“ميّل يا غْزيّل”.. حكاية كهل مسيحي يحمي إرث الأجداد

مهدي المبروك

هنا لبنان حيث الجبال الشاهقة التي يزينها ثلج الشتاء بالثوب الأبيض، تلك بلادٌ حباها الله بطبيعة خلابة؛ أنهارٌ ووديانٌ بحرٌ وسهلٌ، اختلافٌ في ألوان الزهور وروائحها الجميلة، أنواع من فواكه شتى.

لم يقتصر ذاك التنوع في لبنان على الطبيعة فحسب بل شمل الإنسان الذي تعددت أديانه وتنوعت مذاهبه لكن هذا التنوع الديني جعلها بلداً تكتوي بلهيب الحروب الأهلية التي أزهقت العديد من الأرواح، فأذهبت حرارة الدماء النازفة جمال الطبيعة الخلابة مدةً طويلةً من الزمن.

 

بعض أتباع المذاهب المسيحية يخشون من إقصاء المسلمين لهم من ديارهم ومناطقهم، لذلك فإنهم يشعرون بحساسية عند بيع أي أرض لغريب أو لشخص من دين آخر وكأنّ ذاك البيع يمثل المعول الذي يُهدم به الوجود المسيحي، فإذا بيعت أرض ما ظهرت المشاكل وانتشرت الخلافات كانتشار النار بالهشيم.

في منطقة الشمبوق من محافظة عكار شمال لبنان جرت أحداث هذا الفيلم الذي تبثه الجزيرة الوثائقية بعنوان “ميّل يا غزيّل”، ويسلط الضوء على حياة المزارع المسيحي “هيكل” وعلاقته بالأرض وبجيرانه من مسيحيين ومسلمين، مبيّنا أعماله الاقتصادية التي تمثلت في تأسيسه مطعما ومزرعة.

ينحدر هيكل من أسرة مسيحية من الطائفة المارونية، أسماه والداه هيكل لأنه ولد في شهر شباط أي بعد دخول المسيح إلى الهيكل، وله من الأبناء أربعة هم: دانة وفؤاد وهبة وتومس، زوجته بربرة تركته لأسباب تتعلق بقسوة الحياة فلم تتحمل تلك الظروف المحيطة به.

“هيكل الشمبوق” مزارع وبنّى يعيش في قرية عكّار في لبنان

 

بيت الحجارة.. دبكة فلاح يعمل بيديه

تطوف كاميرا الفيلم حول حدود قريته مصورة جبل أكروم وقلعة الحصن وامتداد الأشجار الفاصلة بين قريته والقرى الأخرى ومكان القطار، ثم تظهر الحدود السورية جلية واضحة من مكان قريب.

يؤدي الستيني هيكل احتياجاته بيديه فهو يستخدم المنشار الكهربائي لقص شجرة لم يعد لها نفع يريد الاستفادة من أخشابها في التدفئة، ويدخل إلى حظيرة الأغنام يتكلم عن تهريب الضأن من سوريا وكيف أثر ذلك على انخفاض أسعارها؟ ثم ما يلبث أن يبيعها ويربح ربحا وفيرا لكنه يخشى من تكرار تجربة شراء الماشية مجدداً خوفاً من الخسارة فيؤجل ذلك لما بعد موسم الأعياد.

يفتخر بأن عائلته من الفلاحين ثم ينتقد طائفة الموارنة الذين تركوا مهنة الزراعة وانتقلوا للعمل في المناصب السياسية، يستقبل ضيفه حسن سائق الشاحنة الذي يشتكي من وعورة الطريق وكثرة ما يُخرب الإطارات، ثم يتهم حسن الفتاة العاملة مع هيكل في المطعم مازحا:

حسن: لماذا تضعين المسامير على الطرقات لقد أتلفت إطارات الشاحنة والمركبات.

ترد رويدا ضاحكة مازحة: أنا أرمي المسامير، وهيكل يقنص بالرصاص المارة.

رويدا وأختها ميساء تعيشان أجواء الدبكات على إيقاع الموسيقى اللبنانية والأغنية المشهورة “ميَّل يا غزيَّل”

 

أجواء عائلية يظهر فيها من التسامح بين الأديان تعيشها رويدا المسلمة مع هيكل المسيحي التي تسكن بيته وتساعده في أعمال المطعم، رأت في وجودها معه هروبا من ضغوطاتها الاجتماعية، معتبرة إياه كأب لها، ومن حين لآخر تساعدها أختها ميساء في أعمال المطعم حيث أجواء الدبكات على إيقاع الموسيقى اللبنانية والأغنية المشهورة “ميّل يا غزيّل”.

يبني هيكل بيته من الحجارة في منطقة الجرد دون كلل أو ملل، يرفعها على يديه، ثم تزيل العاصفة الثلجية الزفتة التي سكبها فوق سقف المنزل لحمايته من تسريب المياه إلى الداخل، ثم يدعو صاحب الجرافة لإزالة الثلوج المتراكمة من أمام بيته كالجبال، وعند إزالتها يكسر صاحب الجرافة الأنابيب الموصلة للمياه إلى بيته، لكن هيكل يصلحها بنفسه.

هيكل وصديقه أنطوان يشاهدان أشعة الشمس المستلقية على سيقان الأشجار في منطقة فنيدق

 

الحفاظ على الغابة.. ولو كان بهم خصاصة

ينتقل مخرج الفيلم بنا إلى مكان آخر؛ منطقة فنيدق شمال لبنان، هناك تقع غابة العذر التي تضم أضخم أنواع شجر السنديان يتجول هيكل وصديقه أنطوان، ليشاهدا أشعة الشمس المستلقية على سيقان الأشجار صانعة من ذلك مشهداً جميلاً، يتجولان في أرجاء تلك الغابة التي يحب أنطوان أن يأتي إليها وقت الغروب ليستمتع بجمال الطبيعة.

أهل الفنيدق مزارعون فقراء حافظوا على بقاء تلك الغابة، فلم يسمحوا بتقطيع أغصان أشجارها الضخمة وبيع الحطب للتجار على الرغم من فاقتهم الشديدة وحاجتهم إلى المال.

يأمل أنطوان أن تصبح الغابة الممتدة محمية طبيعية

 

محمية طبيعية.. حلم في الغابة

يريد أنطوان أن تصبح الغابة الممتدة من منطقة القبيات حتى بيت جعفر محمية طبيعية يقول أنطوان: نريد أن نبني اقتصادا يعتمد على الطبيعة لحماية المواطن في عكار من الفقر الاجتماعي والمعنوي.

من أجل هذا الهدف يحاول بناء أماكن سياحية على امتداد غابات عودين إلى غابات عكار العتيقة إلى كرم شباط إلى القموعة إلى غابات فنيدق حتى تصل وادي جهنم لكي يفتخر العكاري بانتمائه إلى عكار ويثبت على أرضه ولا يتركها مهاجراً تحت ضغط الفقر، لكن هذا الحلم تبخر بسبب حوادث أمنية منعته من الاستمرار.

خارطة ملونة تشير إلى طبيعة أملاك أهالي البلدة المسيحية ذات اللون الزهري وكيف تم بيع الأراضي ذات اللون الأصفر للمسلمين

 

العيون الساهرة.. غرباء في غابتنا

لحماية منطقة القبيات من عمليات السرقة والاغتصاب يسهر مجموعة من الشبان في مقر خاص لهم، فهم يرون أن الشرطة لا يمكنها متابعة كافة التهديدات القادمة من جماعة داعش والنصرة مما وراء الحدود السورية. كما أن الأخطار التي تحيط بأهل القبيات شديدة؛ بسبب وجود الغرباء الذين يشترون الأرض ويرفعون البنيان ويشاركون أهل القبيات تفاصيل الحياة ومشاكلها فيقوم هؤلاء الشبان بتبليغ الشرطة في حال اشتباههم بأي شيء يهدد حياة الناس أو أملاكهم.

يعرضون خارطة ملونة تشير إلى طبيعة المنطقة، فأملاك أهالي البلدة يرمز لها باللون الزهري، وأما اللون الأصفر فيدل على الأراضي التي تم بيعها، بينما اللون الأخضر فيشير إلى أملاك الجمهورية اللبنانية.

يشعر المسيحيون بخطر على وجودهم بعد بيع مليون متر للمسلمين، لذلك لن يُسمح مجددا ببيع أي شيء من الأرض تحت أي مسمى، سواء أكان ذلك تحت مسمى العلمانية أم الانفتاح أم غيره من المسميات الحديثة.

من ضحايا الدفاع عن الأرض والد زياد الذي قُتل في منطقة تل الجبانة عام 1976 يقول زياد: لا أرى أنَّ الحرب الأهلية قد توقفت والدليل على ذلك ظهور 5000 مسلح دفعةً واحدةً في المنطقة بعد اشتباك بسيط مع القوات السورية.

حسن الناظر مسلم سني اشترى أرضاً للمسيحيين تقع على مفرق مار جرجس مما أثار النعرات الطائفية

 

مفرق مار جرجس.. رائحة النعرات الطائفية

تسريب الأرض إلى المسلمين هو القلق الذي يزعج سكان القبيات، لذلك أشعل شراء حسن الناظر -مسلم سني- أرضاً للمسيحيين تقع على مفرق مار جرجس؛ النعرات الطائفية، وبعد أن حصل الناظر على كافة التراخيص اللازمة للبناء خرج شبان مسيحيون ومنعوه من البدء في العمل.

يقول حسن الناظر: نشأت في القبيات منذ عام 1968، واشتريت هذه الأرض من أصحابها، والآن بعد منعي من البناء أين سأسكن أبنائي السبعة.

لم يشأ حسن أن يخوض غمار حرب طائفية فرضي بالحل القضائي الذي حكم باستبدال أرضه بأرض أخرى في منطقة عكار القديمة، ودفع الفارق المالي المقابل لقيمة الأرض هناك.

على الرغم من هذه الحادثة فإن أنطوان وهيكل ما زالا يتذكران تسامح عائلة الناظر مع المسيحيين وحمايتها لهم ولأديرتهم، يقول أنطوان: كانوا يحلون مشاكلنا مع الفلسطينيين، ويحضرون لنا الأدوية أثناء الحصار، ويبذلون جهودا لإعادة المختطفين من المسيحيين.

حمل هيكل السلاح أثناء الحرب الأهلية إلا أنه لم يسجل على نفسه قتل أحد

 

بنادق الصيد.. المحاربون القدماء

يتحدث هيكل عن علاقته بالجيش اللبناني فقد خدم فيه عام 1974، ويتكلم عن خبرته القتالية، إذ أنه درَّب شباب التنظيم اللبناني على السلاح قبل أن يقضي حزب الكتائب على التنظيم في عام 1967.

هيكل رجل مسالم يحب الحياة للناس، فعلى الرغم من حمله للسلاح أثناء الحرب الأهلية فإنه لم يسجل على نفسه قتل أحد، تتفقد مخرجة الفيلم البنادق الموجودة في بيته وتسأله عنها فيقول: “هي بنادق صيد فحسب لا تصلح للقتال”، ويظهر في الفيلم وهو يضع الذخيرة لتلك البنادق.

لم تعد لدى هيكل رغبة في الحرب ولا في تجدد دوران رحاها، بل يعتبر أن نتيجة كل تلك الحروب هي صفر، وهو الآن مزارع يهتم بالأرض ويريد للمسيحية أن تبقى على الأرض اللبنانية لا يضرها أي أذى، ولا يجبرها أحد على التخلي عن أرض الآباء والأجداد.

هيكل يتجول في مزرعة التفاح

 

“أشد مصيبة بعد هروب زوجتي”.. هدم بأمر قضائي

يقف هيكل على حدود أرض اشتراها ليقيم عليها مزرعة للتفاح، أسس لهذا الأمر شركة مضاربة أسماها “الشمبوق” برأس مال قيمته 100 ألف دولار، ثم سرعان ما توقف العمل بسبب توقف الدعم المالي لذاك المشروع.

لم يمنع توقف الدعم المالي مشروع هيكل من الاستمرار بل بنى عام 1991 مزرعةً للدجاج والأبقار، لكن تحديا جديدا وقف في وجهه تمثل في ادعاء عائلة أنطوان أن الأرض التي بنى عليها هيكل مشروعه قد اشتراها من شخص لا يملكها، ثم بعد ذلك صدر حكم قضائي بهدمها عام 2013.

بعد فوات الأوان حصل هيكل على حكم نقض للقرار القضائي بهدم المزرعة لكنه جاء متأخرا فالمزرعة قد هدمت، لحظتها شعر هيكل بالغضب واتصل على المحامي ليبلغه بالأمر، ثم كاد أن يأذن لشيطان الغضب في داخله أن يخرج ليدمر كل شيء لكن عقله منعه من القيام بأي عمل جنوني تجاه عائلة أنطوان.

اقتادت الشرطة هيكل إلى مقرها، وهناك طالب بإعادة أمواله التي خسرها في البناء، دون أن يلقي أحدٌ له بالاً. يقول هيكل: “هذه أشد مصيبة عليّ بعد هروب زوجتي”.

وبعد هلاك المزرعة نقل هيكل أبقاره إلى منطقة القبيات وعمل بتجارة بيع الحليب، ثم بنى بيتا من قصب السكر عملت فيه رويدا كبائعة للمأكولات.

حين بيعت أرض مسيحية لأحد المسلمين دقت أجراس الكنائس غضبا واحتجاجا

 

العتبة القديمة.. الكنيسة تدق أجراسها حزنا

يرفض المسيحيون بيع أي جزء من أرضهم للمسلمين، وعندما باع المسيحي شاهين نادر مساحة 50 ألف متر من الأرض لخالد الأسعد دقت الكنائس أجراسها حزناً على ذلك البيع، ولم يكتف المسيحيون بدق أجراس الكنائس، بل أثمرت اتصالاتهم في عودة الأرض مجددا إلى أكنافهم.

ينتقل هيكل للحديث عن مطالبته لوزير الأشغال العامة غازي زعيتر بمبلغ قيمته 20 مليون ليرة لتعبيد الشارع القريب منه، لكن مطالبته باءت بالفشل، وبالمقابل يقول هيكل أنَّ النائب حنيش أنفق مبلغ قيمته 720 مليون ليرة ليشق الطريق نحو أرضه الخاصة.

يزور هيكل كنيسة لم يستطع تحديد الفترة الزمنية التي تعود إليها هل هي البيزنطية؟ أم الصليبية؟ يتأمل في حجارتها العتيقة المتآكلة ينظر إلى بوابتها الملقاة جانبا، يرى أن المسيحيين مثل عتبة قديمة؛ لأنهم لن يزولوا من المكان مهما حدث من أحداث وإن أصابهم الوهن فإنه لن يتسلل إليهم الفناء.

يلتقي هيكل مع رفقائه أنطوان وجوزيف فيتحدثون عن ضرورة دعم المواطن المسيحي ليثبت على الأرض، يقول المؤرخ جوزيف: مصير المسيحية في القبيات إلى الزوال، فكثير من أهلها لا يعود إليها إلا عندما يشعر بتقدم العمر فيصبح كالسائح، كما أن المشاكل الطائفية عامل طرد آخر من المنطقة.

تعمل رويدا في مطعم بعيدا عن أهلها وعن الرجل الذي تخلى عنها لامرأة أخرى

 

في منزل رجل غريب.. قصة رويدا

ارتبطت رويدا -كأي فتاة في سنها- بشاب، لكن حُلمها لم يكتمل بالزواج؛ لأن والدته اختارت له فتاة غيرها من أقاربه، وما زال ذاك الشاب إلى الآن يتصل بها ويخبرها عن آلامه وأحزانه فتقول له رويدا: أنت الذي اخترت ما أرادته أمك لك.

حب آخر عاشته رويدا في خطبة شاب آخر لم يكتمل حلمها أيضا بسبب معايرة أخته لها بكونها عاملة في مطعم وتعيش في منزل رجل غريب، رويدا الآن لا ترغب في تجربة جديدة بل ما زالت تتذكر تلك التجارب وتأخذ منها العبر والعظات.

خسر هيكل محصوله من التفاح بسبب حشرة اصابت المحصول

 

أنطوان وهيكل.. تحليق أرواح الفلاحين

أرادت مخرجة الفيلم أن تعرف وجهة نظر أنطوان من مسألة الأرض التي امتلكها هيكل وأقام عليها مزرعته ثم هدمت بعد دعوى عائلة أنطوان أنه اشتراها ممن لا يملك بيعها.

يقول أنطوان: هذه الأرض لها ورثة كثر لست أنا إلا واحدا منهم، وقد عرضت على هيكل أن يضمنها ويقوم بزراعتها دون امتلاكها، لكنه رفض ذلك.

أصيب أنطوان بالصدمة نتيجة لما حدث مع هيكل، لكنه يرى أنَّ الأرض ليست ملكا لإنسان بعينه بل هي شيءٌ يتنقل من جيل لآخر، يختلف معه هيكل في هذا الرأي حيث يعتقد أنَّ الروح تبقى محلقة حتى بعد الوفاة فوق الأرض التي تعبت في فلاحتها.

لم تُشكل قضية الأرض حالة خصام شخصي بين أنطوان وهيكل بل استمرت علاقتهما الناشئة منذ كانا في المدرسة الابتدائية على ما يرام.

لم تتوقف مشاكل هيكل على تسريب الأرض للأغراب، بل شاركت حشرة “تريبس” بآلامه حين هاجمت محصول أرضه من التفاح، الأمر الذي سبب له خسارة كبيرة جعلته عاجزا عن شراء ماشية جديدة.

بالأمل يحيا الإنسان؛ سلاح اختاره هيكل كي يواجه كافة المصاعب، فلم ينحَنِ أمام المعضلات بل اختار طريق التحدي بكل قوة واقتدار، وما زال اسم الفيلم بالنسبة للمخرجة ليليان الراهب محل نقاش مع هيكل، وحين يلتقيان يتسائلان عنه دون أن يتفقا على اسم محدد.