نكبة المناهج.. كيف غابت القضية الفلسطينينة في مناهج الدراسة؟

تعددت ألوان وميادين الصراع الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي منذ لحظة ميلاد القضية الفلسطينية قبل النكبة وبعدها وحتى اليوم، بدءا من القضايا السياسية الكبرى وانتهاء بتفاصيل حياة الإنسان الفلسطيني المقيم على أرضه والمنفي في الشتات.

ومن اليوم الأول للنكبة الفلسطينية، كان التعليم واحدا من أهم ميادين الصراع على وعي النشء الفلسطيني بقضيته وهويته الوطنية، ولذلك بذل الاحتلال الإسرائيلي وما زال يبذل جهودا متواصلة لتزييف هذا الوعي وزرع روايته الخاصة للصراع العربي الإسرائيلي، سواء في المدارس العربية داخل الخط الأخضر أو في الضفة وغزة في مراحل سابقة.

يجسد فيلم “نكبة المناهج” الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية تفاصيل هذه النكبة الثقافية على لسان مختصين خاضوا هذه المعركة منذ أن كانوا طلبة في المدارس الابتدائية حتى أصبحوا المعنيين بمواجهة الاحتلال في هذا الميدان، بتوليهم مسؤولية التعليم ونشر الوعي بين طلبة المدارس والجامعات الفلسطينية داخل الوطن وفي الشتات.

يستعرض الفيلم ذكريات عدد من الفلسطينيين وتجاربهم في الوطن وخارجه في مضمار التعليم في وقت مبكر، وحتى أصبحوا خبراء في ميدان التعليم المدرسي والجامعي، ويروون شهاداتهم حول محاربة الاحتلال الإسرائيلي لمحاولات ترسيخ الهوية الفلسطينية لدى طلبة المدارس، وكيف حالت الظروف السياسية في الدول العربية المضيفة للاجئين على مدى عقود من تمتع الفلسطيني بحرية تعليم أبنائه قضيته الوطنية. ولتيسير متابعة تطور وضع التعليم ومناهجها في كل منطقة حل بها الفلسطينيون، سنجمع مداخلات كل الضيوف، لتقديم رواية متسلسلة حول تجربتهم.

تزييف الوعي.. أولى معارك الاحتلال الثقافي

يرى الباحث والمؤرخ د. شكري عرّاف، أن “الاحتلال الإسرائيلي بدأ معركة تزييف الوعي مبكرا، وتحديدا عام 1978 حين أقيمت مستوطنة “بتاح تكفا” أي (فتح الأمل) في منطقة ملبس، ومن ذلك التاريخ بدأ تغيير أسماء المناطق والأودية والتلال وحتى الشوارع في ما يزيد عن 8000 موقع غير الاحتلال الإسرائيلي أسماءها العربية إلى عبرية، وهدف من ذلك إلى مصادرة الجغرافيا الفلسطينية، وهذه نكبة بحد ذاتها”.

يستعرض الفيلم مقاطع من التغطية الإعلامية الغربية لفترة مزدحمة بالأحداث مثل مشروع تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة، والنكبة التي حلت بفلسطين بقيام دولة إسرائيل وإعلان “بن غوريون” رئيسا للوزراء، وكيف أصبحت فلسطين تسمى إسرائيل في الإعلام الغربي.

الاحتلال الإسرائيلي بدأ معركة تزييف الوعي منذ بدأ بتغيير أسماء المناطق والأودية والتلال وحتى الشوارع

ويستذكر الباحث شكري عرّاف المقيم داخل الخط الأخضر بعض ذكرياته حين كان طالبا في فترة الانتداب البريطاني بقوله: كنا ندرس ما تريده بريطانيا، وهو تغييب القضية الفلسطينية وإتاحة المجال لإقامة دولة إسرائيل، فالمدارس العبرية كان لها استقلالها، وتدرس منهجا وضعته الوكالة اليهودية، أو ما يسمى “الحكومة اليهودية المؤقتة”، وكان الطالب اليهودي في الصف العاشر والحادي عشر يدرب على السلاح بمختلف التنظيمات العسكرية والسياسية.

ويعود عرّاف إلى تلك المرحلة بذاكرته فيقول: أنهيت دراستي الثانوية في عكا، وكان هناك حوالي 150 قرية وبلدة عربية و48 مدرسة، وكان من ينهي الصف الثامن الابتدائي يمكنه التدريس في هذه المدارس بعد إلحاقه بدار المعلمين حتى يسدوا النقص في قطاع التعليم.

ويضيف: بدأت أدرّس في مدرسة حسن عرفة في يافا، وكان الحكم العسكري يضغط علي كفلسطيني ويركعني ويجوعني ويقيد حركتي، ورغم ذلك كنت أدرس منهجا وضعته وزارة المعارف الإسرائيلية، فهل ستضع الوزارة الإسرائيلية منهجا وطنيا قوميا للفلسطينيين؟ طبعا هذا مستحيل.. وهذا ما زال قائما حتى اليوم، فهي تريد مني الولاء، وإذا أردنا الولاء باتجاهه الصحيح، فليس أمامنا سوى التعليم، وهو أهم نشاط في أي دولة عربية.

صهينة المناهج.. عنصرية منذ عصر الانتداب

إلى جانب د. شكري عرّاف يقدم الفيلم شهادة خبيرين تربويين من فلسطين 48 هما د. محمود ميعاري الرئيس السابق للمجلس التربوي العربي داخل الخط الأخضر، ونيفين أبو رحمون المدرّسة والنائبة السابقة في الكنيست.

يعود د. محمود ميعاري إلى جذور نكبة التعليم فيقول: كان في عهد الانتداب جهازان للتعليم، واحد لعربي والآخر عبري قبل قيام إسرائيل، وقد أدخل التعليم العبري مادة “مدنيات” تحت مسمى تربية مدنية، وكان الهدف منها تعريف المستوطنين اليهود القادمين من مختلف أنحاء العالم بالبلاد والمؤسسات الصهيونية الفاعلة داخل وخارج فلسطين، وتعريفهم بمزايا الدولة اليهودية المستقبلية.

حاول جهاز التعليم العبري قبل قيام إسرائيل إدخال مواد وطنية تدرس تاريخ اليهود وهجراتهم ومصطلحاتهم

وبعد قيام إسرائيل أصبحت كل المناهج في المدارس العربية في 48 مناهج إسرائيلية، ولم يكن هناك رد عربي منظم، والسبب أن فلسطينيي 48 في الخمسينيات والستينيات كانوا في صدمة، كما يرى ميعاري “لأنهم انتقلوا في ليلة وضحاها من أغلبية في فلسطين إلى أقلية في دولة احتلال، وهي أقلية محبطة ومهزومة ومبعثرة بدون قيادة، لأن كل النخبة الاجتماعية الفلسطينية خرجت، أو هجرت من فلسطين بسبب النكبة”.

ومن الأمثلة التي يضربها د. ميعاري على أسرلة (من إسرائيل) المناهج في المدارس العربية داخل الخط الأخضر قوله: منهاج التاريخ العربي كان يهمل أو يغيب تقريبا تاريخ العرب الحديث، وتاريخ النهضة العربية، وتاريخ الحركة القومية العربية والحركة الوطنية الفلسطينية، ويهتم أكثر بالتاريخ العربي القديم، مثل تاريخ الجاهلية والإسلام والعباسيين وغيرها من المراحل، هذا في حين يركز التاريخ اليهودي الذي يتعلمه الطلبة العرب على تاريخ اليهود الحديث والحركة الصهيونية وهجرة اليهود إلى فلسطين واستيطانهم واستعمارهم لفلسطين، ويركز على كتب وأدبيات هرتسل والزعماء الصهيونيين الآخرين، ويستخدم مصطلحات صهيونية مثل أرض إسرائيل وأورشليم وحرب الاستقلال.

فلسطيني الخط الأخضر.. مطرقة الاحتلال وسندان السلطة

يتحدث د. محمود ميعاري عن معركة المناهج ضد الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، أنها كانت تعرفهم “كمواطنين عرب، وأحيانا تشير لهم كطوائف، فهي لا تعترف بالعرب داخل إسرائيل كأقلية قومية أصلية ذات حقوق جماعية. منهاج اللغة العربية الإسرائيلي يركز بالأساس على المعرفة اللغوية ويهمل دور اللغة في تعزيز هوية الطالب الجماعية، حتى أن رموز الأدب الوطني الملتزم مثل محمود درويش وسميح القاسم وغسان كنفاني مغيبون، بعكس منهاج اللغة العبرية الذي يدرس للطلاب اليهود والعرب، ويهدف إلى تعزيز الوعي الصهيوني”.

الاحتلال يعمل على إفشال إضراب تلاميذ المدارس العربية ضد المناهج الإسرائيلية

أما الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة فلا ذكر لهم في مناهج التعليم المخصصة للعرب في إسرائيل، وأما منهاج الجغرافيا فهو يعتبر إسرائيل هي كل فلسطين التاريخية، ويسمي الضفة الغربية (يهودا والسامرا)، فهو يتجاهل السكان العرب في الضفة وغزة. وكما يقول الدكتور راسم خمايسة الذي أجرى دراسة على مناهج الجغرافيا، “إن منهاج الجغرافيا هو منهاج إنكار وجود الشعب الفلسطيني”.

لم يطرأ أي تغيير على هذا الوضع إلا في السبعينيات مع تأسيس اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، وفي عام 1984 أسست لجنة متابعة قضايا التعليم العربي، وبدأت ترفع صوتها للمطالبة بحد معين من الاستقلالية في التعليم العربي، لكن لم يحدث تغيير جوهري في المناهج المخصصة للعرب، باستثناء تغييرات طفيفة، وإدخال مواد تعرف بالثقافة العربية والتراث العربي.

ويعرب د. ميعاري عن خيبة أمل فلسطينيي الداخل “لأن السلطة أحيانا تستجيب للضغوط الإسرائيلية والأمريكية والاتحاد الأوروبي، وإذا كانت إسرائيل نجحت في تعديل مناهج التعليم في مناطق السلطة الفلسطينية، فهذا يعني أن وزارة التعليم الإسرائيلية لن تستجيب لمطالبنا في فلسطين 48، فنحن نطالب باستقلالية التعليم العربي”.

طمس الهوية.. معركة الرواية الوطنية

تتحدث نيفين أبو رحمون عن مشهد النكبة في فلسطين 48 بقولها: من بقي في فلسطين 48 جزء منهم مهجرون من قراهم إلى البلدات المجاورة، فأنا مثلا هجّرت عائلتي من بيسان، ثم وزعوا على عدة مدن في الناصرة وحيفا وعكا، وقد تكون بقايا بيوت المهجرين موجودة في قراهم الأصلية، لكنهم لا يستطيعون العودة إليها، وهذا صعب على النفس. وقد بدأ الحكم العسكري الإسرائيلي من اليوم الأول لاحتلال فلسطين بمنع السكان من التنقل بين القرى المتجاورة دون تصريح، ومن يخالف يسجن أو يهان من قبل جنود الاحتلال.

مذ وطئت سلطات الاحتلال مواقع التعليم أخذت في تغيير المناهج والحقائق وحتى أسماء الشوارع

وترى نيفين أن “أحد إسقاطات النكبة على شعبنا الفلسطيني هو طمس الهوية الوطنية، والشريحة المستهدفة كانت شريحة الشباب من خلال المدارس، فقد جرى وضع منهاج بعيد كل البعد عن الواقع الفلسطيني، ومحاولة خلق معايير جديدة، لبناء هوية جديدة ترتبط بالواقع الإسرائيلي”.

وعن دور المدرّس في المدارس العربية داخل الخط الأخضر تقول نيفين: أنا كمدرّسة مادة مدنيات كان لي دوران، الأول تدريس منهاج للتحصيل العلمي، والثاني دوري ومسئوليتي كسفيرة للرواية الفلسطينية تجاه الطلاب، لتمرير قيم وطنية في مقابل الرواية الإسرائيلية، وهذا العمل ليس سهلا بسبب الملاحقة السياسية والأمنية.

وتبقى المشكلة الأساس مع المنهاج في المدارس العربية أنه منهاج إسرائيلي بامتياز، فمادة المدنيات تتحدث عن المواطنة والقوانين الإسرائيلية وأهمية المؤسسات، وتشمل النظام القائم من وثيقة الاستقلال إلى فصل السلطات وسيادة القانون للربط بين اليهودية والديمقراطية.

بين يهودية الدولة وديمقراطيتها.. شأن إسرائيلي داخلي

كان لنيفين أبو رحمون وغيرها من المعلمين العرب دور في التوعية “نحن نوعي الطلبة بالتناقض بين يهودية الدولة وديمقراطيتها، وهنا يبدأ الصراع الداخلي عند الطالب في التعامل مع المنهاج، خصوصا أنه يعيش تجارب يومية من مصادرة الأرض أو اعتقالات وإلغاء الفعاليات العربية، فهو يرى منهاجا مثاليا يتناقض مع الواقع الذي يعيشه في القضايا اليومية التي تخالف حقوق الإنسان الأساسية”.

سكان الـ48 يعانون من إسرائلية ويهودية المناهج التي يرونها مخالفة للحقائق والتاريخ

وتضيف نيفين: عندما نتحدث عن مشروع صهيوني وعن نكبة، فنحن نتحدث عن الإنسان والمكان، فقد جرى تغييب الإنسان الفلسطيني بشكل كامل وطمس هويته، كما جرى طمس معالم وأسماء البلدات والأماكن، وهذا كله ينعكس في المنهاج الإسرائيلي في المدارس والمناخ التربوي من خلال محاولة خلق علاقة بين الطالب والرموز اليهودية مثل العلم الإسرائيلي والنشيد الوطني الإسرائيلي.

وعن أجزاء الوطن الفلسطيني الذي قسمه الاحتلال الإسرائيلي، تقول نيفين: كان اللقاء الأول بين فلسطينيي الداخل وأهل الضفة الغربية بعد احتلال الضفة عام 1967، وكان الفلسطيني في الضفة يتصور أن إخوانهم في 48 راضون بحالهم وسعداء بواقعهم تحت الاحتلال الإسرائيلي، لكن الواقع غير ذلك.

وتأسف النائبة السابقة في الكنيست الإسرائيلي أن “اتفاقية أوسلو تعاملت مع وضع الداخل الفلسطيني وكأنه شأن إسرائيلي داخلي، وخلق ذلك صدمة كبيرة لدى فلسطينيي الداخل”. وتضيف: نحن نعوّل على سلطة تعزز الرواية التاريخية الفلسطينية، ونحن في الداخل جزء أصيل من هذه الرواية، وسلطة ترسم ملامح مستقبل إقامة دولة فلسطينية، ولكن تتمسك بقضية الشعب وحق العودة وكل ما مر به هذا الشعب.

الضفة الغربية.. تواري فلسطين تحت ظل المملكة الأردنية

عاش مدرس الأدب العربي المتقاعد عمر عساف في مخيم دير عمار، وهو مخيم ناءٍ يبعد عن رام الله حوالي 30 كيلومتر، يتذكر طفولته في المخيم فيقول: لأننا لاجئون، كان لا بد لأسرتنا أن تتحدث دائما عن قريتنا في فلسطين 48، والكل كان يقول سنعود حتما إلى ديارنا وأرضنا، وبالتالي كانت الأسرة نفسها جزء من وعي الفلسطينيين.

ويضيف: حين ألحقت الضفة الغربية بالأردن وأسست المملكة الأردنية الهاشمية كانت قضية فلسطين تدرس كماضٍ وكجزء من التاريخ العربي والإسلامي، وعند الحديث عما بقي من فلسطين، فتدرس كجزء من المملكة الأردنية، فمساحة المملكة 114 ألف كم مربع متضمنة الضفة الغربية، وهذا استمر حتى أواسط الستينيات.

مع انضمام الضفة الغربية للأردن تم تدريس منهاج القضية الفلسطينية لطلبة التوجيهي وألغي سنة 1986

وبحكم ارتباط الضفة بالأردن، فقد تأثر التعليم بهذا الواقع، فيقول عساف: كنا ندرس الثورة العربية الكبرى، وكأن التاريخ الفلسطيني والعربي بدأ عند ثورة الحسين بن علي، والمناهج الأردنية تركز على أن الأردن هو الوطن الذي ننتمي له.

لكن المشهد الثقافي الفلسطيني بدأ يتغير أواخر الخمسينيات، حين بدأت محاولات تشكيل اتحاد الطلبة والمد القومي وإذاعة فلسطين وصوت العرب حتى أواسط الستينيات حيث أسست منظمة التحرير الفلسطينية، حينها قررت الحكومة الأردنية أن تدرس كتاب “القضية الفلسطينية” للصف التوجيهي، بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية.

وبعد حرب 1967 واحتلال إسرائيل للضفة الغربية جرى تعيين ضباط إسرائيليين خاصين للتربية والتعليم، وعن تلك المرحلة يقول عساف: يفتشون في المدارس عن أي شيء يمكن أن تكون له صلة بالعمل الوطني مثل دفاتر الإنشاء، ليروا ماذا يكتب الطلبة ليستنتجوا منه بماذا يوجه المدرسون الطلبة، وهناك قائمة بآلاف الكتب التي منعها ضابط التربية والتعليم، والمعلمون في غالبيتهم لم يكونوا يستجيبون لهذه التوجيهات الإسرائيلية، مع أن الاحتلال حاول أن يفرغ المناهج من ألفاظ مثل الجهاد والمقاومة ومثل فلسطين.

القدس الشريف.. مدينة عصية على الاحتلال

يتحدث المدرس عمر عساف عن محنة التعليم الفلسطيني شرق القدس بعد احتلالها، فيقول: حاول الاحتلال تهويد التعليم في القدس، وفرض المنهاج الإسرائيلي في كل مدارسها، وقد رفض الفلسطينيون ذلك، وأضربت المدارس عن التعليم، وأمام الاستعصاء والرفض الفلسطيني تراجع الاحتلال عن مخططاته.

لكن الاحتلال الإسرائيلي عاود محاولة فرض أجندته على التعليم في القدس عام 1972 كما يروي عساف “بمحاولة فرض تعليم المناهج الإسرائيلية في الصفوف الدنيا في المدارس وتبقى الصفوف الأعلى على المنهاج الأردني، لكن هذه الخطوة لم تنجح بسبب الرفض الفلسطيني والإضراب عن التعليم، فمدرسة مثل المدرسة الرشيدية والمدرسة المأمونية -وهي من أعرق المدارس في القدس من أيام الدولة العثمانية- لم يبق فيها سوى 11 طالبا فقط، حتى عام 1975 حين خضع الاحتلال لإرادة الفلسطينيين بأن تدرس كل مدارس القدس المنهاج الأردني الذي يدرس في الضفة الغربية”.

اقتحام جنود إسرائيليين لإحدى مدارس البنات في القدس، والاعتداء على الطالبات بالضرب والاعتقال بسبب احتجاجهن وإلقاء الحجارة على الجنود

ويعرض الفيلم مشاهد لاقتحامات الجنود الإسرائيليين إحدى مدارس البنات في القدس، والاعتداء على الطالبات بالضرب والاعتقال بسبب احتجاجهن وإلقاء الحجارة على الجنود الذين يحاولون الدخول إلى المدرسة.

وحين اندلعت الانتفاضة الأولى في الضفة وغزة، “كان الاحتلال يدرك أن المعلمين والطلبة كانوا هم رأس الحربة في الصدام معه، وبالتالي أخذ الاحتلال قرارا بإغلاق المدارس، وأعطى المعلمين إجازة دون راتب، واستعاض الفلسطينيون عن إغلاق المدارس بالتعليم الشعبي، لمقاومة محاولة الاحتلال تجهيل الشعب الفلسطيني في ظل الانتفاضة، وحدثت اعتقالات كثيرة بتهمة ممارسة التعليم الشعبي”.

ومع انتهاء الانتفاضة ودخول القضية الفلسطينية بوابة اتفاقية أوسلو، والحديث عن السلام الفلسطيني الإسرائيلي، يقول عساف “كان يجب على التعليم أن يكون في خدمة السلام، لكن من إيجابيات اتفاق السلام أنه وحد المنهاج بين الضفة وغزة، لكن المشكلة كانت في مضامين هذه المناهج، لأن من وضعوها كانوا يخضعون لراقبة ذاتية، كما قال لي أحد المشاركين في وضعها، حتى لا يخرج المنهاج عن توجهات السلام، فكانت خالية في بدايتها حتى من تعريف فلسطين بشكل دقيق، فتصف الشريط الساحلي لفلسطين بأنه شواطئ غزة مثلا”.

ويضيف عساف: كانت “هيلاري كلينتون” تضغط باتجاه أن تلبي المناهج الفلسطينية الرغبة الإسرائيلية، بسبب التحريض الإسرائيلي المتواصل في هذه الموضوع، وكان هذا الضغط يأتي بنتيجة مع الجانب الفلسطيني.

طلاب الجامعات.. خطوة جبارة في تغيير الوعي

في ساحة أخرى خاض فيها التعليم الفلسطيني معركة مع الاحتلال يحدثنا رمزي ريحان الأستاذ في جامعة بير زيت وعميد كلية سابقا عن التعليم الجامعي بمختلف المراحل الوطنية، فيقول: عندما عدت إلى فلسطين عام 1970 كان النظام التعليمي يقوم به الفلسطينيون أنفسهم، لكن الإسرائيليين كانوا يتدخلون في بعض الأمور، مثل أن تعيين أي شخص في النظام التعليمي كان يخضع لموافقة المخابرات الإسرائيلية، وأجرى الاحتلال تعديلات في الكتب المدرسية لشطب مصطلحات مثل فلسطين والتحرير وغيرها، وكان يقيل المدرسين الذي يحملون آراء سياسية لا تروق للاحتلال.

طلبة الجامعات لعبوا دورا رئيسيا في ترسيخ الوعي في المناطق الفلسطينية

ويرى ريحان أن حرب 1967 أوصلت الفلسطينيين بعضهم ببعض، فمثلا “في جامعة بير زيت في السبعينيات كان يأتينا طلبة فلسطينيين من الجليل، وكان ثلث طلابنا في الثمانينيات من قطاع غزة، ومن الأردن ومن أمريكا، وطبعا هؤلاء الطلبة تلقوا مناهج تعليمية مختلفة، لكن المشترك بينهم كان الهوية الفلسطينية، نحن فلسطينيون”.

ويعتقد أن طلبة الجامعات لعبوا دورا رئيسيا في ترسيخ الوعي في المناطق الفلسطينية، من خلال تنظيم المظاهرات وتوزيع المنشورات والاشتباك مع الاحتلال، وبتراكم هذه الأنشطة تأسست قاعدة مناسبة لاندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987.

وعن فترة الانتفاضة يقول ريحان: أغلقت الجامعات لمدة أربع سنوات، لكن ذلك لم يمنعنا من العمل، فكنا نستأجر دكاكين وتحويلها إلى صفوف تعليمية، وكان طلبتي يأتون إلى بيتي ليدرسوا، وكانت هذه أول مرة منذ الثلاثينيات يشعر فيها الفلسطيني أنه يمكن أن يتخلص من الاحتلال ويتدبر أموره ويتحكم بمصيره، وكانت هذه خطوة جبارة في تغيير الوعي والفكر.

ويعتقد ريحان أن المناهج تركز في ذهنية الطالب أننا ضحية، “نعم نحن ضحية، لكن بإمكاننا القيام بأشياء كثيرة، مثل أخذ زمام المبادرة، فقد كان تأسيس الجامعات في الضفة نتيجة إغلاق الاحتلال لكليات كانت موجودة”. ويضيف: بالمقارنة بين المناهج الإسرائيلية والفلسطينية، نجد أن الإسرائيلية مغرضة ومتحيزة أكثر من الفلسطينية، لكن إسرائيل بقوتها الإعلامية تستطيع الإقناع أن مناهجنا “لا سامية”، وهذا غير صحيح.

قطاع غزة.. فصول متتالية من الخيبات

نموذج آخر من نكبة اللجوء ومعاناته في كل مناحي الحياة، يرويها د. سهيل دياب عميد كلية التربية في جامعة غزة الذي خرجت أسرته من “المسمية الكبيرة” متجهة إلى الجنوب، حيث استقرت في مدينة غزة، وكان عمره في ذلك الوقت ثلاث سنوات، وبعد سنتين دخل المدرسة، وكانت مشكلة اللاجئين قد فرضت نفسها على المجتمع الدولي، فتشكلت منظمة “الأونروا” لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين.

وكما هو معروف فإن النكبة أدت لتهجير قرابة 85% ممن كانوا يعيشون على أرض فلسطين إلى خمس مناطق خارج الوطن، في الأردن والضفة الغربية وقطاع غزة ولبنان وسوريا، وبقي البعض داخل الأرض المحتلة، حيث دمرت العصابات الصهيونية معظم القرى الفلسطينية، بما يقارب 539 قرية، فضلا عن تهجير أهلها”. ويلاحظ دياب أنه “أينما وجد الفلسطيني فهو لا يزال ينسب إلى البلدة التي هُجّر منها”.

في قطاع غزة كان المنهاج المصري هو المعتمد سواء في مدارس الأونروا أو مدارس الحكومة

ويقدم الفيلم مشاهد من الإعلام الغربي تعرض تدمير عصابات الهاغانا الصهيونية بعض مناطق مدينة حيفا والقرى الفلسطينية وقتل سكانها بالقصف وأسر العديد من السكان، واضطرار الكثيرين إلى الهروب من منازلهم بما يمكنهم حمله من متاع.

يقول دياب عن مرحلة الطفولة: كنا نتعلم في قطاع غزة المنهاج المصري، سواء في مدارس الأونروا أو مدارس الحكومة، لأن القطاع كان ملحقا بالإدارة المصرية، والمنهج المصري لم يتضمن أي شيء عن القضية الفلسطينية، باستثناء ما ندر عن حرب 1948، لكنه خلا تماما من جغرافية وتاريخ فلسطين.

ومما يذكره عن التعليم المبكر أن المنهج كان يفرض تدريس الآثار المصرية في مدارس غزة، فكان المعلم يغطي المطلوب في الكتاب، ثم يعرف الطلبة على الآثار الفلسطينية في مبادرات ذاتية، وبمطالبة من المشرفين التربويين ومدراء المدارس أحيانا بتدريس التاريخ والجغرافية الفلسطينية.

وعن محاولات ربط الطلبة مبكرا بقضيتهم يقول دياب: كان كل الطلبة يرددون النشيد الوطني الفلسطيني ونشيد عائدون في طابور الصباح في مدارس الوكالة، وكان يرفع العلم الفلسطيني إلى جانب علم وكالة الغوث الأونروا في هذه المدارس، وفي المدارس الحكومية كان يرفع العلم المصري والعلم الفلسطيني.

وبعد حرب 1967 استمر الوضع على حاله، وبقيت المناهج المصرية هي المقررة في مدارس غزة، لكن إسرائيل كانت تحاول عرقلة وصول المناهج المصرية للقطاع، وتمنع وصول الكتب المتعلقة بتاريخ وجغرافيا فلسطين، إلا أن بعض المعلمين كان يبادر بجهد ذاتي لتعويض هذا النقص، وحرمنا من رفع العلم الفلسطيني والأنشطة الكشفية والرياضية، وكان الاحتلال يعتقل أي شخص يجد عنده العلم الفلسطيني، كما يتذكر دياب.

“طبعة تجريبية”.. آفة غياب الفلسفة التربوية

بقي وضع التعليم في قطاع غزة كما هو، حتى بعد “اتفاقية كامب ديفيد”، وبقي المنهاج المصري كما هو حتى مجيء السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994، ويقول دياب: كنا جميعا نحلم أن يكون لنا منهاج تعليمي فلسطيني موحد يطبق في مدارس الضفة وغزة.

ولرصد ما تغير في المناهج بعد اتفاقية أوسلو يقول دياب: قمت بدراسة عام 2009 مع مجموعة من المعلمين، وكان الهدف معرفة مدى تضمين كتب المنهاج الفلسطيني لقضايانا المعاصرة ولثوابتنا الفلسطينية، فعلى سبيل المثال في كتاب جغرافيا الوطن العربي كانت هناك إشارة واحدة فقط عن دوافع الهجرة بشكل عام عن تهجير مليون فلسطيني من أراضيهم عقب حربي 1948 و1967. وكتاب جغرافيا فلسطين لم يذكر سوى موقع فلسطين على خريطة صماء دون أن يجرؤ على ذكر حدودها ومدنها.

كتاب جغرافيا فلسطين الذي طبع في زمن السلطة لم يشر حتى إلى حدود فلسطين

ويواصل دياب استدلالاته عن محتوى المنهاج في قطاع غزة فيقول: في كتاب التاريخ العربي الحديث والمعاصر للصف التاسع، الصفحة 74 عن حرب 1948 ورد التالي: “هزمت الجيوش العربية ووقع تشريد الآلاف من الفلسطينيين كلاجئين إلى الضفة الغربية وقطاع غزة وجزء كبير منهم إلى خارج فلسطين.” هذا كل ما ذكر عن النكبة، أما بخصوص حق العودة وهي إحدى الثوابت الأساسية ولب القضية الفلسطينية، فلم يرد أي ذكر له إلا في كتاب التربية الوطنية للصف التاسع، بحجة أن موضوع اللاجئين أحيل لمفاوضات الوضع النهائي.

ويعتقد دياب أن “كل مشكلات المنهاج الفلسطيني سببه غياب فلسفة تربوية فلسطينية واضحة، والتعديلات التي أجريت على الميثاق الوطني الفلسطيني أدت إلى ظهور المناهج بهذا الشكل”. لكن وقع إجراء تعديلات على هذه المناهج بعد 11 سنة من وضعها، وأضيفت موضوعات ودروس تركز على حقوق شعبنا الفلسطيني في إقامة دولته الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف.

وبلهجة ساخرة يقول دياب: عندما طبع المنهاج الفلسطيني كتب عليه أنه “طبعة تجريبية” وبقيت هذه الصفة التجريبية ملازمة للمنهاج الفلسطيني منذ عام 2000 إلى عام 2011، أي أن جيل كامل تعلم بالطبعة التجريبية.

مخيمات لبنان.. جريمة التغريد خارج السرب

كما هو حال الوجود الفلسطيني الصعب في مخيمات اللاجئين بلبنان كان حال التعليم، وعن رحلة التعليم والمناهج في لبنان، يقول المدرس ومدير مدرسة المتقاعد زياد كعوَش: أنا من قرية نيرون في قضاء صفد، لجأ والداي إلى لبنان عام 1948، واستقروا في مخيم “المية مية”، وأنا ولدت عام 1950 بعد عامين من اللجوء، وتعلمت في مدرسة صفد التابعة للأونروا في المخيم، فكانوا يسمون المدارس على أسماء البلدات أو المدن الفلسطينية التي قدم معظم سكان المخيم منها، وكنا نتعرف على تاريخ فلسطين من الآباء والأمهات والأجداد.

وكالة تشغيل اللاجئين الفلسطينين الأونروا بنت المدارس للاجئين في المخيمات في الداخل والشتات

وعن مرحلة الخمسينيات والستينيات يقول كعوش: لم يكن هناك منهج حول جغرافيا وتاريخ فلسطين، فالأونروا تطبق منهج الدولة المضيفة، فكان عندنا تاريخ وجغرافيا لبنان هو الذي يدرس للطلبة الفلسطينيين، لكن كان المدرس المنتمي لقضيته يقدم لطلبته ما تيسر له من معلومات وخرائط لتوعيتهم بتاريخ وجغرافيا فلسطين في جهد ذاتي منه، ولكن ليس بشكل منهجي.

وبسبب الوضع السياسي المتوتر في تلك الفترة يقول كعوش: كان الناس يخافون من الحديث عن قضية فلسطين، حتى أن بعض المعلمين كانوا يعتقلون بسبب ذلك، وأذكر أن معلما في مدرسة “شهداء فلسطين” اختفى من المدرسة مدة أسبوع، وعندما عاد كان حليق الرأس، وتحدث عما جرى معه في الاعتقال، فكانت حقبة قاسية، لكنها كانت إيجابية جدا لبناء الشخصية الفلسطينية، وإبقاء القضية الفلسطينية حية.

وعند إحياء الأيام الفلسطينية مثل النكبة ومجزرة دير ياسين لم تكن المدارس تغلق، بل يمضي كيوم تعليمي طبيعي، لكن ينظم مهرجان بسيط حول القضية الفلسطينية يحضره كل أهالي المخيم ومن كبار السن الذين كنا نرى دموعهم عندما يتذكرون أرضهم.

“العودة غايتنا”.. خطوة أولى باتجاه فلسطين

يتذكر كعوش حال المدارس في الصفوف الأولى قائلا: أذكر أننا كنا نصطف في الطابور الصباحي، وكان المدرس يختار طالبا صوته قوي، لأننا لم تكن لدينا مكبرات صوت حينها، فيردد هتافات ونحن نرد عليه: فلسطين موطننا، العودة غايتنا، الجهاد طريقنا، العلم نورنا، الشهداء أئمتنا، الموت لن يرهبنا، فلسطين لنا لنا لنا.

العودة حق تتوارثه أجيال فلسطين مهما تشتتوا في العالم

وعن الفترة من عام 1968 وصولا إلى السبعينيات، يقول كعوش: أصبحت الحركة السياسية أمرا مسموحا به وصارت هناك حرية في تنظيم أنشطة سياسية، وتراجع الحديث عن الفلسطينيين كأقلية، وارتفع الحديث عن الفصائل والأحزاب الفاعلة في استقطاب الشباب الفلسطيني، باعتبارها الخطوة الأولى باتجاه العمل لفلسطين، فأصبحنا نشعر أننا اقتربنا من فلسطين السياسية، وابتعدنا عن فلسطين القضية، فأصبحت المدارس تغلق أبوابها في الأيام الوطنية الفلسطينية مثل النكبة ووعد بلفور وقرار التقسيم، فغاب عن وعي الطلبة هذه القضايا لأنها لم تعد تنظم لها فعاليات تحييها.

ويرى كعوش أن طرح القضية الفلسطينية منهجيا يثير العديد من الأسئلة، فالنكبة حدثت بسبب قيام دولة إسرائيل وتخاذل الأنظمة العربية، فماذا حدث بعد اللجوء، ولماذا وضع اللاجئ تحت القمع ومنع من الحديث عن قضيته أو وضع خارطة لفلسطين في بيته؟ ينبغي أن يتضمن أي منهج عربي في لبنان وغيرها جزءا يعرف بالقضية الفلسطينية، وليس على الهامش، لأن القضية جزء من قضية المنطقة ومؤثرة فيها، وليست خاصة بالشعب الفلسطيني.

السلاح في وجه القلم

يختتم الفيلم بمشهد أرشيفي معبر، حيث يوقف جنود إسرائيليون بأسلحتهم طفلا فلسطينيا لا يتجاوز ثمانية أعوام في طريقه إلى المدرسة، ويأمرونه بترك حقيبته على الأرض والوقوف إلى الجدار رافعا يده، ويتابعون توجيه التعليمات له، وهو يستجيب لأوامرهم ثم يكمل طريقه.

الإرهاب اليهودي ضد أطفال المدارس لم ينقطع عن طلاب الضفة الغربية خاصة

والمشهد فيه إشارة إلى تحكم القوة العسكرية الإسرائيلية في عملية التعليم الفلسطيني، كما يمكن أن يشير إلى معاناة الطالب الفلسطيني في رحلة التعليم من القمع الإسرائيلي.