مغاربة فرانكو.. مجاهدون في نصرة الصليب

الوثائقية- خاص

شاب مغربي يافع وطافح بالحماس والرغبة في كسر قيود الحياة، يركب أمواج البحر المتوسط على خطى “طارق بن زياد” من المغرب نحو الأندلس، ليحطّ الرحال منتصف ثلاثينيات القرن الـ20 في إشبيلية جوهرة الأندلس المفقود، وهناك يصادف فتاة إسبانية تبادله العشق ويعيشان قصة رومانسية وسط الحرب والدمار والاقتتال، لكن أم الفتاة الإسبانية ترفض ارتباط ابنتها بمقاتل مغربي تراه متوحشا وعدوا أبديا.

هذه قصة الفيلم السينمائي الجديد “لامورا” الذي يطرق أبواب القاعات المغربية بعدما أنهى مخرجه “محمد إسماعيل” عملية تصويره؛ واعداً بإخراج قصة منسية لعشرات الآلاف من المغاربة الذين اقتفوا آثار “طارق بن زياد” قبل نحو ثمانين عاما، ليس لتحرير الأندلس من جديد، بل للقتال إلى جانب الجنرال “فرانثيسكو فرانكو” العسكري المنقلب على النظام الجمهوري الديموقراطي في إسبانيا.

ولّدت الصور والمقاطع الترويجية الأوّلية لهذا الفيلم السينمائي حالة ترقّب وانتظار كبيرين، باعتباره أول تناول سينمائي مخصص بالكامل لاستحضار فصل مظلم من التاريخ الحديث للمغرب في علاقته بالجار الأوروبي الذي جمعته به فصول طويلة من التاريخ، طبَعها المدّ والجزر.

يعِد مخرج وكاتب سيناريو الفيلم بإعادة بناء قصة هؤلاء المقاتلين المغاربة الذين غرّر بهم المحتل الإسباني، وحوّلهم إلى حطب أكلتها نار حربه الأهلية التي تعتبر من بين أكثر الحروب الأهلية دموية في تاريخ البشرية، حيث تُصوّر بعض مشاهد الفيلم عملية تعبئة وتدريب الرجال واليافعين المغاربة في ثكنات وقصور تاريخية بمنطقة الشمال المغربي، قبل أن تلقي بهم في جبهات الموت وأتون الحرب الأهلية التي عرفتها إسبانيا في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي.

إخراج رفات الجنرال فرانكو من مقبرة الشهداء بمدريد

 

استحضار في الضفتين

سبب هذا الترقّب الذي خلّفه الإعلان عن قرب عرض فيلم “لامورا” في الصالات المغربية أن المشاركة في الحرب الأهلية الإسبانية تُعد من الندوب العميقة في الذاكرة الجماعية للمغاربة، ندوب يؤكدها اليوم بعض الشهود القلائل الذين أمهلهم العمر كي يعيشوا فوق عتبة الثمانين.

فعشرات الآلاف من المغاربة الذين عبروا إلى الضفة الشمالية من المتوسط بحثا عن مصدر عيش عند بعضهم، وسعيا إلى الجهاد ضد أعداء الله بالنسبة لبعضهم الآخر؛ انتهوا جميعا إما معطوبين أو فقراء مهمّشين يتلقون معاشات زهيدة، أو قتلى في مقابر جماعية ترفض إسبانيا الاعتراف بوجود القسم الأكبر منها فوق أراضيها.

وإذا كان التاريخ يحتفظ “بغزو” المسلمين سواء العرب أو الأمازيغ للأندلس انطلاقا من المغرب، فإن غزوا آخر وقع في القرن الماضي على يد عشرات الآلاف من المقاتلين المغاربة المسلمين، لكنه كان لحساب رجل إسباني مسيحي هو الجنرال “فرانثيسكو فرانكو”.

هذا الأخير عاد إلى واجهة الأحداث، ليس عن طريق فيلم “لامورا” كما يحصل بالمغرب، بل بسبب قرار السلطات الإسبانية نقل رفاته من مقبرة “وادي الشهداء” في قلب العاصمة مدريد، إلى مقبرة في هامش المدينة.

فبعد وفاته في 20 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1975، دُفن جثمان فرانكو في مقبرة الشهداء الذين قضوا في الحرب الأهلية التي شهدتها إسبانيا في ثلاثينيات القرن الماضي، وخلّف هذا الأمر سخط الاشتراكيين في البلاد، الذين تعالت أصواتهم على مر عقود يُطالبون بنقل جثمان رئيس اتسمت حقبة حكمه بـ”الديكتاتورية”.

فرانكو.. الطفل الذي حلم بأن يصبح جنديا في البحرية

 

حلم الطفولة الموؤود لابن السلالة العسكرية

ينتمي “فرانكو” إلى جيل سابع في عائلة أبحرت تاريخيا ضمن الأسطول العسكري لإسبانيا الذي جاب أنحاء العالم غازيا ومُتاجرا، وكان على الطفل “فرانثيسكو” الذي ولد عام 1892 أن يلتحق بهم، لكن سوء حظه جعله يصادف دخول إسبانيا الحرب مع الولايات المتحدة حول كوبا، فتم تحطيم الجيش البحري الإسباني في نهاية القرن الـ19، فخسرت بلاده كامل إمبراطوريتها في أمريكا اللاتينية، مما شكّل أزمة ثقافية ووجودية للعائلات التي ارتبط وجودها بالجيش، ومن بينها عائلة “فرانكو”.

صدمة “فرانكو” المبكرة كانت بإغلاق الكلية العسكرية البحرية لحظة استعداده للالتحاق بها، إذ لم تعد إسبانيا في حاجة للتجنيد البحري بعدما خسرت معظم أسطولها، فاضطر إلى قبول الالتحاق بصفوف المشاة.

تخرّج “فرانثيسكو فرانكو” من الكلية العسكرية عام 1910، وكانت وجهته الأولى واحدة من المستعمرات الأخيرة لبلاده، أي الشريط الشمالي من المغرب، فالانتقال إلى المستعمرات الخارجية وخوض الحروب، كان أسرع طريق للحصول على الترقيات العسكرية، بدل الارتهان للمساطر البيروقراطية البطيئة.

لكن إسبانيا لم تكن تعلم أنها تصنع ديكتاتورها وتمكّنه من الجيش الذي سيغزوها به حين عيّنته على رأس كتيبة من المقاتلين المغاربة الذين جرى تجنيدهم، لمواجهة الثوار المحليين الرافضين للوجود الاستعماري. هناك في تلك الحرب الدموية، بدأت تتشكّل صورة فرانكو في أذهان المغاربة، باعتباره رجلا خارقا رغم ما يرتكبه في حقهم من جرائم.

وسبب ذلك كان نجاته من معارك طاحنة، واستعادته لعافيته بعد إصابته بطلقة مباشرة في البطن، مما كان يعني بالنسبة للسكان المحليين وجود عناية إلهية خاصة تحفّ بهذا الرجل، وبرَكة معينة تجعله رجلا خارقا، حيث عاد من المغرب مزهوا بإخضاع المقاومين، ليصبح بذلك أصغر جنرال في أوروبا كلها، عن سن 33 عاما.

الجنرال الإسباني المنقلب فرانكو يتقلد الحكم بعد حرب أهلية طاحنة

 

إقليم الفحم.. شرارة الحرب الأهلية

موازاة مع صعود “فرانثيسكو فرانكو” في السلّم العسكري، كانت إسبانيا تعيش على غرار جلّ الدول الأوروبية مخاضا سياسيا عسيرا، سبّبته آثار الحرب العالمية الأولى، وصعود التيارات الشيوعية والاشتراكية في مواجهة الفئات المالكة للثروات ووسائل الإنتاج، وهو ما تحوّل إلى اضطرابات ومواجهات اجتماعية حملت الملك الإسباني “ألفونسو الثالث عشر” على قبول التنازل عن الحكم وإجراء انتخابات عامة في عام 1931، أسفرت دون أي مفاجآت عن فوز كاسح للأحزاب اليسارية، وهو ما كان يعاكس معتقدات “فرانكو” الكاثوليكي المحافظ.

عادت التيارات اليمينية المحافظة لتفوز في انتخابات جديدة عام 1933، لكن الشيوعيين لم يقبلوا بالهزيمة، حيث شنوا هجوما على إقليم أستوريا الغني بالفحم في الشمال، وهو ما شكّل فرصة سانحة للجنرال “فرانكو” لمعاودة تجريب أسلوبه العسكري القائم على الفتك والترهيب، خاصة أنه كان يؤمن حقا بأن خصومه السياسيين منحرفون دينيا.

لم يتردّد “فرانكو” في نقل وحداته المقاتلة الفتاكة المكونة لـ”جيش أفريقيا”، إلى إقليم “أستوريا” لتمارس إرهابها، فكان من أول ما بدأت به تلك القوات جمع نحو 3 آلاف من المتمردين وقتلهم بشكل جماعي، ثم ترحيل عشرات الآلاف الآخرين ونفيهم إلى مستعمرات خارج أوروبا.

وقع الصدمة التي أنتجها القمع الدموي الذي مارسه “فرانكو” ضد الإسبان بواسطة مقاتليه المغاربة، تحوّل في فبراير/شباط 1936 إلى مدّ سياسي يساري أسفر عن عودة الاشتراكيين والشيوعيين إلى الحكم عبر الانتخابات، مما شكّل كارثة بالنسبة للجنرال “فرانكو” الذي سارعت الحكومة الجديدة إلى إبعاده برفقة الضباط المحسوبين على اليمين نحو جزر الخالدات المقابلة للسواحل الجنوبية للمغرب، وهناك في جزر الخالدات، راح الضباط المنفيون يخططون للانقلاب على الحكومة اليسارية، معوّلين في ذلك بالدرجة الأولى على خبرة ودهاء “فرانكو”.

 

استعان فرانكو بصديقيه “أدولف هتلر” و”بينيتو موسوليني” اللذين مكّناه من نقل جنوده بالطائرات

 

غزو إسبانيا.. التحالف مع سفاحي أوروبا

كانت مهمة “فرانكو” الأولى هي الالتحاق من جديد بجيشه الأفريقي المستقر شمال المغرب، والبالغ تعداده حوالي 30 ألف رجل. هناك استصدر قَسما من أفراد هذا الجيش بالولاء له، ومن أجل نقل جنوده إلى الضفة الشمالية للمتوسط، لم يجد فرانكو بديلا عن الاستعانة بصديقين استثنائيين، هما “أدولف هتلر” و”بينيتو موسوليني” اللذين مكّناه من الطائرات اللازمة لنقل جنوده بعدما رفضت البحرية الإسبانية الانضمام إلى الانقلاب وأغلقت مضيق جبل طارق في وجهه.

لم يكن لحكومة اليساريين جيش حقيقي، ولم تواجه الانقلاب العسكري إلا عبر مزارعين قرروا المقاومة، وهو ما كان جيش “فرانكو” يحسن إخماده عبر الرعب والتقتيل.

كانت أوامر “فرانكو” تقضي بعدم الاكتفاء باستلام السلطة بعد القضاء على المقاومة خلال اقتحام المدن، بل لا بد من ارتكاب مجزرة في حق سكانها. لكن رحلة الانقلاب السريع التي خطط لها “فرانكو” وزملاؤه تحولت إلى حرب أهلية طاحنة، بعد دخول الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين على الخط، ودعمه للمعسكر اليساري لمنع اليمينيين من استعادة الحكم.

 

الحاج عبد السلام.. الدعاية “الإسلامية” لفرانكو

بعد تنفيذه الانقلاب على الحكومة المنتخبة ديموقراطيا عام 1936، كلّف الجنرال “فرانكو” عقيدا اسمه “خوان بيغبيدير”، بمهمة الدعاية واستقطاب المغاربة للانخراط في القتال ضد الجمهوريين، ولم يجد “بيكبيدير” أفضل من الدين والعقيدة لتجنيد المقاتلين المغاربة، حيث بُنيت الدعاية الموجهة لمنطقة الشمال المغربي على تقديم الجمهوريين على أنهم ملحدين يعادون الله ويناصرون الشيوعية، باعتبارها مرادفا للكفر والإلحاد، وقد تمكن “بيغبيدير” من تقديم خصوم فرانكو على أنهم عدو مشترك للمسيحيين والمسلمين، وأهل الكتاب المؤمنين بالتوحيد.

وعزّز “فرانكو” هذا التوجه بتنظيمه رحلات للحج لمغاربة منطقة الشمال، ويحكى أنه استقبل وفد حجاج مغاربة بإشبيلية خلال عودتهم، وخطب فيهم قائلا: لقد ظهر عدو ضد الإنسانية والدين وكل المؤمنين، مسيحيين ومسلمين وكل الذين لديهم عقيدة، ويجب أن نتحد لمواجهة هذا الخطر.

ودون أن يتورّط في ذلك مباشرة، جعل “فرانكو” آلة الدعاية تروّج بين المغاربة أنه قد اعتنق الإسلام، وقام بالحج إلى الديار المقدّسة، وغيّر اسمه من فرانثيسكو إلى عبد السلام، وبات يدعى “الحاج عبد السلام”، وبالتالي لم يعد هناك من مبرر للتردد في الانضمام إلى جيشه والقيام بواجب “الجهاد”.

بل إن الآلة الدعائية كانت تتفنن في اختلاق الروايات حول الأصول الإسلامية لفرانكو وعائلته، لتجعل منه أندلسيا من أصول عربية ومغربية.

والمثير في تلك الحرب الأهلية التي دارت بين المعسكرين الإسبانيين، أنها جعلت مقاتلين عربا يواجه بعضهم البعض، حيث كان بعض اليساريين والشيوعيين العرب يلتحقون بصفوف الجيش الجمهوري ويقاتلون ضد فرانكو.

المقاتلون المغاربة يقاتلون مع فرانكو ضد “الملحدين والكفار”

 

الحرب ضد الماسونية.. “مغاربة في خدمة فرانكو”

يلاحظ كتاب “مغاربة في خدمة فرانكو” لمؤلفته الإسبانية “ماريا روسا دي مادارياغا”، كيف أن قادة جيش “فرانكو” كانوا يوزعون على الجنود المغاربة والإسبان على حد سواء ألبسة عسكرية موشحة بالصلبان التي تبدو بارزة على كتفي الجندي، وهو ما كان يتمّ باستغلال جهل الجنود المغاربة الذين كان أغلبهم أمّيا، حيث يلبسون هذه الأزياء العسكرية دون التدقيق في تفاصيلها.

إضافة إلى صورة مريم العذراء التي كانت تزيّن الأوراق التي يكتب عليها الجنود المغاربة في جيش “فرانكو” رسائلهم إلى ذويهم في المغرب، حيث كانت تلك الأوراق تستبدل بأوراق عادية بمجرد وصولها إلى إدارة الشؤون الأهلية، حتى لا ينكشف أمرها بين أهاليهم.

كما روّج “الفرانكاويون” لفكرة الذهاب لإسبانيا بفكرة قتل اليهود، وذلك للقضاء على “اليهود الماسونيين الماركسيين”، وقليل هم المغاربة الذين كانوا يفهمون معنى الماسونية والماركسية في ذلك الوقت، وبعبارة موجزة كان هؤلاء يسمون “الكفار”.

وتضيف الكاتبة الإسبانية أن المغاربة الذين انضووا تحت لواء جيش “فرانكو”، تحولوا من مسلمين أعداء للمسيحيين الإسبان -الذين يجب أن يثأروا منهم عن سنوات الوجود الإسلامي في الأندلس- إلى إخوة يحملون القيم نفسها التي يحملها المسيحيون، حيث اجتهدت التعبئة الفرانكاوية في إعطاء صورة جديدة للمغربي بأنه أخ للمسيحي، وكلّ ذلك من أجل محاربة الشيوعيين الذين لا إله لهم بحسب أنصار الفرانكاوية.

كما عمد “فرانكو” إلى التقرب من المغاربة عن طريق بناء مراكز للدراسات الإسلامية ومأوى للمسنّين، وبناء مساجد جديدة في مدن المنطقة الشمالية.

لقد استعمل الإسبان جميع وسائل الإقناع الممكنة لتعبئة المقاتلين المغاربة، بمن فيهم رجال الدين المحليين وشيوخ الزوايا الذين قاموا بالدعاية للحرب إلى جانب “فرانكو”، باعتبارها مواجهة ضد الكفار والملحدين.

الفقر والحاجة كانا أكبر عاملين لانخراط المغاربة في الحرب الأهلية في إسبانيا

 

الفقر والجفاف.. الكلمات المفتاحية

تم نقل المقاتلين المغاربة بطرق مهينة، فتم شحن بعضهم في سفن مخصصة أصلا لنقل البهائم، ولم تكن عملية النقل تراعي الظروف المناخية وهيجان البحر، إذ يذكر بعض هؤلاء المقاتلين كيف راحوا يتخبطون في قيئهم من شدة الأمواج طيلة فترة الإبحار.

بعض ممن عاشوا تلك الفترة وما زالوا على قيد الحياة يحكون كيف انتشر خبر اندلاع الحرب الأهلية في إسبانيا، في مجموع المنطقة الشمالية من المغرب، التي كانت تخضع للحماية الإسبانية، على خلاف وسط المغرب الذي كان تحت الحماية الفرنسية.

والكلمة المفتاحية في تفسير انخراط المغاربة الواسع في تلك الحرب، هي الفقر والحرمان اللذان سادا البلاد في تلك الفترة، حيث كان الالتحاق بالجيش الإسباني مصدر رزق شديد الإغراء رغم ما ينطوي عليه من مغامرة.

يقول المؤرخ محمد أخريف “هناك عوامل عديدة ساهمت في مشاركة المغاربة في الحرب، منها تعاون السلطة المعروفة بـ”المخزن” المغربي الخاضع لإسبانيا وقتها، كما أن هناك دور الزوايا أيضا. وهناك العامل الاقتصادي من خلال الوضعية التي كانت تعيشها المنطقة منذ 1935، حيث توالت سنوات الجفاف والمجاعات والأمراض، إضافة إلى الجانب الفكري والديني، فقد تم بث أفكار بأن الذين سيذهبون للقتال سيواجهون شيوعيين غير مؤمنين بالله وبالتالي سيكونون في جهاد”.

تصوير الجنود المغاربة بالوحوش لتخويف سكان مدريد

 

القتال من أجل الطعام

أكثر ما كان يحتاجه الأهالي المغاربة حينها هو الطعام، فتم إيهامهم بأن رحلتهم القتالية لن تستغرق أكثر من بضعة أسابيع، ومُنحت لهم أجور شهرين مقدما، مع أربعة كيلوغرامات من السكر وقنينتي زيت.

وبالإضافة إلى ترك هذه المؤونة للأسر، كان الإسبان يوهمون المقاتلين بإمكانية استقرارهم في إسبانيا بعد انتهاء الحرب، والحصول على قطعة أرض هناك بهدف استغلالها. أما من رفض الذهاب، فكان يسحب بالقوة من حضن أسرته.

سليمان بتماكي هو أحد هؤلاء المقاتلين المغاربة الذين شاركوا في هجوم “فرانكو” ضد مواطنيه الإسبان، عندما التقته وكالة أنباء “رويترز” وسألته عن تلك المرحلة؛ ابتسم وهو يتذكر الرعب الذي بثه “فرانكو” في قلوب القرويين الإسبان، وقال إنه يتذكر وهو في الثامنة والتسعين من عمره كيف كان الأطفال والنساء والمسنون يفرون حين يسمعونه هو وزملاءه يكبرون ويبسملون وهم يهاجمون ويدمرون قراهم.

يقول بتماكي بفخر: لم نكن نبقي على شيء، لا إنسان ولا أي شيء. كنا نقتلع كل شيء ونقتل كل من يصادفنا.

جنّد فرانكو أعداءه المغاربة جنودا يدافعون عن إسبانيا

 

تسخير المقاتلين المغاربة.. ممارسة قديمة

على العكس مما يمكن أن يتبادر إلى الأذهان، فإن تسخير إسبانيا للمقاتلين المغاربة في حروبها الخاصة لم يبدأ مع الحرب الأهلية منتصف عقد الثلاثينيات، بل إن هذه الممارسة تعتبر تقليدا راسخا في السلوك السياسي الإسباني، وتعود إلى عهد الوجود الإسلامي في الأندلس.

ومما توثقه المصادر التاريخية، أن ملوك قشتالة -النواة التاريخية لإسبانيا الحالية- اتخذوا في القرن الـ15 الميلادي حراسا من المورسكيين وهم مسلمي شبه الجزيرة الإيبيرية، وكان أفراد هذه الحراسة الخاصة بالملوك يتلقون رواتب مجزية، مما حفزهم على الاستقرار نهائيا في قشتالة واعتناق الدين المسيحي.

ومن النماذج الأخرى للمسلمين الذين تم توظيفهم كمقاتلين مرتزقة لصالح الإسبان ما يعرف بـ”الوهرانيين” الذين كانوا يتولون قتال إخوتهم من القبائل المتاخمة لتلمسان الجزائرية التي كانت تقاوم الاحتلال الإسباني في بعض الثغور الساحلية، وكان هؤلاء المقاتلون يلقبون بـ”لوس موغاتاسيس”، والتي تعني بالإسبانية الخونة الذين تم تجنيدهم وتعميدهم.

نوع مماثل لـ”الوهرانيين” توثقه المصادر التاريخية بالمغرب وتحديدا في محيط مدينة مليلية التي احتلها الإسبان في القرن الـ15 الميلادي، الـ”موهاتاسيس” وهي فرق مسلحة من السكان المحليين يتلقون السلاح والرواتب من إسبانيا ويقاتلون إخوانهم الذين يحاولون تحرير المدينة.

وهناك من يرجع ظاهرة تجنيد أهالي شمال أفريقيا إلى عهد الإمبراطورية الرومانية التي اعتمدت عليهم في حروبها التوسعية، كما اعتمد العرب على السكان الأمازيغ للمنطقة في حروبهم بشبه الجزيرة الإيبيرية.

كما قامت الدول الموقعة على بنود مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 الذي يعتبر المحطة الحاسمة في تقرير مصير المنطقة المغاربية في الموجة الاستعمارية، بانتداب كل من إسبانيا وفرنسا لمراقبة الاتفاقيات الموقعة التي من بين ما أكدت عليه تجنيد فرق من “البوليس الأهلي”.

لكن الظاهرة ستبرز بقوة وبوضوح منتصف القرن الـ19، حين اندلعت حروب كبرى بين المغرب وإسبانيا إثر تنامي مطامعها في الأراضي المغربية، حيث قام الإسبان بتأسيس ما سمّوه بـ”المناوشون المغاربة من الريف”، وهي وحدات عسكرية من مقاتلين محليين دفعت بهم إسبانيا لمواجهة الجيوش المغربية التي كانت تدافع عن مدينة تطوان الاستراتيجية شمال المغرب، وكان دور هؤلاء يتمثل أساسا في تسهيل مهام الجيش الإسباني عبر التجسس والإمداد بالمعلومات والإرشاد الجغرافي.

مواقع دفن جماعي لمقاتلين مغاربة يفوق تعدادها الألفين في جميع أنحاء إسبانيا

 

أكبر المدافن الجماعية في أوروبا.. ذكريات أليمة

ما زالت بعض بقايا الثكنات الإسبانية في منطقة “الريف” المغربية شاهدة على تجميع مزارعي المنطقة وغسيل أدمغتهم، قائلين لهم “إذا انتصر الجمهوريون فسيجتاحون المغرب ويحرقون المساجد ويغتصبون النساء ويعمّدون الأطفال كي يعتنقوا المسيحية”.

كان هدف إسبانيا تجميع جميع ذكور منطقة الشمال المغربية، حيث تم اصطحاب حتى الأطفال القصّر، بعد تزييف تواريخ ميلادهم حتى يصبحوا بالغين على الورق، وكل هؤلاء كانوا ينقلون إلى الصفوف الأمامية لجبهات القتال.

بقايا جثامين وعظام هؤلاء المغاربة تعتبر من بين ما تضمه مواقع دفن جماعي يفوق تعدادها الألفين في جميع أنحاء إسبانيا، حيث تقول منظمة العفو الدولية إن هذه الدولة الأوروبية تضم أكبر عدد من هذه القبور في العالم، بعد دولة كمبوديا.

وهذا مجرّد جزء من إرث الجنرال “فرانثيسكو فرانكو” الذي بسط سيطرته على إسبانيا عام 1939، بعد نحو أربع سنوات من الحرب الأهلية.

بوستر فيلم “لامورا”

 

المور حطب الحرب.. التنكر المزدوج

كان مصير المقاتلين المغاربة هو الإهانة في جميع الحالات، فحتى في الأماكن واللحظات التي كانوا يصنعون فيها الانتصارات، كان الإسبان يطلقون عليهم لقب “المور”، بدل تسميتهم بالمغاربة أو المسلمين. بل حتى إن بعض القبور النادرة التي تضمن جثامين بعضهم كتلك الواقعة في منطقة “أستوريا”، جرى اتخاذ قرار تحويلها إلى ملاعب للغولف، لتندثر الذكرى للأبد، كما لو أن إسبانيا ترغب في التخلص من كل ما يذكّرها بأفضال المغاربة المسلمين عليها.

حتى أن المعارك التي قاموا بحسمها تنسب للجيش الاسباني، خاصة أن جل أنحاء إسبانيا تحمل آثار الحروب القديمة بين المسلمين والمسيحيين، ولم يكن بالإمكان الاعتراف بعودة الانتصار الإسلامي على المسيحيين فوق أرض أوروبية.

ويعاني هؤلاء المقاتلون المغاربة سواء من قضى نحبه منهم أم من بقي منهم حيا من تنكّر مزدوج من الجانبين المغربي والإسباني، حيث يتم تغييبهم عن سجلات التاريخ. هذا التنكّر بدأ مع “فرانكو” نفسه، فرغم أن جيشه انطلق من أرض مسلمة وبمقاتلين مسلمين، فإنه اختار الصليب المسيحي رمزا لجيشه.

وإذا كان فيلم “لامورا” قد وظّف قصة حبّ درامية كي يبني حبكة فنية تبرز واحدا من الجوانب الإنسانية لهذه المأساة، فإن أجساد الآلاف من المغاربة، كانت حطبا في حرب دموية أعلنها هذا الجنرال الإسباني على جزء من شعب بلاده، منقلبا على تجربة ديموقراطية ناشئة، ومؤسسا لواحد من أطول عهود الديكتاتورية التي عرفتها أوروبا في العصر الحديث، حيث استمرت القبضة الحديدية التي فرضها على إسبانيا مدة أربعة عقود.