“نابليون بونابرت”.. إمبراطور فرنسي يطلب الخلافة في المشرق العربي

عاش العالم العربي والإسلامي فصولا طويلة من علاقة المد والجزر مع الآخر الموجود في الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط، فمنها فصول الحروب الصليبية التي استهدفت فلسطين وما يجاورها من بلاد المسلمين، والفتوحات الإسلامية التي بلغت القسطنطينية والبلقان شرقا والأندلس غربا، والاستشراق الذي حاول الغرب المسيحي من خلاله أن ينفذ إلى العقل العربي الإسلامي ويتحكم فيه.

لكن شخصية واحدة تفرّدت ضمن هذا السياق الحافل بالشخوص والأحداث، وذلك لجمعها بين الجانب السياسي والثقافي، وبين القرب والبعد والود والعداء، في علاقتها بالمكوّن العربي الإسلامي في البحيرة المتوسطية التي تتوسط “العالم القديم”، إنها شخصية الإمبراطور الفرنسي الشهير “نابليون بونابرت”.

مكنت “نابليون” مقوماته الشخصية المتمثلة في الذكاء والفطنة وحس المغامرة، من الصعود بسرعة كبيرة من درجة عسكري بسيط منحدر من جزيرة “كورسيكا” الواقعة على هامش الجغرافيا الفرنسية، ليصبح إمبراطور البلاد إثر تحقيقه نجاحات عسكرية في الخارج وقيادته انقلابات على السلطة التي قامت بعد الثورة الفرنسية لعام 1789، انهزم مرة أولى ضد خصوم فرنسا الخارجين وتعرض للنفي، لكنه عاد وحكم من جديد قبل أن ينهزم في معركة “واترلو” الشهيرة في بلجيكا، لينفى بقية حياته في جزيرة سانت هيلينا الواقعة في قلب المحيط الأطلسي وسط عزلة شاملة.

إنه رجل حوّل لحظات سقوطه إلى فرص لمعاودة الصعود بسرعة أكبر، فقد غيّر ولاءه عدة مرات بين دولة وأخرى وعقيدة ونقيضها، وأرهب أوروبا وملوكها لدرجة كاد معها أن يبسط سيطرته الكاملة على القارة، ثم انتهى منفيا في جزيرة صغيرة في قلب المحيط الأطلسي. صالح السلطة في فرنسا بعد الثورة مع الكنيسة وأعاد للكنيسة بعض مصالحها، بعدما كان في أرض الكنانة يعطي الانطباع بكونه بات مؤمنا من أتباع محمد ﷺ.[1]

محب النبي في قلب القاهرة.. شرعية الاحتلال

قضى هذا الرجل الظاهرة زهاء عام وحوالي شهرين في قلب العاصمة المصرية القاهرة، حاكما لهذه البلاد العربية ذات التاريخ والجغرافيا الاستثنائيين، فقد مكّنه دهاؤه ومكره السياسيان من إقناع الكثيرين باعتناقه الإسلام أو اقترابه من ذلك، في محاولة منه للحصول على شرعية حكم شعوب إسلامية ودفعها للانقياد له كأول خليفة من نوعه قدم إلى أرض الإسلام من بلاد الفرنجة.

فإلى جانب فصول دخوله العنيف إلى البلاد المصرية وقمعه الدموي للثورات الشعبية التي اندلعت ضده، فقد جالس “نابليون بونابرت” علماء الأزهر وخاطب المصريين بخطاب ديني، وأبدى حبه لرسول الإسلام محمد ﷺ، وحرص على أن يقيم بعض الشعائر والاحتفالات الدينية، خاصة منها المرتبطة بذكرى المولد النبوي، أو صيام رمضان، حيث ينسب إليه فضل إحداث “كرة الزوال”، أي استعمال الطلقات المدفعية للإخبار بساعة غروب الشمس.

كانت فكرة احتلال مصر موضوع نقاش ودراسات عدة لدى الفرنسيين، وإلى جانب معادلة الربح والخسارة التي قاموا بحسابها، كان هناك المسوغ الذي جرى تقديمه لشن حملة عسكرية، حيث كان باشاوات أرض الكنانة قد اقترضوا الكثير من الأموال من الفرنسيين دون ردها، وبدا ذلك مبررا مقنعا لغزو مصر، خاصة أن الباب العالي العثماني اعتاد الاعتذار بعدم قدرته على فرض سلطته على المناطق التابعة له ردا على أي مطالب أجنبية.[2]

التلميذ الذي أصبح ضابطا في جيش لويس السادس عشر

ولد إمبراطور فرنسا الأول عام 1769 في أسرة من النبلاء بمدينة أجاكسيو الواقعة بجزيرة كورسيكا، وكانت تابعة لإيطاليا قبل أن تضمها فرنسا، وأطلق عليه اسم “نابليوني بونابرتي” باللغة الإيطالية، ثم أصبح فيما بعد “نابليون بونابرت” باللكنة الفرنسية، وتنحدر الأسرة من سلالة أرستقراطية جاءت من جنوة قبل نحو ثلاثة قرون من ولادة نابليون، وظلت العائلة تتمتع بالنفوذ وتحوز المناصب المحلية بشكل دائم.[3]

بعد احتلال فرنسا للجزيرة، نقلت أسرته ولاءها نحو الدولة المحتلة ضمانا لمصالحها، فذلك ما مكن “نابليون” من دخول مدرسة عسكرية تقع في أقصى شمال فرنسا، وهو ما شكل صدمة اجتماعية وثقافية بالنسبة إليه، دون أن يمنعه ذلك من الانطلاق في رحلة صعود غير متناهية.[4]

اكتشف “نابليون بونابرت” مدينة باريس أول مرة عام 1784 وهو ابن 15 عاما، حين أصبح تل

من طالب غريب في مدرسة عسكرية بباريس إلى قائد جيش فرنسا

ميذا في مدرسة عسكرية تخرج منها ضابطا في جيش الملك لويس السادس عشر، وتزامن ذلك مع وفاة والده بمدينة أجاكسيو، ليصبح بالتالي هو قائد الأسرة، وبعدما كانت أصوله الإيطالية تحد من طموحاته في مواجهة النبلاء الفرنسيين الأصليين، جاءت الثورة الفرنسية لعام 1789 لتطيح بالامتيازات السابقة لخصومه، وباتت الطريق مشرعة أمامه لتحقيق صعود استثنائي في هرم السلطة.[5]

بعد محاولة فاشلة لسحب ولائه من فرنسا ومحاربتها في جزيرة كورسيكا التي حلم مجددا بتحريرها، عاد “نابليون بونابرت” لينغمس بكل قوة في شهوة السلطة وتحقيق الذات تحت العلم الفرنسي، وكانت الفرصة الأولى حين جرى الدفع به على غرار زملائه الضباط الشباب نحو الحروب المندلعة على أطراف فرنسا ضد جيرانها المتهيبين من انتشار نموذجها الثوري، وقد أبدى “نابليون” حنكة عسكرية كبيرة ضد الإنجليز في جبهة تولون.

وبعد فترة من البذخ الباريسي انتقل مجددا نحو جبهة الحرب في إيطاليا، وهناك أبان عن دهاء عسكري كبير حين تمكن من الدخول بين الجيشين السرديني والنمساوي، وحارب كلا منهما على حدة حتى تغلب عليه، وتفتقت عبقريته عن أفكار عسكرية غير مسبوقة، حيث كان يقسم جيشه إلى فرق صغيرة متفرقة، مما أربك جيوش الخصوم وشتت أذهانهم وحملهم على التراجع.[6]

حملة غزو الشرق.. رتبة قائد الجيش الفرنسي

تختلف التفسيرات لقرار “بونابرت” شن حملة على مصر، ما بين ربطها بطموحه السياسي الجارف، والقول إنها كانت مجرد حيلة من خصومه داخل فرنسا لإبعاده عن مركز الحكم، لكن المؤكد أنه وإلى غاية أواخر القرن الـ18 لم يكن اسم “نابليون بونابرت” يعني الكثير.

بدأ التحول في مارس/آذار 1796، حين اتجه هذا الجنرال المغمور إلى إيطاليا على رأس جيش لتحويل أنظار الأعداء، حيث كانت فرنسا الثورة بصدد إنهاء صراعها مع عدويها العنيدين إنجلترا والنمسا، ثم ما لبث هذا القائد العسكري أن فاجأ العالم بانتصار كبير في مايو/أيار 1797، وانتهى بتوقيع اتفاقية “كامبو فورميو” التي تقر بانتصاره على الجيش النمساوي.[7]

منتشيا بانتصاراته العسكرية المفاجئة، كتب “نابليون” للحكومة الثورية الفرنسية “الإدارة” (Le Directoire)، ليخبرها بمشروعه الكبير لعبور البحر المتوسط وغزو مصر، مقدما ذلك كتموقع استراتيجي يستبق انهيار الإمبراطورية العثمانية، ويضمن كسر نظيرتها الإنجليزية.

في يوليو/تموز 1797 دخل نابليون عاصمة المماليك القاهرة وفرض سيطرته عليها

انغمس “نابليون” في مطالعة كل ما أمكنه الوصول إليه في مدينة ميلانو الإيطالية حول مصر، وطلب من وزارة البحرية أن تمده بكل ما تملكه من أرشيف حول هذا البلد الإسلامي، ثم ساعده تطور الأحداث السياسية الداخلية لفرنسا في تحقيق حلمه هذا، حيث ترقى بعد عودته إلى باريس إلى رتبة قائد عام للجيش الفرنسي، ليمهّد له ذلك سبيل الحصول على موافقة ودعم شاملين من حكومة “المديرين” لفكرة غزو مصر، مع وضع جميع الإمكانات العسكرية والعلمية تحت تصرفه.[8]

انطلق أسطول “نابليون بونابرت” العسكري في حملته في يونيو/حزيران 1798، ونظرا لضخامته فقد تمكن بسهولة من السيطرة على جزيرة مالطا في طريقه نحو الإسكندرية، ولم ينته شهر يوليو/تموز الموالي إلا وقد دخل عاصمة المماليك القاهرة، وفرض سيطرته عليها، لكن ردة فعل الانجليز كانت سريعة، فقد قاموا بتحطيم الأسطول الفرنسي في أبو قير، وأصبح بذلك “بونابرت” وجيشه مضطرين إلى المكوث في مصر والتعايش مع أهلها.[9]

“قناع النبي”.. رواية بنكهة العصر العباسي

تعود علاقة “بونابرت” بالإسلام حسب بعض الروايات إلى مراهقته الأولى، حيث يحتمل أنه درس القرآن، وقد كتب رواية مستوحاة من سيرة محمد ﷺ عنوانها “قناع النبي”، وبطلها رجل عاش في عهد الدولة العباسية، وبناء على ذلك وصل “بونابرت” إلى مصر سنة 1798 وهو على اطلاع عميق بتعاليم الإسلام، مما دفعه الى احترام ديانة المصريين حتى وهو يغزو بلادهم بقوة الحديد والنار.[10]

ويضيف المؤرخ الفرنسي “فرانسوا شارل رو” أن الإسلام استحوذ على خيال “بونابرت” قبل حملته على مصر، “وازداد كثافة أثناءها وبعدها، وكم عاد بذاكرته أثناء اعتقاله إلى العالم الإسلامي، ومن بين تلك الأحاديث التي أملاها في سانت هيلين (منفاه)، توجد بضع صفحات هي الأكثر موضوعية وتعاطفا بين كل ما كُتب عن الإسلام في إحدى لغات الغرب”.[11]

من المؤلفات التي توثق تاريخ نابليون في مصر

بينما يؤكد كاتب مذكرات “نابليون” الدبلوماسي الفرنسي المعاصر له “لويس أنتوان فوفيليت دي بوريان”، أن “نابليون” لم يتعلم القرآن أو يؤدي أي صلاة إسلامية، ولم يدافع عن عقائد القرآن. ويؤكد هذا الدبلوماسي أن ما دفعه لحضور الاحتفالات الدينية في مصر كان السياسة لا غير، وأنه كان مستعدا لإعلان اعتناق أي ديانة أخرى لتحقيق نصر سياسي.

أمام أحد الأهرامات المصرية، حيث أصبح نابليون يتصرف وكأنه الإسكندر الأكبر في مصر

“أحترم الله وأقدر الرسول والقرآن”.. خطبة الإسكندرية

انطلاقا من كل الروايات حول نظرة “بونابرت للإسلام يسهب البعض في ذكر تفاصيل الأوامر التي يفترض أنه وجهها إلى جنوده لحظة وصوله إلى سواحل الإسكندرية، حيث ينسب إليه قوله مخاطبا جنوده: إن الشعب الذي سنعيش معه هو شعب مسلم يكن تقديرا تجاه أئمته كما تكنون أنتم الاحترام لرهبانكم. بينما قال مخاطبا سكان المدينة: لقد أخبروكم بأنني أتيت لأدمر دينكم، لا تصدقوهم، بل جئت لاستعادة حقوقكم ومعاقبة المغتصبين، كما أنني أحترم الله وأقدر الرسول والقرآن.[12]

ويبرز التخطيط المسبق لاستعمال الورقة الدينية في التودد للمصريين، حين نعلم أن أول خطاب وجهه إليهم “بونابرت” كتبه مستشرقون كبار متخصصون في دراسة الثقافة الدينية الإسلامية، حيث استهله بالبسملة والثناء على الله، ثم كان أول ما تناوله هو تكذيب الأنباء التي تقول إنه جاء لإزالة الإسلام من أرض مصر، ثم التعبير عن احترام القرآن الكريم والرسول محمد ﷺ، ثم خاطب أعيان مصر قائلا:

أيها المشايخ والقضاة قولوا لأمتكم أن الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى، وخربوا فيها كرسي البابا الذي يحث دائما النصارى على محاربة الإسلام، طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير، فيصلح مالهم وتعلى مراتبهم، طوبى أيضا للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لأحد من الفريقين المتحاربين، لكن الويل كل الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا، فلا يجدون بعد ذلك طريقا إلى الخلاص، ولا يبقى منهم أثر.[13]

“علي بونابرت”.. وجه الغاز الأشقر وجبة السلطان الشرقي

يؤكد المؤرخ “ديمتري كازالي” أن “بونابرت” بعد دخوله مصر وإسقاطه حكم المماليك واظب على ارتداء الثوب الشرقي، خصوصا خلال مشاركته في حفلة النيل الكبرى خلال شهر أغسطس/آب 1798، الأمر الذي راق لقائد أركان جيشه وجنرالاته، بينما لقّبه الأهالي بالسلطان الكبير، وأطلق عليه البعض اسم “علي بونابرت”.[14]

ومما دفع البعض إلى إصباغ حكم “نابليون” بالسلطانية، طريقة تدبيره للبلاد، حيث قام بتأسيس ديوان ضم إليه تسع شخصيات من وجهاء مصر، من بينهم مشايخ وعلماء ونقيب للأشراف، واستنسخ هذا النمط في الحكم عبر إحداث ديوان مماثل في كل مديرية، إلى جانب مسؤول عن الجبايات ومراقب فرنسي.

نمط مستوحى من الثقافة المحلية في الحكم، استكمله “بونابرت” في يوليو/تموز 1799 بإعلانه أنه يتبع بالكامل تعاليم الإسلام وأنه نطق بالشهادتين، وهي الخطوة التي تصبغ قدرا كبيرا من الشرعية على حكمه في نظر المصريين، وهنا نجد بدايات الرواية المضادة التي تعتبر سلوك الإمبراطور الفرنسي تجاه الإسلام انتهازية وبراغماتية.

“إذا حكمت الشعب اليهودي فسأعيد بناء هيكل سليمان”

يؤكد المؤرخ الفرنسي “ديمتري كازالي” حاجة “بونابرت” لتأييد المصريين له في معركته الكبرى ضد العثمانيين الذين شنوا هجوما لطرد الغزاة الفرنسيين من مصر، خاصة أنه بعد عودته إلى فرنسا قام بسلوك مماثل، حيث أبدى تقديره وتودده للديانة المسيحية، ووقع ميثاقا مع البابا بيوس السابع في عام 1801.

وقد جرى تنصيب “بونابرت” في كاتدرائية نوتردام بحضور البابا، وحين أراد البابا طرده من الكنيسة تعرّض للسجن خمسة أعوام على يد الإمبراطور، مما يدل على استعماله كل الوسائل المتاحة في سبيل المصلحة السياسية.[15]

وينسب إلى “بونابرت” قوله بخلفية سياسية براغماتية إلى أبعد الحدود: أنهيت حرب فونديه (الحرب الأهلية التي حدثت في غرب فرنسا بين الجمهوريين والملكيين أثناء الثورة الفرنسية) بعد أن ادعيت أنني كاثوليكي، وغزوت مصر بعد أن أظهرت إسلامي، وإذا حكمت الشعب اليهودي فسأعيد بناء هيكل سليمان.[16]

معركة عكا.. رياح الهزيمة أطفأت شعلة اعتناق الإسلام

تتحدث بعض المصادر التاريخية عن عقبتين أساسيتين واجهتا “نابليون بونابرت” حين طرحت عليه فكرة إعلان اعتناقه الإسلام لحل مشكلة ولاء المصريين له، وهما الختان وتحريم شرب الخمر، علاوة على ضرورة تمهيده لهذا الإعلان بإطلاع أفراد جيشه على الإسلام وتحبيبهم فيه.

لكن شعلة هذه الحماسة لاعتناق الإسلام سوف تخبو مع انكسار الجيش الفرنسي في عكا وعودته خائبا، حيث تقول بعض المصادر إن “بونابرت” كان مستعدا لإلباس جيشه الزي الشرقي واعتناق الإسلام رسميا لو كان ذلك سيضمن له إقامة دولة مشرقية.[17]

تحطمت أحلام بونابرت على أسوار عكا فعاد منها خائبا

وتعتبر مرحلة الحماية الفرنسية الممتدة بين 1798 و1801 مرحلة مفصلية في التاريخ الحديث لمصر، لكونها المرة الأولى التي خضعت فيها مصر لحكم دولة غير إسلامية منذ دخلها العرب المسلمون، وذلك وضع استثنائي أدرك “نابليون” بدهائه الاستراتيجي، ما يعنيه من عقبات كبيرة ستواجهه في أرض الكنانة، وهو ما اهتدى إلى حلّه عبر ارتداء جبة حامي الإسلام والمحب لشعائره، عكس النهج الذي سارت عليه الحملات الصليبية السابقة التي كانت تشهر العداء الواضح للإسلام والمسلمين.[18]

دراسة تاريخ العرب.. حروب المستشرقين الثلاثة

كانت إشكالية الصعوبة العقدية الممثلة في قوة وأهمية الإسلام حاضرة في أذهان الفرنسيين وهم يخططون لاحتلال مصر، حيث قال الجنرال الفرنسي “برتران” -أحد أبرز قادة الحملة الفرنسية- في شهادته التاريخية بعنوان “حملات مصر وسوريا” المنشورة في باريس عام 1847 نقلا عن “بونابرت”:

إن أصعب السياسات تلك التي اعتبرت الدين عقبة أساسية أمام استقرار السلطات الفرنسية، فقد كتب “فولنيه” (مستشرق فرنسي) عام 1788 قائلا: لكي تستقر في مصر لا بد من شن ثلاثة حروب: الأولى ضد إنجلترا، والثانية ضد الباب العالي (السلطة الحاكمة للدولة العثمانية)، والثالثة -وهي أصعبهم جميعا- ضد المسلمين الذين يشكلون غالبية شعب هذا البلد.[19]

دخل نابليون مصر على سنابك الخيل غازيا محتلا ومكث فيها سنة كاملة

كانت تلك هي المرة الأولى التي يختار فيها غاز مسيحي أوروبي أسلوب “التسامح” كسلاح محوري في هجومه على أرض إسلامية، ولم يكن هذا الاختيار اعتباطيا، بل يبيّن الإرث التاريخي الكم الهائل من الأدبيات التي حاولت نسج صورة القائد المحب للإسلام حول “نابليون بونابرت”، بل وتسويق تلك الفكرة على أنها الدافع الذي حمله على غزو مصر.

وتوظف المصادر الفرنسية بعض الآثار التي عثر عليها لكتب ومؤلفات متعلقة بالإسلام في مكتبة “نابليون بونابرت” وهو شاب يافع، ويقول المؤرخ الفرنسي “فرانسوا شارل رو” في دراسة بعنوان “السياسة الإسلامية لبونابرت” نشرتها مجلة “الدراسات النابليونية” في العدد 24 بتاريخ 1925 إن “محمدا يثير إعجابه كمؤسس ديني وقائد لشعوب ومشرّع. إن التاريخ ومذهب النبي كانا قد أثارا اهتمامه منذ زمن بعيد، وقبل حتى أن يعرف أن قدره سيقوده إلى مصر بدأ يدرس تاريخ العرب، وقرأ القرآن وكان يحتفظ بنسخة منه في مكتبه أيام الحملة إلى جانب عدد من الكتب الدينية”.[20]

أسلمة السياسة.. مبادئ التغلغل في الشعوب الإسلامية

كان “نابليون بونابرت” يضع الأسس الأولى لما سيحمل لاحقا اسم السياسة الإسلامية لفرنسا في بعض مستعمراتها (مثل المغرب)، كطريقة ناعمة وفعالة في ضبط الأهالي وإخضاعهم للحكم الاستعماري، من خلال استعمال نافذة الذين المفتوحة على أفئدتهم، ويجد الباحثون أسس هذه السياسة الإسلامية في رسالة بونابرت إلى قائده العسكري، حين همّ بمغادرة مصر وكلّفه بتولي القيادة بدلا منه.

وتقوم هذه السياسة على عدد من العناصر، من بينها “سياسة المراعاة”، أي الحرص على عدم استفزاز المشاعر الدينية للمسلمين، ثم عنصر “فرنسة النخب” عبر فتح الباب أمام عينة مختارة من الأعيان والمشايخ، لزيارة فرنسا والاطلاع على مظاهر تقدمها والسقوط تحت تأثيرها وجاذبيتها، ثم عنصر “الفعل الثقافي” واستعمال الأدوات الفنية والفكرية لتغيير البلد المستعمر، ثم عنصر الرهانات الكبرى التي ترمي فرنسا إلى تحقيقها في مستعمراتها تجاريا وحضاريا، وهو ما يشكل عنصر تحفيز للقادة العسكريين والمدنيين الفرنسيين.[21]

هذه السياسة الإسلامية التي انتهجها “بونابرت” وحرصه الشديد على استمالة المصريين وكسب تعاطفهم، شملت إلى جانب احتفالات ذكرى المولد النبوي، مظاهر الاحتفاء بشهر رمضان. فقد أصدر أوامره لجنوده وأفراد حملته، بعدم الجهر بالأكل والشرب في الأسواق، وعدم شرب الدخان أو ما يشبهه، كما خصص بطارية مدفعية في الإسكندرية تسقط كرة في موعد غروب الشمس، إيذانا بحلول موعد الإفطار، وهو ما اصطلح عليه باسم “كرة الزوال”.[22]

ففي لقاء جمعه بشيوخ ديوان القاهرة سنة 1799، قال نابليون بونابرت: “أوليس حقا أنه قد جاء في كتبكم أن كائنا أرقى سوف يصل من الغرب مكلفا بمواصلة عمل النبي؟ أوليس حقا أنه جاء فيها أيضا أن هذا الرجل الوكيل لمحمد هو أنا؟”، وهي العبارات الدالة بوضوح على استراتيجية التقرب من المصريين عبر ورقة الإسلام ونبيه محمد ﷺ.[23]

“كان ذلك الوقت الذي قضيته في مصر أجمل أوقات عمري”

ذروة سنام تقرب “نابليون بونابرت” من الإسلام، كانت عندما حاول تقديم نفسه كصديق للمسلمين، وتصدره لقيادة احتفالات عيد المولد النبوي، وإشرافه على تنصيب أمير الحج، ومراسلته أمير مكة.

فعندما علم باعتزام شيوخ الأزهر عدم تنظيم احتفالات ذكرى المولد النبوي الأولى بعد وصول حملته إلى مصر، بادر “بونابرت” إلى دعوتهم لتنظيم الاحتفالات مقدما لهم ما يكفي من الدعم المالي، بل إن الجيش الفرنسي شارك في احتفالات المولد بتنظيم عروض وحفلات موسيقية وألعاب نارية، وجعل إمبراطور فرنسا تلك الاحتفالات فرصة لتنصيب الشيخ البكري نقيبا للأشراف.[24]

وبعد اندلاع أول ثورة ضد حكمه في ديسمبر/كانون الأول 1798، عمد “نابليون” إلى دخول الأزهر الشريف ومجالسة مشايخه وتنصيب بعضهم أعضاء في مجلس ديوانه، ثم وجه خطابا مفعما بالنبرة الدينية للمصريين، متحدثا عن الضالين وموقعي الفتنة، تماما كما لو كان قائدا إسلاميا لأرض مصر.

يقول “نابليون”: في مصر وجدت نفسي متحررا من كوابح حضارة مزعجة، لقد كان بوسعي أن أحلم بكل شيء، وأن أرى وسائل تحقيق كلما حلمت به، فسوف أؤسس ديانة، وسأجد نفسي على طريق آسيا راكبا فيلا وعلى رأسي عمامة، وبين يدي قرآن جديد أؤلفه على هواي، وسوف أجمع في مشاريعي بين تجارب وخبرات العالمين، نابشا لحسابي ملكوت جميع التواريخ والقصص، مهاجما الجبروت الإنجليزي في الهند، ومستعيدا بهذا الفتح ربط صلاتي مع أوروبا العجوز. لقد كان ذلك الوقت الذي قضيته في مصر أجمل أوقات عمري، لأنه كان الوقت الأكثر مثالية.[25]

“مجتمع بدون دين مثل مركب بدون بوصلة”

كان سلوك “بونابرت” في الحقيقة ينطوي على استعادة غير مباشرة لفكرة الحكم الخليفي، وإدخالا جديدا للإسلام إلى ساحة الصراع السياسي، خاصة في مجال العلاقات الدولية، فبينما كانت مناطق متفرقة من العالم الإسلامي في شبه جزيرة الهند ومحيط روسيا تخضع تباعا للسيطرة الغربية، كان من اللازم البحث عن مرجعية دينية تمنح الشرعية لهذه السلطة الجديدة.

انطلاقا من هنا تصبح دوافع “بونابرت” أكثر وضوحا، خاصة أنه حل بمصر حاملا ورقة النصر العسكري الفرنسي على أخوية فرسان مالطة الكاثوليكية، مما ساعده في تقديم نفسه نصيرا للمسلمين ضد أعدائهم.[26]

فرّ “نابليون” من مصر في صيف العام 1799، تاركا رسالة موجهة إلى قائده العسكري يوصيه فيها بالحرص على التقرب من مشايخ الأزهر وضمان ولائهم، وعلى عكس ما قاله في تلك الرسالة، لم يعد بونابرت إلى مصر بعد خروجه هذا، وكانت مدة مكوثه فيها عاما واحدا.

وخلال فترة مكوثه في منفاه السياسي بجزيرة سانت هيلين، أدلى “بونابرت” بكثير من الاعترافات والتفاصيل حول حياته، بما فيها علاقته بالإسلام وتجربته في مصر، وما تؤكده هذه الاعترافات الموثقة هو أن الدين كان بالنسبة إليه أداة سياسية، وقد استعمله في مصر حين كان اسمه الإسلام، مثلما استعمله في فرنسا تحت مسمى المسيحية، كل شيء في نظره كان مباحا لتحقيق الأغراض السياسية.

تبوح إحدى كتاباته بمحاولة للغوص في عمق الخلفية الفكرية للدين والتدين، مقارنا بين الرسالات السماوية الثلاث، حيث قال: “مجتمع بدون دين مثل مركب بدون بوصلة”. وذلك ليخلص إلى أن الإسلام أفضلها، وأن الله واحد وليس متعددا كما هو الأمر في المسيحية.[27]

 

المصادر

[1] وثائقي / نابليون بونابرت – YouTube
[2] أحمد يوسف، بونابرت في الشرق الإسلامي القاهر المقهور، ترجمة أمل الصبان، المجلس الأعلى للثقافة، 2005
[3] نابليون.. إمبراطور من عدم – YouTube
[4] نابليون.. إمبراطور من عدم – YouTube
[5] نابليون.. إمبراطور من عدم – YouTube
[6] نابليون.. إمبراطور من عدم – YouTube
[7] أحمد يوسف، بونابرت في الشرق الإسلامي القاهر المقهور، ترجمة أمل الصبان، المجلس الأعلى للثقافة، 2005
[8] أحمد يوسف، بونابرت في الشرق الإسلامي القاهر المقهور، ترجمة أمل الصبان، المجلس الأعلى للثقافة، 2005
[9] أحمد يوسف، بونابرت في الشرق الإسلامي القاهر المقهور، ترجمة أمل الصبان، المجلس الأعلى للثقافة، 2005
[10] https://www.aljazeera.net/news/cultureandart/2019/12/2/علي-بونابرت-هل-أسلم-الإمبراطور

[11] https://www.bbc.com/arabic/art-and-culture-46897370
[12] https://www.aljazeera.net/news/cultureandart/2019/12/2/علي-بونابرت-هل-أسلم-الإمبراطور

[13] https://www.lepoint.fr/histoire/quand-napoleon-etait-le-champion-de-l-islam-24-11-2019-2349219_1615.php

[14] https://www.aljazeera.net/news/cultureandart/2019/12/2/علي-بونابرت-هل-أسلم-الإمبراطور

[15] https://www.aljazeera.net/news/cultureandart/2019/12/2/علي-بونابرت-هل-أسلم-الإمبراطور

[16] https://www.aljazeera.net/news/cultureandart/2019/12/2/علي-بونابرت-هل-أسلم-الإمبراطور

[17] https://www.bbc.com/arabic/art-and-culture-46897370
[18] https://www.lepoint.fr/histoire/quand-napoleon-etait-le-champion-de-l-islam-24-11-2019-2349219_1615.php

[19] https://www.bbc.com/arabic/art-and-culture-46897370
[20] https://www.bbc.com/arabic/art-and-culture-46897370

[21] هنري لورنس، بونابرت والإسلام بونابرت واليهودية، ترجمة بشير السباعي،دار مصر العربية للنشروالتوزيع، القاهرة 1998
[22] https://alwafd.news/كان-زمان/2958554-تعرف-على-طقوس-احتفال-نابليون-بونابرت-بشهر-رمضان-في-مصر
[23] https://www.bbc.com/arabic/art-and-culture-46897370[24] https://www.bbc.com/arabic/art-and-culture-46897370
[25] هنري لورنس، بونابرت والإسلام بونابرت واليهودية، ترجمة بشير السباعي،دار مصر العربية للنشروالتوزيع، القاهرة 1998
[26] هنري لورنس، بونابرت والإسلام بونابرت واليهودية، ترجمة بشير السباعي،دار مصر العربية للنشروالتوزيع، القاهرة 1998

[27] https://www.afrik.com/les-confessions-de-napoleon-bonaparte-sur-l-islam