“ناس الغيوان” و”جيل جيلالة”.. سفراء الأغنية المغربية في أصقاع العالم

 

 

 

في العالم العربي ظهرت مجموعة من الفرق الموسيقية الملتزمة التي اختارت أن تكرّس أعمالها لخدمة الشعب، واتخذت من اهتمامات الشباب قضايا تدافع عنها. ولعلّ فرقتي “ناس الغيوان” و”جيل جيلالة” المغربيتين من أبرز هذه المجموعات الموسيقية التي كانت أغانيها ترجمانا للقضايا السياسية والأوضاع الاجتماعية، حيث حرصت الفرقتان منذ إنشائهما على أداء أغاني تتبنى الهمّ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، كما تميزت بطابعها الصوفي الذي يعتمد على التراث المغربي والحس الوجداني الديني.

“أنا أعتبر الممثلين الذين في فرقتي حقل تجارب أجرب فيهم مسرحي”، عبارة قيلت في لقاء صحفي على لسان الممثل والمخرج الطيب الصديقي مسّت كبرياء أعضاء فرقته بوجميع والعربي باطما وعمر السيد، مما حفزهم على تشكيل فرقتهم الغنائية “ناس الغيوان” بعد أن انضم إليهم عبد الرحمن باكو وعلال يعلي، منطلقين من التراث المغربي العريق ومنبع الشعر الغنائي الصوفي، ومعبرين من خلال هذا المزيج عن واقع حال الناس الفقراء والمقهورين في حي المحمدي بالدار البيضاء، وهو الحي الذي انطلقوا منه محققين النجاح في البداية داخل وطنهم المغرب، ثم في البلاد العربية والعالم أجمع.

 

“ناس الغيوان”.. النواة الأولى لأهل الفَهَامة

تأسست فرقة “ناس الغيوان” رسميًّا عام 1971، وضمت بوجميع و”لعربي باطما وعمر السيد وعبد العزيز الطاهري ومحمود السعدي. وشكَّل تأسيس “ناس الغيوان” النواة الأولى لانتشار لون موسيقي جديد مهم، أسهم بشكل كبير في الدفع بالموسيقى التراثية المغربية التي كانت تعاني إهمالا طال التراث الموسيقي المغربي طيلة عدة عقود، وأبدع في التعامل معه لحنا وميزانا وكلمة.

“ناس الغيوان” عبارة تعني “أهل الفَهَامة”، وهم أناس يفهمون ويستنبطون ما وراء العبارة، فلا يكتفون بظاهر لفظها، وإنما ينجذبون عميقا إلى صفاء استعاراتها ومجازاتها. وأغلب هؤلاء هم شعراء جوّالون تأثروا بالطرق الصوفية الشعبية التي ظهرت بالمغرب مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، واكتفوا من حياتهم بوظيفة التخلي عن الدنيا والتجول في الأرض والإنشاد الذي كانوا يضمّنونه أخبار من مروا بهم من قبائل ونُجوع وتبليغها إلى مستمعيهم، ونذكر منهم الشاعر والصوفي المغربي عبد الرحمن المجذوب وسيدي بوعلام الجيلاني وابن المؤقت المراكشي وغيرهم.

تمثلت فرقة “ناس الغيوان” تاريخ هؤلاء الرجال المجاذيب وروحانياتهم وغموضهم وترحّلهم وزجرهم من الظاهر وميلهم إلى ما لا يدركه البصر، ووجد فيه أفرادُها ما يصلح لهم سبيلا إلى فهم متغيّرات زمنهم، في زمن كان فيه التعبير والنقد المباشر للسلطة والأوضاع أمرا خطيرا قد يؤدي إلى السجن أو القتل والتعذيب، فلاذوا به يستعيرون منه إيحاءات التسمية وصيغ الوجود بين الناس ومفردات الرحلة الروحية والخروج من ضيق الجسد إلى براح الرؤى.

اكتسبت مجموعة “ناس الغيوان” شعبيتها واحترامها واعتراف جميع المهتمين بالتاريخ الأدبي والفني للمغرب نتيجة العطاء الفني، وتأسيسهم لتراث غنائي تاريخي مغربي انطلاقا من قربهم وانغماسهم في هموم ومعاناة شعب مقهور في ظروف سياسية صعبة من تاريخ المغرب المعاصر من سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، وغنت هذه المجموعة عن آلام الشعب المغربي وآماله، فأغنية “مهمومة”، و”غير خوذوني”، و”فين غادي بيا خويا”، و”سبحان الله صيفنا ولا شتوى”، و”ضايعين ضايعين”، و”نرجاك أنا” و”الصينية” و”الهمامي”، وغيرها كثير من الأغاني التي ترددت على ألسنة فئات متعددة ومتنوعة من أبناء الشعب المغربي، بل أصبحت هذه الأغاني في مرحلة معينة من تاريخ المغرب ملاذ هروب واحتماء من سياط الفقر والقمع وقلة ذات اليد وانعدام الحريات وإهانة الإنسان.

“حالي ما يخفاك يالواحد ربي”.. ملامح الظاهرة الغيوانية

المثير في “ناس الغيوان” أنها استطاعت أن تُكسب نصوصها الغنائية طابعا فنيا مثيرا، أولا من حيث احتماليتها المضمونية، وثانيا من حيث قوة أدائها الموسيقي، فالاحتمالية المضمونية تتجسد في إقبال الناس عليها باختلاف طبائعهم وأيدولوجياتهم وطموحاتهم. كل هذه المعطيات والظروف أسهمت في ما يمكن أن يُصطلح عليه في سنوات السبعينيات والثمانينيات بالظاهرة الغيوانية.

الغالب الفنيّ على نتاج عناصر فرقة “ناس الغيوان” هو نهوضه على مأثورات شعبيّة زجليّة ذات إيحاءات صوفية، نجد لها وجودا في سجل التراث الشفهي المغربي في جل أغانيهم، وذلك سواء من حيث ذكر أسماء رجال الصوفية مثل سيدي عبد الرحمن المجذوب وسيدي بوعلام الجيلالي وابن المؤقت المراكشي وغيرهم من رجالات الصوفية والتراث الشفهي المغربي، ومن حيث اللفظ الصوفي على غرار أغنية “الله يا مولانا” حيث نقرأ في مقطع منها:

الله يا مولانا
حالي ما يخفاك يا الواحد ربي
سبحان الحي الباقي
بِك عمرت السّواقي
ونحلتي في نواورك مَرعية
ولا تجعلني شَقي
حرمة ودخيل ليك بالصوفية..

أو عموما من حيث طريقة أداء أغانيهم حيث يكثر فيها الشطح والتهليل والمنادى والدعاء والنداء.

 

حنين إلى الجذور.. أغانٍ ذات بُعد عربي وقومي

عضد التوجّه الغنائيّ الصوفي لدى الفرقة، حيث اعتمد “ناس الغيوان” على آلات موسيقية عتيقة مثل “الهجهوج” و”الطام طام” و”السنتير” و”الطعريجة” و”الحراز” و”البانجو” و”الكمبري” و”الدربوكة”، وهي الآلات التي كان بعضها مستعملا في حضرة المشتاقين المجاذيب وأتباع الصوفية. هذا إضافة إلى نزوع جميع أغاني هذه الفرقة إلى تعرية المسكوت عنه في المعيش اليومي، وذلك باستعمال الكثير من السخرية السوداء الممزوجة أحيانا بحماسة الموجة السبعينية في ذاك الوقت.

هذا المنجز والمشروع الغنائي لم ينحصر أيضا بالتعبير عن هموم وأزمة الإنسان في “الحي المحمدي” الذي انطلقوا منه، أو في وطنهم المغرب عموما، إنما أخذت الفرقة باعتبارها البُعد العربي والقومي في الرسالة الفنية التي تتبناها، وواكبت بأعمالها أحداثا كثيرة تتعلق بالقضية الفلسطينية، منها أحداث تل الزعتر بأغنية “الشمس الطالعة.. لله يا تل الزعتر.. واش من والي يتوالى”، وعن صبرا وشاتيلا أغنية “في صبرا وشاتيلا.. المجزرة الكبيرة.. أطفال تدبحات.. شيوخ وعيالات”. وللانتفاضة الفلسطينية عام 1987 “دومي يا انتفاضة دومي.. بصغارك دومي.. بحجارك دومي”، ومن أغنية “القسم” قدمت الفرقة حالة توأمة بين مدينتي سبتة ومليلة والمدن الفلسطينية: “يا سبتة ومليلية.. المدن المسجونة.. يا حيفا ويافا.. طول الغربة وطول العدوان”. ونلمس اهتماما بالجذور الأفريقية على المستوى الوجداني والإنساني في أغنية “أفريقيا يا الدم السايل”.

من نوعية الأغاني التي تعبر عن غربة الإنسان “غادي في حالي.. أقول كلام.. وأذهب لحالي” و”مهمومة هذه الدنيا مهمومة”، وعن هجر الأصحاب “الأحباب وقت الشدة غابوا.. الخوات كلها دار وقفل بابه” و”عاشرت الناس.. وجاني لهبال.. قلت ليهم نتوالمو.. قالوا شحال”، وأغنيات أخرى مثل “الجمرة” و”السيف البتار” و”إيش جرى ليك” و”هولوني” و”قالت” و”يا بني الإنسان”.

 

نبض المواطن المطحون.. أهازيج محملة بالأنين الشعبي

قدمت الفرقة عن أحوال الناس الفقراء صورا غنائية معبرة، ومنها أغنية “الكفيفة” تقول كلماتها “شي بالشوا فطوره وعشاه.. شي يصول بسيفه وممضاه”، وأغنية “العمارات عالية.. الكواخ مردمين.. المسابح دافقة.. الفدادن محروقين”. أما أغنية “تَبني وتعلـِّي.. تمشي وتخلي”، فهي تمثل انتقادا للانتهازية ونوع من البرجوازية المغربية والعربية التي يطبعها غياب الضمير والاغتناء من مآسي الشعب.

تكلموا عن الرشوة والفساد “الهم سيطر ع الأيام.. وجاب وخلاها.. الرشوة والفساد.. في الدنيا جات المحنات”. ومن أغنية المعنى “طبقة رسات راسها فوق الطبقات.. حطت وفرخت جدادها تما طبقات”، ومن أغنية الجمرة “عم الفساد يا العباد.. الناس خواتنا فضحونا.. بالجمر الوكاد.. وسط صدورنا وشمونا”.

وأغنيات عديدة تدور حول هذه الموضوعات مثل “الصينية” و”الماضي فات” و”الحصادة” و”يا صاح” و”حن واشفق” و”أنادي أنا” و”زاد الهم” و”البطانة” و”احنا ولاد العالم” و”يا جمّال” و”يا من جانا” و”خضرة” و”علام القبيلة” و”هاجت الأحزان” و”علولة” و”الضر الواعر” و”حوض النعناع” و”المعيزة” و”حنين الروح” و”شاب راسي” و”مردومة”. وهناك أغانٍ أخرى منها “سبحان الله” و”ما هموني” و”شوفوا العجب”.

 

“جيل جيلالة”.. لوحة جديدة في المشهد المغربي

على مدار أربعة عقود من عمر “ناس الغيوان” نلحظ التفاوت الحاصل بين أداء الفرقة في البدايات وما تقدمه من عروض في الألفية الثالثة، وقد بدأت ملامح التراجع مع وفاة بوجميع عام 1974، وكانت الانتكاسة الثانية بوفاة العربي باطما عام 1997، ثم انسحاب عبد الرحمن باكو وعلال يعلي، ليحمل عمر السيد الراية من بعدهم.

في المقابل حين ظهرت “جيل جيلالة” في سنة 1972 كثر الحديث عن علاقتها بفرقة “ناس الغيوان” وفُتِح باب التأويل والتحليل على مصراعيه، هناك من ذهب به التفكير إلى أن هذه الفرقة خرجت للوجود لمنافسة “ناس الغيوان” التي كانت في أوجها وتمردت على المحيطين بأبيها الروحي الذي كان أعضاء “ناس الغيوان” تلامذة في مسرحه. ومنهم من ذهب أبعد من ذلك واعتبر أن “جيل جيلالة” صناعة رسمية الهدف من تأسيسها التشويش على تجربة “ناس الغيوان”، باعتبار أن هذه الأخيرة فرقة “ثورية” أرادت قول شيء وهناك من لا يرضيه توجهها.

غير أن “مولاي الطاهر الأصبهاني”، وهو أحد الأعمدة الأساسية لمجموعة “جيل جيلالة”، ينفي هذه الاتهامات جملة وتفصيلا، إذ يؤكد أن تأسيس المجموعة لم يكن مدروسا، فقد اتصل به حميد الزوغي وطرح عليه الفكرة فأعجبته، ولم يكن أعضاء الفرقة يعرفون بعضهم حتى يتفقوا على مؤامرة معينة.

 

تجميع الفرقة.. ألوان من الزهر في حديقة واحدة

في الوهلة الأولى عقد حميد الزوغي لقاء بين سكينة ومحمود السعدي ومولاي الطاهر، ولم يكن أيّ منهم على معرفة بالآخر، واقترح مولاي الطاهر على الزوغي أن يأتي بمحمد الدرهم الذي لم يكن الزوغي على معرفة به، بعدما أبلغه مولاي الطاهر بأنه زجال ويعمل مع محمد عفيفي بالمسرح البلدي لمدينة الجديدة.

هكذا وقع اللقاء وهكذا كانت البداية وكان محمد شهرمان أول ناظم للفرقة، وهو من كتب أغنية “الكلام المرصع” وأتمها محمد الدرهم، ثم قاموا باستدعاء عبد الرحمن باكو الذي كان يبحر في عوالم “كناوة” بمدينة الصويرة.. هذا التجميع يطرح سؤالا بدهيا مفاده: كيف لأشخاص لا علاقة قبلية بينهم أن يتآمروا للتشويش على أي كان؟

ففي 28 سبتمبر/أيلول 1972 قرر ستة من الشباب المغمورين تشكيل مجموعة غنائية، وهم: حميد الزوغي والطاهر الأصبهاني ومحمد الدرهم ومحمود السعدي وسكينة الصفدي وعبد الرحمن باكو.

صعد هؤلاء قبل انطلاقهم في رحاب العالم الفسيح الذي ينتظر إبداعاتهم التي ستخترق المكان وتتجاوز الزمان على خشبة مسرح الهواة، وبعد أن لاحظوا تفاعل الجمهور مع أغانيهم في وسط العروض المسرحية رغبوا في المغامرة وتشكيل فرقة موسيقية، لتتبلور الفكرة وتظهر على أرض الواقع.

 

عروض التلفزيون المغربي.. بداية النجاح

في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من السنة نفسها، قدمت “جيل جيلالة” عرضها الأول من خلال ثلاث أغاني على التلفزيون المغربي، وهي “الكلام المرصع” و”العار أبويا” و”جيلالة”.

انتشر اسم “جيل جيلالة” لسهولة نطق الاسم ونغمته وتيمنا بالولي الصالح عبد القادر الجيلاني الذي كانت زواياه معروفة بدورها الإرشادي في المجال الديني. وقد ضمّت المجموعة كذلك عبد العزيز الطاهري وعبد الكريم القسبيجي ومحمد شهرمان، وظلت الفرقة ملتزمة بخط الأغاني الشعبية المغربية التي تخدم القضايا الاجتماعية والسياسية معتمدة على الآلات الإيقاعية والوترية.

لم يكن اختيار الاسم اعتباطيا، فجيل جيلالة كانت تسمية ترمز إلى المنهج الذي ستتبعه الفرقة، ويقوم على المراوحة بين الانفتاح على معاصريهم مع العودة والنهل من التراث. هكذا ارتسمت ملامح هذه الفرقة التي ستكون همزة وصل بين الماضي بموسيقاه الثريّة والحاضر بصخبه وتنويعاته الفنية.

 

اكتفاء الفرقة الذاتي.. مختبر موسيقي

عمدت الفرقة منذ نشأتها إلى الاعتماد على أعضائها في التأليف والتلحين (باستثناء عيسى الفاسي ومحمّد بن عيسى)، فكانت أشبه بالمختبر الموسيقي الذي يضمّ محمّد الدرهم وعبد العزيز الطاهر المختصين في البحث والنّبش في التراث مع صوت المايسترو الطاهر الأصبهاني.

استلهمت الفرقة العريقة كلماتها من التراث القومي، مستعملة في تناولها له لغة متداولة بين الناس، فهي لا تزعم أنها خلقت إيقاعات جديدة، وإنما نقبت عما قاله الأجداد وقدمته للجمهور بعد إزالة الغبار عنه وتجميله، فخاطبت بذلك المثقف والصانع والمتعلم والأمي والشاب والشيخ والرجل والمرأة، مستعملة لهذا الغرض كلمات عادية وإيقاعات بسيطة وآلات موسيقية عتيقة كالدف (البندير) والسنتير (آلة موسيقية مصنوعة من أمعاء الجمل).. هذه الآلات كانت تضفي جمالية في تناغمها مع “البزق” الذي كان “محمود السعدي” يُطرب به القاصي والداني.

أدّى اجتماع هذه المواهب مع العمل الدؤوب بهدف تطوير موسيقاهم إلى تسجيل أغاني لقيت تجاوبا كبيرا من قبيل “نكار الحسان” و”مل قلبي من الدنيا” و”لا تيأس” و”الشمعة” و”دارت بنا الدورة” و”رفقي يا دنيا” و”لا شيء عايش” و”فين احنا” و”ليام تنادي” و”الزمان الدوار” و”الزمان العجيب” و”القلب المسكون” و”الميزان” و”عام على عام” و”الجافي”، إلى جانب أغاني ذات طابع وطني من بينها “العيون عينيا” و”سلام عليكم يا عربي”.

غناء مع عبد الحليم حافظ.. انبهار العندليب الأسمر

تعززت قفزة “جيل جيلالة” النوعية بعد مقابلة عبد الحليم حافظ -الذي كان نجمه لامعا في تلك الفترة- إذ أُعجِب بأداء الفرقة لأغنية “ليغارة”، ليبلغ به التأثر حد الصعود على المسرح ومشاركتهم في الغناء، ثم الإشادة بصوت الأصبهاني.

والحقيقة أن هذه الأغنية -إضافة إلى صوت مولاي الطاهر- شدت العندليب لأنها تتعرض للحُب، وتتميز بنسقها المنخفض وإيقاعها الهادئ السلس الذي يضفي عليها نفحة صوفية وحسا وجدانيا دينيا.

 

حفلة في القصر الملكي.. ذورة النجاح المحلي والعربي

من مسرح الهواة إلى التلفاز انطلقت فرقة “جيل جيلالة” في أداء أغانيها التي لقيت رواجا لدى الجميع، خاصة شباب السبعينيات. وفي السابع من أكتوبر/تشرين الأول 1972 أحيت فرقة “جيل جيلالة” حفلا أمام أكثر من ألفي متفرّج بالدار البيضاء لتستدعى بعد ذلك إلى القصر الملكي، وكانت هذه المقابلة مع الملك الانطلاقة الحقيقية وميلاد فرقة ستكتسح الساحة العالمية.

حلق الأصبهاني وزملاؤه عاليا في سماء أشهر المدن في العالم واكتسحوا مسارحها وعرّفوا بالأغنية المغربية والعربية عموما، فبعد التكوين وسنوات البحث، انطلقت الفرقة لإحياء مجموعة من الحفلات في مختلف أنحاء العالم، وأصبحت “جيل جيلالة” رمز الأغنية الملتزمة في العالم العربي.

وفي السعودية سنة 1979 وفي إطار الأسبوع الثقافي المغربي أُعجب الجمهور بأغنية “القدس” وتفاعل معها بشكل لافت، وهي أغنية تتميّز بإيقاعها الأفرومغاربي مع نسق سريع، وتشير كلماتها إلى الحالة المزرية التي وصل لها العالم العربي، وهي أيضا دعوة للوحدة والانعتاق من كل سلطة مستبدة “العَرْبِي خُويَا.. قَلب وَاحِدْ دَامْيَاهْ الحرية”. كما شاركت المجموعة في المهرجان الأفريقي بطوكيو سنة 1986 وحصلت على الجائزة الأولى، ومن أفريقيا إلى آسيا مرورا بأمريكا تركت “جيل جيلالة” بصمتها وظلّت خير سفير للأغنية المغربية.

من بين مجموعة الأغاني التي قدّمتها فرقة “جيل جيلالة”، تبقى “الله يا مولانا” الأكثر رواجا في العالم العربي؛ إذ يطلبها الجمهور ويردّدها ويحفظها عن ظهر قلب. لقد تحوّلت هذه الأغنية إلى رمز للفرقة، وإن قدّمت مجموعة من الأغاني ذات البعد الديني الصوفي مثل “سبحان الفرح” و”نور الله”.

 

إلى غياهب النسيان.. اختلافات مادية تمزق الفرقة

رغم أن فرقة “جيل جيلالة” حققت شهرة واسعة في كل أنحاء العالم، فإنها فشلت في تجنب الهزات والخلافات، فغادرها عدد من الأعضاء المؤسسين الذين كانوا منذ البداية القلب النابض للمجموعة.

فقد اتجهت الفرقة نحو الشرق العربي بعد أن أنجزت فيلما حول مسارها، وأعدت عددا من الأغاني القومية ستحط بها الرحال في الكويت والسعودية والأردن والعراق وليبيا وسوريا. وستعود من هناك منقسمة إلى قسمين؛ قسم “النخبة” -كما يسميه مولاي الطاهر- الذي يضم محمود السعدي ومحمد الدرهم وحميد الزوغي، أما القسم الثاني فـهو “عباد الله” الذي يضم الطاهر الأصبهاني وسكينة الصفدي وعبد الكريم القسبيجي وعبد العزيز الطاهري، لتبدأ مرحلة أخرى من حياة المجموعة.

كانت الخلافات ذات طابع مادي أساسا، ثم تحوّلت بدرجة أقل إلى اختلاف في الرؤى حول الموسيقى المقدمة والمنهج المتبع في انتقاء الأغاني التراثية، وهو ما أدّى إلى انقسام الفرقة.

بين عامي 1984 و1994 تفاقمت الأمور تدريجيا، ولم تصمد اللحمة التي كانت تربط الأعضاء طويلا، فتراجع الإنتاج وأصبحت الفرقة في غياهب النّسيان. لقد كانت الفرقة المغربية “جيل جيلالة” علامة فارقة في تاريخ الموسيقى العربية، فقد عرفت بالأغنية الملتزمة وكانت كلماتها وألحانها مرآة عاكسة لمشكلات عصرها. أرّخ الأصبهاني وزملاؤه على طريقتهم لحقبة زمنية زاخرة بالأحداث المهمة.