موسى كاظم الحسيني.. شيخ القضية الفلسطينية وقائدها الروحي

“إن الأمة العربية في فلسطين قد ابتليت بمصيبة لم تصب بمثلها أي أمة أخرى في العالم، إنها مهددة باضمحلال كيانها القومي وإقامة شعب آخر على أنقاضها، وهي تعاني أشد الآلام جراء هذه السياسة الغاشمة التي هي في حقيقتها سياسة إبادة شعب لإسكان شعب آخر محله”.

بهذه الكلمات خاطب شيخ المناضلين موسى كاظم الحسيني اللجنة العربية التنفيذية في القدس وهو يرى وعد بلفور يترجم على أرض الواقع، وجماعات المهاجرين اليهود تغير ملامح الديموغرافيا على أرض فلسطين. وهي ذات الكلمات التي افتتحت بها الجزيرة الوثائقية فيلما عن الشيخ الشهيد لتعرضه تحت عنوان “موسى كاظم الحسيني- شيخ المناضلين”.

وعد بلفور.. خيبة أمل الشعب الفلسطيني

“إن حكمكم الظالم أيها الإنجليز وسياستكم الخرقاء هي التي دفعتني إلى قرار الخروج في المظاهرات، لقد أصابت شعبنا خيبة أمل كبرى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، لا سيما وأن بريطانيا بادرت إلى احتضان الصهيونية، وتمثل ذلك بإصدار وعد بلفور الذي يهدف إلى إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، الأمر الذي أغضب شعبنا وزاد مخاوفه في خسارة بلاده، لقد رأى الفلسطينيون في الانتداب تحالفا بريطانيا صهيونيا بشعا، فاعتزموا الدفاع عن أرضهم ومنع المخطط البريطاني بأي طريقة”.

ينتسب موسى كاظم باشا الحسيني إلى أسرة مقدسية فلسطينية مرموقة، ويمكن تعريفه بأنه الأب الفعلي والأب الروحي للحركة الوطنية الفلسطينية، وهو شيخ القضية الفلسطينية، وكان يدرك أن الشعب الفلسطيني ليست له القوة المادية الكافية لمواجهة قوات الانتداب البريطاني، فكان لا بد من اللجوء إلى أسلوب آخر يتمثل في التفاهم والسياسة.

لم يكن المجتمع الفلسطيني مهيأ لمواجهة حركة منظمة تمتلك آنذاك دهاقنة السياسة والإعلام والاقتصاد كالحركة الصهيونية، كما أن المجتمع الفلسطيني كان حديث عهد بالاستقلال، فما كاد يخرج من سلطة الحكم التركي العثماني حتى باغتته بريطانيا قبل أن يتنفس هواء الحرية.

بلدية القدس.. خطر الصهاينة الداهم

بعد ثلاث سنوات من الاحتلال الإنجليزي لفلسطين، وتحديدا في العام 1920 قررت بريطانيا فرض الإدارة المدنية على فلسطين، وهناك تنبه الفلسطينيون إلى حجم الكارثة التي تحل بهم أمام أعينهم، خصوصا عندما كانوا يرون قطعان المهاجرين الصهاينة وهم يدخلون أرض فلسطين، فصاروا يشكلون الكيانات السياسية وخلايا المقاومة لدرء هذا الخطر الداهم.

يومها كان موسى كاظم رئيسا لبلدية القدس، وقد أخذ على عاتقه قيادة التحركات الفلسطينية من أجل إفشال مخططات الإنجليز في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. كان الرجل لا ينزع إلى العنف والمقاومة المسلحة، وكان واضحا شفافا صريحا مع شعبه في ذلك، وكان يحب أن يستثمر علاقاته الجيدة مع حكومة الانتداب في سبيل ثنيها عن توجهاتها المحابية لليهود.

كان يريد أن يوصل فكرة أنه لا يجوز توطين شعب على حساب شعب موجود أصلا على الأرض، ويوضح للإنجليز مدى الدمار الذي سيحل بالشعب الفلسطيني إذا سمحت بريطانيا للصهاينة بالاستيطان على حساب صاحب الأرض.

في بيت يمتد نسبه إلى نبي أمة الإسلام نشأ عبد القادر الحسيني الذي ورث النضال عن أبيه موسى الحسيني

أثناء رئاسته لبلدية القدس رفض الحسيني رفضا قاطعا استخدام اللغة العبرية في الأوراق الرسمية لبلدية القدس، واستمر رئيسا للبلدية حتى عام 1920 عندما أقالته سلطات الانتداب البريطاني، بحجة أنه حرّض على احتجاجات “النبي موسى” في نيسان/أبريل من العام نفسه، ولعدم ارتياحها لتوجهاته الوطنية والقومية. لكن الحسيني لم يكن آسفا على فقْد المنصب، في سبيل خدمة وطنه وشعبه.

كفاح آل الحسيني.. هذا الشبل من ذاك الأسد

بدأ الفلسطينيون بتنظيم أنفسهم فتشكلت الجمعيات والمؤتمرات، وتوجه أول وفد فلسطيني إلى لندن عام 1921 برئاسة موسى كاظم الحسيني، وقد طالب بوقف تنفيذ وعد بلفور فورا محاولا إقناع الحكومة البريطانية بتعديل سياستها الاستعمارية، لكن المفاوضات فشلت، فأرسل الحسيني إلى اللجنة التنفيذية العربية في القدس برقية جاء فيها: “إن القضية العربية في فلسطين لن تحل حلا عادلا من قبل الحكومة الإنجليزية التي يؤثر عليها الصهيونيون”.

بعدها تأسس المؤتمر العربي الفلسطيني الذي أكد على أن فلسطين جزء لا يتجزأ من بلاد الشام، وعلى العرب الوقوف ضد السياسة البريطانية المنحازة للصهاينة منذ وعد بلفور، ومرورا بالسياسات العملية على الأرض التي تسهل الهجرة اليهودية، وتمهد لإقامة الدولة القومية اليهودية على أنقاض الحق العربي.

الباشا موسى كاظم الحسيني.. ابن القدس وزعيم فلسطين زمن الانتداب

توجه الشباب الفلسطيني إلى منزل الحسيني يطلبون منه قيادة فعلية للحراك الفلسطيني ضد الهجرة اليهودية وضد التسهيلات البريطانية لشراء أراضي العرب والاستيلاء عليها وبيعها للمنظمات اليهودية، وكان الشيخ موسى كاظم محط إجماع الفلسطينيين والقوميين العرب على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم.

علم بهذه التحركات المندوب السامي البريطاني “هربرت صمويل” اليهودي، فأرسل وفدا إلى منزل الحسيني ليثنيه عن عزمه، وليحذره من خطورة تحركاته المناوئة للإنجليز، فلقيهم ولده عبد القادر الذي قال لهم كلمته المشهورة: والله لئن قبل والدي بمشورتكم لأكونن أول الخارجين عليه.

نعم ليهود فلسطين.. لا لصهاينة الآفاق

لم يقبل موسى كاظم أي مبادرة تنتقص من حقوق الفلسطينيين على أرضهم، على أنه لم يعترض على اليهود الذين كانوا يسكنون أرض فلسطين قبل الانتداب البريطاني، وكان يوجه كل معارضته لليهود الصهاينة المهاجرين من أوروبا وأمريكا.

كان أسلوبه سلميا لا يؤمن بالعنف، وكان يستوعب قدرات الشعب الفلسطيني المادية في مواجهة بريطانيا العظمى، فكان يلجأ للحوار والتفاهمات والمبادرات السياسية، وفي آخر عمره صار يلجأ إلى الاحتجاجات المدنية السلمية والتظاهرات كسبيل لإيصال فكرة الرفض والغضب الفلسطيني.

ضاق الاحتلال الإنجليزي ذرعا بهذه الاحتجاجات وواجهها بالقوة المفرطة، مما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى فلسطينيين في مناسبات عديدة، وفتح الاحتلال سجونه على مصاريعها لاستقبال المعتقلين الفلسطينيين، وأصدر بحقهم الأحكام الجائرة التي وصلت إلى الإعدام في أكثر من مناسبة.

“فلسطين كلها تنتظرك”.. مظاهرة يافا الكبرى

بلغ الصراع أشده في أوائل الثلاثينيات يوم استعد الفلسطينيون لإطلاق ثورتهم الكبرى، وكان عبد القادر الحسيني ابن الشيخ موسى كاظم أحد المحركين المفصليين لهذه الثورة، وكان يحث والده المسنّ على الانخراط أكثر في الاحتجاجات والمظاهرات، حتى جاء أحد أيام أكتوبر عام 1933 حين اندلعت مظاهرة كبيرة في يافا.

احتجاجات يافا السلمية سنة 1933 التي قادها موسى الحسيني حولتها الآلة البريطانية إلى مجزرة

كان الشيخ موسى كاظم يومها في يافا، وكان يعاني أمراض الشيخوخة فأراد أن يعتذر عن الخروج، فذهب إليه ابنه عبد القادر يستحثه على الخروج، ويقول له: فلسطين كلها تنتظرك، وأبناؤها يريدونك قائدا للمسيرة فلا تخذلهم، لا عذر لك اليوم يا والدي فالوطن يناديك، يا والدي لقد بلغت من العمر ما يشتهيه الكثيرون، فاختم هذا العمر الطويل الجليل بقيادة أمتك في ثورتها ضد الظلم، واخرج على قوانين الاستعمار، ويا والدي: إن لم يمت مثلك في سبيل وطنه فمن ذا الذي يموت.

رحيل شيخ المناضلين.. إرث عابر للأجيال

خرج موسى كاظم في هذه المظاهرة التي تصدى لها جنود الاحتلال بكل عنف ووحشية، فانهالوا على الشيخ الثمانيني بهراواتهم وأعقاب بنادقهم حتى أوقعوه أرضا، ولم تشفع له مكانته ولا سنّه أمام همجية وقسوة جنود الاحتلال، فعاد إلى بيته جريحا يعاني من إصابات بليغة، ولم يمكث بعدها سوى أربعة أشهر، فقضى بعدها شهيدا في مارس/آذار من عام 1934، وخرجت فلسطين كلها تودعه، ودفن بجوار المسجد الأقصى.

كانت وصيته لعبد القادر وهو على فراش الموت: “يا بني، فلسطين أمانة في عنقك” وكررها ثلاثا. ولدى سماع خبر وفاته عمَّ الحزن أرجاء البلاد على موت الزعيم الفلسطيني الكبير وعلى فقد هذه القامة الفلسطينية الباسقة، وكتبت فيه المراثي الكثيرة، حتى أن شاعر المهجر إيليا أبي ماضي رثاه من أمريكا بقصيدة مؤثرة، قال في بعض أبياتها: “إن المصائب بالكبار كبارُ”.

حشود غفيرة في وداع الأب المجاهد موسى كاظم الحسيني في القدس

ولقد أثمر جهاد الشيخ وتفانيه في خدمة قضيته الأولى فلسطين أن انتقل هذا الإرث الوطني إلى ولده عبد القادر من بعده، فأبلى بلاء عسكرياً مشهودا في ثورة 1936، وقاد جيش الجهاد المقدس في 1948، واستشهد على أسوار القدس في معركة القسطل، ثم حمل ملف القدس من بعده ابنه فيصل الحسيني.

رفع الشيخ شعار “وطن واحد لأمة واحدة” ليشير إلى عروبة فلسطين وعدم انسلاخها عن الوطن العربي الكبير، وإلى وحدة الأمة العربية التي تلتف حول القدس والأقصى كمحور لتوحُّدها، وكان ينبذ الطائفية والإقليمية والفئوية في الأمة العربية الواحدة، وحاز بذلك على قلوب كل العرب على اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم. رحم الله شيخ المناضلين موسى كاظم الحسيني.