مليون شخص لإنجاز مهمة بناء المعبد، ولن ندّخر جهدا في إنجازه وبعدها سننطلق إلى المسجدين المطلوبين في بلدتي واراناسي وماتهورا.

وفي كل عام تسيّر المنظمات الهندوسية المتعصبة آلافا من عناصرها في مسيرات بشوارع المدن الهندية وقد صبغوا وجوههم باللون الأصفر والبرتقالي –وهي من الألوان ذات القدسية عندهم- وهم ينفخون في قواقع المحار، وهي دلالات دينية عند الهندوس، ويهدفون من ورائها إلى التذكير بقضية بناء المعبد مكان المسجد المهدوم.

وجاءت محطة أخرى في تاريخ هذه القضية فى يوليو/تموز 2010 حين قضت محكمة أوتار براديش العليا بتقسيم أرض المسجد بين الهندوس والمسلمين، فأعطت للهندوس الثلثين وللمسلمين الثلث الباقي، ورفض الجانبان هذا الحكم واستأنفوه فى المحكمة العليا التي أصدرت قرارها المثير يوم السبت.

 

بناء المعبد.. مطلب أقلية متطرفة

ولكن، هل بناء المعبد مطلب غالبية الهندوس؟ الإجابة على هذا السؤال وبشكل مباشر، هي أن الحقيقة غير ذلك تماما، فالذين يصرّون على بناء المعبد ليسوا سوى بعض زعماء المنظمات الهندوسية المتعصبة، وهم رغم أعدادهم الهائلة لا يشكلون نسبة كبيرة من سكان الهند التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 1.2 مليار نسمة.

ولكن هذه المنظمات المتعصبة وبما تملكه من مال ونفوذ استطاعت تجييش الملايين من الطبقات المنبوذة من الهنود البسطاء الذين لا همّ للواحد منهم إلا الحصول على لقيمات يملأ بها معدته الخاوية.

وتؤمن هذه الطبقات المنبوذة أنها خُلقت من أرجل الآلهة، لذا فهي تشعر دائما بالدونية والمكانة الوضيعة، وتعتبر طاعة رجال الدين أمرا يرضي الآلهة، وهذا ما يفسر تجمعهم بأعداد هائلة لتنفيذ الرغبات الحاقدة لدى بعض رجال الدين.

ومقابل ذلك، نجد أن الكثير من الكهنة الهندوس المعتدلين يعلنون أنهم لا يريدون بناء المعبد على دماء المسلمين، بل إن بعضهم مثل الكاهن” غيان داس” سادن معبد “هانومان غارهي” -وهو من أكبر معابد أيوديا- كان قد طاف هو ومجموعة من أتباعه على بيوت المسلمين لتثبيتهم في مساكنهم وثنيهم عن الرحيل من بيوتهم واعدا إياهم بتأمين حماية لهم وتوفير الغذاء لهم ولعائلاتهم، وهو موقف يشاركه فيه كثير من زعماء الهندوس.

يضاف إلى هذه المواقف، أن ملايين المواطنين الهندوس يستنكرون التصرفات التي يقوم بها بعض المتطرفين من زعمائهم الدينيين، بل إن بعضهم لجأ أكثر من مرة إلى المحاكم للمطالبة بتأمين الحقوق الدينية للأقليات من سكان البلاد.

وهناك دعاوى في المحاكم الهندية تطالب هؤلاء الزعماء المتطرفين بالكشف عن حسابات بملايين الدولارات من أموال التبرعات التي تُجمع داخليا وخارجيا ولا يُعرف مصيرها.

 

لماذا فاز المتعصبون؟

وهنا قد يظهر تساؤل آخر، لماذا فاز الحزب الهندوسي المتعصب ورئيس الوزراء ناريندرا مودي بأصوات الناخبين وحقق على مدى دورتين انتخابيتين فوزا ساحقا على منافسيه؟

والإجابة أن مودي استفاد من أخطاء حزب المؤتمر وفضائحه التي أزكمت الأنوف، فكان التصويت له في إطار الحكومة المركزية انتقاما من حزب المؤتمر.

يضاف لذلك أن الحزب استغل قضايا عاطفية لدى الهندوس ولجأ إلى إشعال نار الاضطرابات الطائفية لتحقيق استقطاب طائفي حاد جعل عامة الهندوس يظنون أنه هو حامي الهندوس والحافظ لمصالحهم.

وأثناء حملة انتخابات 2019 رفع رئيس الوزراء ناريندرا مودي الشعارات ذاتها لاستجلاب تعاطف المجموعات الهندوسية المتعصبة وأنصارها، وتمكن من الفوز مرة ثانية بالانتخابات.

سارع مودي إلى الإشادة بقرار المحكمة، معتبرا أن” القضية انتهت”، ويرى في الحكم انتصارا شخصيا له، وهو الذي سبق أن جعل إعادة بناء معبد رام محل المسجد البابري في مقدمة أولوياته.

 

 

نهاية حزينة

يتمنى المواطنون الهنود من كافة الطوائف أن يمر قرار المحكمة هذه المرة دون رد يتمثل بأعمال عنف واضطرابات، لكن الجميع يدرك أن حكومة الحزب الهندوسي المتعصب بقيادة مودي -وبعدة ممارسات ليس آخرها قرار المحكمة اليوم ولا إلغاء الحكم الخاص في كشمير- تضيّق الخناق على المسلمين وتضعهم أمام خيارات صعبة.

ولكن مع الظلم الفادح الذي وقع عليهم، فإن مسلمي الهند أعلنوا مرارا أنهم سيقبلون بالقرار النهائي للمحكمة العليا أيا كان، وفي ذات الوقت فإن الحكومة الهندية نزعت منهم حتى حقوقهم الديمقراطية فى الاحتجاج السلمي، كما حذّرت من نشر أي مواد تتعلق بالقضية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأنه سيتم معاقبة أصحابها بالسجن.

ورغم إعلان أكثر من جهة إسلامية عزمها الاستئناف على القرار ضد مسلمي الهند، فإنهم أعلنوا أنه في أجواء الحقد المشحونة حاليا ورغم ما يشعرون به من إجحاف لحقهم وأنه جرى بشكل لا يرضيهم، فإن قرار المحكمة قد يكون دفن المشكلة بشكل ما سيكون خيرا للوطن ولمسلمى الهند الذين أنهكتهم هذه المشكلة منذ أربعة عقود.