نوفمبر/تشرين الثاني.. شهر النكبات العربية إبان الحرب العالمية الأولى

خاص-الوثائقية

يرتبط شهر نوفمبر/تشرين الثاني بكثير من الأحداث الفاصلة في مجريات الحرب العالمية الأولى التي عاشتها البشرية بين عامي 1914 و1918، خاصة منها الهدنة التي جرى توقيعها يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1918، لتسمح بإنهاء هذا الفصل الدامي من تاريخ البشرية.

تروي سجلات التاريخ تفاصيل مثيرة عن بدايات هذه الحرب وأطوارها وأسرار المفاوضات السرية التي جرت في الأسابيع التي سبقت الاتفاق-الهدنة، ومضمون البرقيات والرسائل التي جرى تبادلها حينئذ، وما سبق هذه الهدنة من اتفاقات تمهيدية مع الدولة العثمانية والإمبراطورية النمساوية.. لكن المجهول الأكبر في هذا التاريخ الذي كتبه الأقوياء والمنتصرون، هو العرب.

فرغم أن التاريخ الذي باتت شعوب المنطقة العربي معنية عنده رسميا بخوض الحرب العالمية الأولى يقع في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 1914، فإن الإنسان العربي يظل وبامتياز الجندي المجهول في تلك الحرب. فقد ناله نصيب وافر من القتل والفتك والدمار، ودخل غمار الاقتتال دون أن يكون معنيا به أو طرفا في أي من رهاناته، بل واضطر العرب إلى مواجهة بعضهم، حين التحق نصفهم بجيش العثمانيين الموالي لألمانيا، وحارب النصف الآخر في صفوف الجيشين الفرنسي والبريطاني، وانتهى الأمر بهذا الإنسان العربي خاضعا بالكامل للاستعمار في نهاية الحرب، مجردا من مظلة الحكم العثماني ومفتونا بكائن سرطاني جديد زرع في جسده أثناء الحرب، وهو المشروع الصهيوني في فلسطين.

 

مقتل ولي العهد في سراييفو.. شرارة اندلاع الحرب

يحكي فيلم “يوميات الحرب العظمى” -الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية- في جزئه الأول الذي يحمل عنوان “الهاوية” قصة ما جرى في 18 يونيو/حزيران 1914، حين كانت سراييفو عاصمة البوسنة تترقب وصول الأمير “فرانز فرديناند” من عائلة هابسبرغ النمساوية، وفجأة حدث إطلاق نار وقتل الأمير وزوجته في وضح النهار، وأدت وفاة ولي عهد أقدم عائلة مالكة في أوروبا إلى إعلان الحداد وحالة غضب عارمة.

فقد عرف وقتها أن مرتكبي الهجوم ومحرضيهم كانوا من الدولة الصربية المجاورة، فنادى قادة الجيش النمساوي إلى الحرب على الإرهاب وحملة تأديبية ضد صربيا، لكن صربيا سارعت إلى طلب تفعيل اتفاقاتها الدفاعية المشتركة مع روسيا، بينما كانت النمسا تعول على الدعم العسكري من جارتها ألمانيا، فكانت تلك شرارة الحرب الكونية الأولى[1].

 

سقوط باريس.. انتصار ألمانيا الأول

منذ الوهلة الأولى كانت الحرب الدموية تستدعي العرب للوقوف في جبهاتها الأولى، بما أن فرنسا كانت من بين أولى الأطراف المشتركة في الحرب، وكانت تحت سيطرتها شعوب مستعمرة كثيرة، وفي مقدمتها الشعوب المغاربية التي سوف تكون مدعوة منذ اليوم الأول للمعركة للمشاركة في الخطوط الأمامية من الحرب.

فقد كانت النمسا مستندة وهي تعلن الحرب على صربيا، إلى جارتها وحليفتها ألمانيا، وكانت خطة ألمانيا العسكرية تفرض عليها التوجه نحو جارها اللدود فرنسا قبل أي معركة أخرى إلى جانب حليفتها النمسا، وهو ما انتهى خلال ستة أسابيع باحتلال العاصمة الفرنسية باريس.

كان هذا الحسم السريع للجبهة الفرنسية ضروريا من أجل التفرغ للجبهة الروسية شرقا، بينما كان الهجوم الألماني على بلجيكا المحايدة سببا في دخول بريطانيا غاضبة إلى الحرب، وهو ما حوّل الحرب الأوروبية إلى حرب عالمية نظرا للامتداد الشاسع للمستعمرات البريطانية.

في المقابل كانت خطة النمسا العسكرية تتمثل في الدفع بكامل قواتها نحو الجبهة الصربية، لكن القوات الروسية الضخمة تقدمت بسرعة تفوق المتوقع نحو الحدود النمساوية، فالتقت الجموع في مواجهة كونية غير مسبوقة.

 

مقاتلو الشرق والغرب.. حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل

يحكي فيلم “يوميات الحرب العظمى” في جزئه الثاني، كيف كانت الأمم المتناحرة تحصي في الأشهر الأولى من الحرب، أكثر من مليون قتيل، وتبحث لها بين المدنيين عن مجندين جدد يصلحون ليتحولوا إلى حطب جديد في النيران المتصاعدة.

وخلال فترة قصيرة أصبح أكثر من 20 مليون رجل يحملون السلاح ويتقاتلون، بمن فيهم أشخاص قادمون من اليابان البعيدة وأنحاء الإمبراطورية العثمانية الإسلامية، وحتى من كندا ونيوزيلاندا وأستراليا والهند… كان رجال يقطعون الأميال الطويلة لقتل رجال آخرين لا يعرفونهم ولم يفعلوا لهم شيئا[2].

 

حشو المدافع.. خروج العرب لا خاسرين ولا منتصرين

يحكي الجزء الأول من ثلاثية “الحرب العالمية الأولى بعيون العرب”، الذي أنتجته قناة الجزيرة، كيف أن للعرب علاقة غريبة بالحرب الكونية الأولى، ذلك أنهم لم يكونوا في نهايتها لا من المنتصرين ولا من المنهزمين، لكنهم خسروا الكثير من أبنائهم في تلك الحرب بعد تجنيد مئات الآلاف منهم قسرا في حرب لم تكن في الواقع سوى حربا أهلية أوربية.

مشكلة العرب الأساسية في تلك المواجهة، أنهم لم يكونوا يملكون خندقا ولا دبابة، وهو ما عبّر عنه الأديب ميخائيل نعيمة الذي أرغمته الظروف على القتال في صفوف الجيش الأمريكي بالقول إن العرب كانوا مجرد حشو للمدافع في تلك الحرب الدامية[3].

فواحد من أوجه الغرابة في علاقة العرب بهذه الحرب أنهم كانوا مجبرين على القتال مع الطرفين، فكان قسم منهم يحارب إلى جانب ألمانيا، وقسم آخر يحارب في صفوف الحلفاء، فقد كان رجال دول المغرب العربي أول من خاض معارك الحرب العالمية الأولى بعدما سارعت فرنسا إلى وضعهم في الصفوف الأمامية للجبهات الأولى التي فتحت في القسم الغربي من أوربا عقب اندلاع الحرب؛ بينما يعتبر 14 نوفمبر-تشرين الثاني 1914 اليوم الذي انطلقت فيه رسميا الحرب العالمية الأولى بالنسبة للمسلمين، لكونه يصادف مناداة مفتي دولة الخلافة العثمانية بالجهاد إلى جانب ألمانيا.

 

عرب المشرق والمغرب.. قتال في المعسكرين

شارك العرب في فصول الحرب الكونية الأولى في موقف الانقسام غير الإرادي أو الواعي، حيث كان المغاربيون يحاربون إلى جانب فرنسا، ضد أشقائهم المشارقة المحاربين في صفوف الجيش العثماني المتحالف مع ألمانيا.

وبينما كان المجندون المغاربيون يدفعون حياتهم وسلامتهم الجسدية في الصفوف الأمامية للجيش الفرنسي، كان إخوتهم المشارقة يدفعونها في مناطق شاسعة من تراب دولة الخلافة في ليبيا والبلقان، حيث لم يصمدوا طويلا أمام المحور الألماني-الإيطالي[4].

كان نصيب العرب من تبعات تلك الحرب مبكرا، حيث كانوا من أولى الشعوب التي استهدفت بسلاح الغاز، وكان الجزائريون ضمن أوائل المستهدفين بالهجمات الألمانية بالغاز، وتحديدا الفرقة الجزائرية الخامسة والأربعون التي كانت تقاتل إلى جانب الفرنسيين في الجبهة الأوربية الغربية. وكانت فرنسا قد حشدت ما يفوق 170 ألفا من الجزائريين، ونحو 80 ألفا منن التونسيين، وما ان استكملت احتلال المغرب على يد الجنرال “هوبير ليوتين” حتى زجت بالمغاربة أيضا في حربها ضد ألمانيا، ويقدّر عددهم بحوالي 45 ألفا[5].

 

رصاص في الجبهة وجوع في المنزل.. موت في كل مكان

كانت نسبة القتل مرتفعة للغاية في صفوف المقاتلين المغاربيين مقارنة بباقي الجبهات الفرنسية، فكانوا يشحنون بعبارات التمجيد والإطراء لما يتمتعون به من بسالة وشجاعة، ليدفع بهم في الصفوف الأمامية للمواجهات. وأكثر من ذلك كان المجندون المغاربيون يدربون ويسلحون ليطلب منهم في النهاية قتال إخوتهم، سواء منهم المغاربة مع المجندين الجزائريين والتونسيين في البداية، أو العثمانيين والسوريين والعراقيين والفلسطينيين بعد دخول هؤلاء إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وهو ما كان يحمل المجندين المسلمين على التمرد في بعض الحالات[6].

فإذا كانت سجلات التاريخ تحتفظ بأسف كبير بإحصاءات تقول بمقتل ما يناهز 10 بالمائة من سكان كل من فرنسا وألمانيا، فإن ما يتغافل عنه هو أن الدولة العثمانية خسرت ما بين 14 و25 بالمائة من سكانها خلال تلك الحرب، وفصول طاحنة من المعارك جرت في الأرض العثمانية وخاصة بلاد الشام.

مات ثلث سكان لبنان وقتها بسبب المجاعة، وثلث آخر تعرّض للتهجير والقهر، وتغيّرت بالكامل ديمغرافيا المنطقة، فمن ذهب إلى الحرب هلك، ومن بقي أيضا هلك بسبب الجوع والفقر.

وفي بلاد الرافدين كان المقاتلون الهنود إلى جانب الجيش البريطاني قد جلبوا معهم إلى جانب السلاح والقتل أمراضا غريبة عن المنطقة مثل التيفوئيد والكوليرا، فكان نصيب الذين لم يلتحقوا بجبهات القتال من الموت أكبر وأفدح، بسبب انتشار الأمراض والأوبئة والبرغوث والقمل[7].

 

“جمال السفاح”.. استبداد داخلي ومطامع خارجية لاقتسام تركة الرجل المريض

كان الأوربيون ينظرون إلى المنطقة العربية بعين خاصة رغم انهماكهم بالحرب، فقد فرضوا حصارا شاملا وقاسيا على جزيرة العرب، بهدف دفعهم إلى الانفصال عن الدولة العثمانية والتفكير في مصير خاص بهم. بينما كان دخول الإمبراطورية العثمانية إلى الحرب سببا في تحقيق التوازن بين ألمانيا والنمسا وخصومهما الأقوياء، وذلك بعد شهور من قضاها العثمانيون يحاولون إبقاء حلفهم مع ألمانيا طي الكتمان، قبل أن يدعو مفتو الخلافة رسميا إلى الجهاد في نوفمبر/تشرين الثاني 1914[8].

يعيد البعض لحظة انطلاق الحرب العالمية الأولى بالنسبة للعرب إلى العام 1911، أي قبل التاريخ المعروف رسميا كبداية لهذه الحرب بثلاثة أعوام، كما يحكي الجزء الثالث من فيلم “الحرب العالمية الأولى بعيون العرب”[9].

ففي تلك السنة وقعت أزمة أغادير -وهي مدينة على الساحل الأطلسي للمغرب- بين فرنسا وألمانيا، حيث كادت تندلع الحرب بينهما بعد وصول سفينة ألمانية إلى هذا المكان الذي كانت فرنسا تعتبره ضمن مجال نفوذها تمهيدا للاحتلال الرسمي للمغرب. وفي تلك السنة أيضا شنت إيطاليا عدوانا على ليبيا التي كانت ولاية عثمانية، وهو الهجوم الذي أدى إلى إشعال فتيل الحرب في البلقان التي سوف تتحول إلى حرب عالمية.

لم يكن هناك في بداية الحرب مشروع لتقسيم المشرق بين أتراك وعرب، لأن الأوروبيين لم يكونوا على يقين من الموقف الذي ستتخذه الإمبراطورية العثمانية، معتقدين أنها سوف تبقى على الحياد، وبعد تحوّل العثمانيين إلى خصم جديد لبريطانيا وفرنسا، جرى التخطيط لإنهاء وجود آخر دولة للخلافة الإسلامية، من خلال اتفاق فرنسا وبريطانيا مع روسيا على تقاسم أراضي العثمانيين[10].

رافق دخول الدولة العثمانية رسميا إلى الحرب تعيين أحمد جمال باشا واليا على بلاد الشام، وهو الذي سيسجل في ذاكرة المنطقة باسم “جمال السفاح”، لما عاشه أبناء الشام تحت حكمه من قبضة قمعية حديدية وتنكيل بالمثقفين العرب متهما إياهم بالتخاذل والتعاطف مع ثورة الشريف حسين الحجازية. وهكذا دق إسفين بين العرب والأتراك في سنوات الحرب الأربعة التي حجبت بالكامل أربعة قرون من التاريخ المجيد المشترك[11].

 

“الثورة العربية”.. خنجر سايكس بيكو الغادر

أدت الحرب العالمية الأولى إلى استكمال المشروع الاستعماري في العالم العربي، أي إخضاع المشرق للمصير الذي سبق إليه المغرب العربي، والتسوية النهائية لما كان يعرف بالمسألة الشرقية، عبر توزيع تركة الدولة العثمانية التي خرجت منهزمة من الحرب.

فقد كان الجيش العثماني لحظة دخوله الحرب في نوفمبر/تشرين الثاني 1914، يضم حوالي 300 ألف جندي عربي من الشام والعراق، وكانوا يمثلون ثلث قوام الجيش العثماني، وارتفع العدد مع طول فترة الحرب، كما كانت القيادة العسكرية للجيش العثماني تضم عربا إلى جانب الشراكس والألبان، لكن في خلفية المشهد كان الأوربيون يحركون ورقة القوميات والأقليات، خاصة منها المسيحية داخل البلاد العثمانية، إلى جانب لعبهم ورقة “الثورة العربية” في عز الحرب الكونية وانشغال العالم بها، علاوة على تسارع وتيرة التحضير للمشروع الصهيوني في فلسطين، إذ توصل الشريكان الأوروبيان في المشروع الاستعماري بريطانيا وفرنسا إلى اتفاقهما الشهير باسم “سايكس بيكو”[12].

يتعلق الأمر باتفاقية تقع في ثلاث صفحات، مكونة من 12 مادة وخريطة، وتلخص المصادر مضمون الوثيقة في قيام “سايكس” برسم خط أفقي يمتد من ميناء عكا على البحر الأبيض المتوسط إلى كركوك شرقا، حيث تعود المنطقة الواقعة شمال هذا الخط لفرنسا، أي جنوب تركيا وسوريا باستثناء فلسطين وولاية الموصل، بينما تسيطر بريطانيا على الجزء الواقع جنوبه، أي ولاية بغداد وموانئ عكا وحيفا شرق الأردن إلى غاية الحدود العراقية السعودية والأردنية السعودية الحالية، مع تخصيص فلسطين بوضع خاص يتمثل في إدارة عالمية[13].

تضمنت هذه الاتفاقية الموقعة عام 1916 اعترافا بالتعهد الذي كان المفوض البريطاني “هنري ماكماهون”، قد قدمه لشريف مكة بضمان استقلال العرب لترغيبه في التحالف مع بريطانيا ضد العثمانيين، إلا أن هذا الترغيب لم يكن السبب الأصلي للثورة العربية الكبرى، بل كانت هناك أسباب موضوعية تتمثل في الاستبداد الذي كان يمثل سياسة ممنهجة لحزب الاتحاد والترقي العثماني، وتداعيات قرارهم دخول حرب لا علاقة للعرب بها، وهو ما حملهم على التفكير في سبيل لحماية أنفسهم من تبعات الأخطاء والسياسات العثمانية[14].

 

اتفاق السفارة الفرنسية.. خطة اقتسام العالم التي كشفتها الثورة البلشفية

ظهرت إرهاصات الاتفاق الأولى في أكتوبر/تشرين الأول 1915، حين دعا وزير الخارجية البريطاني “إدوارد غراي” سفير فرنسا في لندن “بول كامبون”، للتداول الدوري بمستجدات السياسة على ضوء مخرجات جبهات القتال المشتركة ضد ألمانيا وبوادر سقوط الخلافة العثمانية، وأثمر ذلك أن ينتدب السفير الفرنسي ممثلا دائما لفرنسا إلى لجنة تُعرف باسم “لجنة دي بونسن”، فوقع الاختيار على دبلوماسي فرنسي بدرجة قنصل حديث التعيين بلندن اسمه “فرنسوا ماري جورج بيكو”.

خاض “بيكو” مفاوضات طويلة مع البريطانيين آلت بداياتها إلى الفشل بسبب ما اعتبره محاوروه البريطانيون تعاليا وعجرفة فرنسية، قبل اللجوء إلى تشكيل لجنة ثنائية بينه وبين “سايكس”، وعقد أول اجتماع لهما يوم 21 ديسمبر/كانون الأول بالسفارة الفرنسية في لندن، واستمرت الاجتماعات يوميا، ثم تلتها صداقة ودية بين الاثنين امتدت طوال فترة الحرب، وهو ما سيتولد عنه اتفاق “سايكس بيكو” الشهير[15].

كان الاتفاق في جزء منه تنفيذا لخطة بريطانيا التي تعد القوة الأكبر في المنطقة حينها، لوضع فرنسا كقوة عازلة بينها وبين روسيا القيصرية، فبريطانيا التي كانت تعتبر نفسها سيدة العالم حينها عمدت إلى تهدئة فرنسا وتأجيل أي اصطدام مباشر معها عبر هذا الاتفاق، إلى جانب شراء هدنة مع روسيا القيصرية، في انتظار نهاية الحرب العالمية الأولى مع ألمانيا باعتبارها أولى الأولويات[16].

ورغم أن روسيا القيصرية لم توقع أبدا بشكل رسمي على هذا الاتفاق، بل اكتفت بتزكيته، فإنها حصلت بالمقابل على ضوء أخضر غربي، للزحف نحو إسطنبول وشرق شبه جزيرة الأناضول. هذا الحلم ببسط السيطرة الروسية على تركيا سرعان ما سقط بقيام الثورة البلشفية في روسيا (1917)، وقيام الدولة العلمانية في تركيا على أنقاض الخلافة العثمانية التي لم يعد لها وجود[17].

ظل الاتفاق سريا إلى أن جاءت الثورة التي حملت الشيوعيين إلى الحكم في روسيا عام 1917، وهو ما شكل صدمة للعرب وخاصة السوريين، وأحرج القوتين الاستعماريتين المسيطرتين على المنطقة فرنسا وبريطانيا، فالثوار البلاشفة اعتبروا أنفسهم غير معنيين بأي اتفاق مبرم سلفا مع القوى الاستعمارية الأخرى، وعملوا على كشف كل تلك الاتفاقيات السرية.

 

وعد “بلفور”.. نكبة صاحبت دخول الجيوش العربية إلى القدس

في نوفمبر/تشرين الثاني 1917 نشرت صحيفة الـ”برافدا” ما يمكن اعتباره سبقها الصحافي الوحيد، وهو نص الاتفاقية السرية بين “سايكس” و”بيكو”، حيث كانت روسيا تعيش بداية عصر ثورتها البلشفية، وعمدت بالتالي إلى الخروج من الحرب، وفضحت ما ظلت بريطانيا وفرنسا تتكتمان عليه بتواطؤ من روسيا القيصرية التي كانت حليفة لهما في الحرب[18].

ورغم الاعتقاد السائد بأن الجغرافيا السياسية لمنطقة الشرق الأوسط الحالية هي نتاج لاتفاقية “سايكس بيكو”، فإن الاتفاقية لم تنفذ في حقيقة الأمر، بل شكلت مجرد أرضية لتوافقات وتعديلات كثيرة لاحقة، انتهت بتقسيم المنطقة ورسم خريطتها بشكل مختلف، فالعرب لم يكونوا يقبلون بأي تقسيم كيفما كان شكله، وكل ما جرى فوق أرضهم كان تحت تهديد وترهيب القوة والاحتلال[19].

لم يكن نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017 شهر انكشاف أمر الاتفاقيات السرية بين بريطانيا وفرنسا حول تقاسم المشرق العربي فحسب، بل كان شهر إعلان وزير الخارجية البريطاني “آرثر بلفور” تأييد حكومته لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وتضافرت في التأييد البريطاني للطموحات الصهيونية عوامل متعددة تراوحت من الحسابات السياسية إلى التحيزات الثقافية.

في ديسمبر/كانون الأول 1917 سيطرت الجيوش العربية المدعومة بريطانيا على القدس، وانهارت الإمبراطورية العثمانية بالكامل، وبدأ فعليا تطبيق اتفاقية “سايكس بيكو” وتنفيذ الخريطة التي اعتمدها الأمير فيصل حينها، والتي سرعان ما حصلت على غطاء دولي من خلال مؤتمر باريس 1919 الذي عقده المنتصرون في الحرب العالمية الأولى، حيث مُنح الهاشميون مملكة جديدة شرق الأردن مقابل إخلائهم سوريا لصالح الفرنسيين تنفيذا لاتفاق “سايكس بيكو”[20].

 

عودة أجراس الكنائس.. نهاية الحرب غير المنصفة للعرب

تروي الحلقة السادسة من سلسلة أفلام “يوميات الحرب العظمى” -التي أنتجتها الجزيرة الوثائقية”- كيف دقت أجراس الكنائس عبر أرجاء أوروبا، في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1918، بعد أن ظلت صامتة لمدة أعوام، لكن يومها جاء الدور على الأسلحة كي تصمت أخيرا. فقد تقبلت الحكومة الألمانية الجديدة جميع شروط الحلفاء، بعدما خلفت الحرب 19 مليون قتيل و20 مليون جريح أو مشوّه، وقارات كاملة في خراب[21].

وحدهم العرب بقيت ذكراهم منسية، عكس رفاقهم الأوروبيين الذين نالوا قدرا غير يسير من التكريم والتعظيم. جثامين من قتلوا منهم بقيت متناثرة بين مقابر مبعثرة عبر أوروبا، بينما استحال الناجون منهم إلى مجرد جنود مجهولين.

مَن يهُن يسهل الهوانُ عليه.. ما لجُرحٍ بميِّتٍ إيلامُ

 

المصادر

[1] https://www.youtube.com/watch?v=zN9CfinAyK8
[2] https://www.youtube.com/watch?v=7uyyFfCsK7o
[3] https://www.youtube.com/watch?v=tf-3HFY5n5A
[4] https://www.youtube.com/watch?v=tf-3HFY5n5A
[5] https://www.youtube.com/watch?v=tf-3HFY5n5A
[6] https://www.youtube.com/watch?v=tf-3HFY5n5A
[7] https://www.youtube.com/watch?v=ERVlnlKCp40
[8] https://www.youtube.com/watch?v=ERVlnlKCp40
[9] https://www.youtube.com/watch?v=JKtabAPAa3A
[10] https://www.youtube.com/watch?v=JKtabAPAa3A
[11] https://www.youtube.com/watch?v=ERVlnlKCp40
[12] https://www.youtube.com/watch?v=ERVlnlKCp40
[13] /تقارير/سايكس-بيكو-103-أعوام-من-التلاعب-بالعرب/
[14] https://www.youtube.com/watch?v=JKtabAPAa3A
[15] https://aawsat.com/home/article/986011/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%81%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D8%A7%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%C2%AB%D8%B3%D8%A7%D9%8A%D9%83%D8%B3-%D9%80-%D8%A8%D9%8A%D9%83%D9%88%C2%BB
[16] /تقارير/سايكس-بيكو-103-أعوام-من-التلاعب-بالعرب/
[17] /تقارير/سايكس-بيكو-103-أعوام-من-التلاعب-بالعرب/
[18] https://www.youtube.com/watch?v=JKtabAPAa3A
[19] https://www.youtube.com/watch?v=JKtabAPAa3A
[20] https://www.thedailybeast.com/the-100-year-old-carve-up-bleeding-the-middle-east-today
[21] https://www.youtube.com/watch?v=r-xA8O4XxFo