هل فقدنا الجمال؟

الفنان المصري: هشام عبد الحميد

هل فقدنا الجمال في حياتنا أم أُجبرنا على فقدانه؟ الحق أنني أميل إلى حالة الإجبار. ونظرة سريعة إلى الماضي، مرورا بواقعية مفهوم الجمال الآن؛ نكتشف أنه تم تجريفه عن قصد أو دون قصد كما لو كان هناك إصرار على محو كل قيم الحق والخير والجمال من مصرنا الحبيبة، فهل هي خطة ممنهجة لتدمير الوعي الجمعي للجمال؟

صورة لفندق شبرد في القاهرة
صورة لفندق شبرد في القاهرة

حنين إلى جمال الماضي

إذا نظرنا نظرة متأملة إلى الماضي نجد الحرائق تقضي على الجمال، وتحديدا ما قبل حركة 23 يوليو/تموز 1952، مثل أحداث فندق شبرد وفندق سميراميس وحريق القاهرة الذي وقع بعد حركة 23 يوليو/تموز.

لكن بعد قيام حركة يوليو والآمال المعقودة عليها؛ ازداد النشاط الثقافي والفني في حقول التعبير المختلفة، مثل المسرح والسينما والفنون الشعبية والفن التشكيلي وفن الباليه والتمثيل، وأصبحت هناك صروح ثقافية فنية تُدرّس الفن كعلم، كما أصبحت أكاديمية الفنون بفروعها مثل المعهد العالي للسينما والمعهد العالي للفنون المسرحية والمعهد العالي للباليه والمعهد العالي للموسيقى “الكونسيرفتوار” والمعهد العالي للموسيقى العربية.

لنكن متفائلين ونُنحي نظرية المؤامرة جانبا، دعونا نتساءل سؤالا يطرح نفسه في الوقت الراهن: لماذا تذهب أو تُدمَّر أو تُزال كل آثارنا الفنية الجميلة؟ فقهوة “أسترا” على سبيل المثال التي خرجت منها مواهب أصبحت أعلاما فيما بعد، والتي أخصّ منها على سبيل المثال لا الحصر علي الحجار ومحمود الجندي، وكان من مرتاديها أيضا سعيد صالح وسمير خفاجي وعادل إمام وعلي سالم وأحمد زكي ومحيي إسماعيل والمخرج محمد فاضل وغيرهم.. لماذا توقف كل هذا الجمال والنشاط في منتصف الثمانينيات، لتتحول قهوة أسترا إلى محل للوجبات السريعة.

معالم جميلة.. أين ذهبت؟

إذا استعرضنا ما بعد ميدان التحرير فإننا سنجد منطقة وسط البلد “الخديوية” (كما اصطلح على تسميتها)، وهي ذات زخارف معمارية تاريخية كلاسيكية، كما نجد سينما قصر النيل بمعمارها الحديث داخليا وخارجيا، ونجد أيضا جروبي سليمان باشا ولابس وقهوة “ريش الأثرية”، وبالطبع معرض القاهرة.. كل هذه الأماكن الجميلة والبديعة كانت ملتقى للمبدعين والمثقفين، وأخص بالذكر تحديدا مقهى ريش ومقهى لابس.

فمقهى “ريش” التاريخي يستمد تاريخيته وأهميته من فترة النضال ضد الاحتلال الإنجليزي، إذ كان شباب المقاومة يلتقون في بدروم المقهى ليطبعوا منشوراتهم النضالية ضد الاحتلال، وما زال المقهى يحتفظ بماكينة طبع المنشورات حتى اليوم في البدروم.

أما عن قيمته الثقافية فلا غرو أنه كان ملتقى النخبة من المثقفين والفنانين والمواهب الشابة التي نزحت من الأرياف لتشق طريقها في القاهرة الساحرة الساهرة. ومن هذه المواهب والبراعم الشابة الوجه الجديد آنذاك الآنسة “أم كلثوم” التي قدمت موهبتها في هذا المقهى، ومن رواده على سبيل المثال نجيب محفوظ، ومجموعة من المخرجين منهم توفيق صالح وفطين عبد الوهاب وصلاح أبو سيف والصحفي الكبير محمد التابعي وغيرهم.

لكننا مع ذلك نُفجع بحريق الأوبرا الخديوية في أوائل السبعينيات، ويأتي هذا الحريق كما الصاعقة على رؤوسنا، فالأوبرا بمعمارها الفريد الخارجي والداخلي تحفة بكل المقاييس، بمخازن الملابس والإكسسوارات والديكورات الضخمة والميكانيزم المتقدم للأوبرا والتحف الفنية الرفيعة المستوى في ذلك الوقت. كل هذا ذهب مع الريح في حريق الأوبرا، ولكن ماذا جرى بعد ذلك؟

هذا الصرح التاريخي حلّ محله كراج متعدد الطوابق!! هل يمكن أن تتصوروا هذا؟ حتى إن ميدان الأوبرا الراقي تغيرت ملامحه بعد أن كان عنوان الجمال، فأصبح رمزا للقبح والفوضى ومرتعا للسوقة والدهماء.

مقهى "ريش" التاريخي يستمد تاريخيته وأهميته من فترة النضال ضد الاحتلال الإنجليزي
مقهى “ريش” التاريخي يستمد تاريخيته وأهميته من فترة النضال ضد الاحتلال الإنجليزي

ميدان التحرير ومقاهي المثقفين

وإذا استعرضنا مثلا ميدان التحرير الذي كان يرمز للجمال بنافورته وحديقته الصغيرة في الستينيات، فقد أُلغيت مع مرور الوقت النافورة والحديقة ووُضع جسر دائري قبيح اختصر من جمال ميدان التحرير، وتمددت محطة الباصات لتبتلع مساحة كبيرة أطاحت ببهاء الميدان وجماله إلى غير رجعة.

بل وصل الأمر إلى المقاهي البسيطة الجميلة التي كانت تُزين الميدان والتي كانت ملتقى لكثير من المثقفين والأدباء والفنانين وعلى رأسهم الأديب الكبير نجيب محفوظ الذي كان يرتاد مقهى شهيرا اسمه “علي بابا” الذي أغلق في منتصف الثمانينيات.

وكان هناك مقهى آخر يسمى “أسترا” وهو مكان مقهى آخر كان أكثر جمالا اسمه إيزافتشي، وإيزافتشي هذا كان يمتلكه يوغسلافي، واشتهر هذا المقهى تحديدا بأنه مقهى المثقفين؛ أولا لجودة الطعام فيه، وثانيا لأسعاره المعقولة جدا، وأحيانا كان يؤجل الحساب تبعا لظروف الزبون.

لكن لأسباب كثيرة أُغلق هذا المقهى وحلّ محله مقهى أسترا. وفي ذلك المقهى اجتمع محبو المسرح ومهووسوه ليقدّموا للمرة الأولى -وأظنها كانت الأخيرة أيضا- أول نموذج لمسرح القهوة، وقد شرف كاتب هذه السطور بالعمل في هذا المسرح، واستطاع مسرح قهوة أسترا بجنون وطموح استقطاب مجموعة من شباب المسرح الذين قادهم رجل المسرح المدهش عبد الرحمن عرنوس.

من المعالم الجميلة مسرح الجيب بنادي السيارات، فقد أُنشئ هذا المسرح بعد عودة الفنان المخرج سعد أردش من بعثته في الخارج، وقد استقر المسرح بمكانه الأنيق بنادي السيارات، وكان مهتما بالتجارب المحلية والإقليمية والدولية. وقد قدم سعد أردش على هذا المسرح مسرحية توفيق الحكيم “يا طالع الشجرة” التي تنتمي لمسرح العبث، ونجح المسرح وأصبح مسرح التحية بحق.

لكن فجأة احترق المسرح، واحترقت معه طموح وأحلام مديره ومخرجه وصاحب المشروع سعد أردش، ويوم احتراقه بكى أردش كما لم يبكِ من قبل.

ومن هذه المعالم أيضا مقهى قصر البن البرازيلي ومطعم إكسلسيور، فقد كان الأول ملتقى للنخبة ومجانين الفن، وكان المكان بمناضده البنية اللون الوثيرة وبمذاق البن الرائع فيه مكانا خصبا للمناقشات الثقافية والفنية.

أما إكسلسيور فهو مطعم بجانب سينما “مترو غولدن ماير” بمعمارها البديع داخليا وخارجيا قبل أن تُقسّم إلى قاعات صمّاء كعلب السردين لا جمال فيها ولا ذوق، وما أصاب سينما مترو أصاب كل دور العرض وسط البلد، وذلك بداية من سينما قصر النيل وريفولي وديانا وكايرو.

إكسلسيور كان راقيا في كل شيء، من ناحية الخدمة ونوعية الطعام ونوع مرتاديه، وكان موقعه نموذجيا بجانب سينما مترو، لكن جرى تخريبه هو الآخر وتدنت خدماته، فأصبح أقل من أقل مطعم مع شديد الأسف.

بعد حريق دار الأوبرا المصرية في أوائل السبعينيات فوجئ المجتمع الفني بحريق مسرح البالون ومسرح السامر والسيرك القومي، وكانت تُعرض على مسرح البالون مسرحية “دنيا البيانولا” من إخراج كرم مطاوع في منتصف السبعينيات، ثم فوجئ الجميع باحتراق مسرح محمد فريد في أوائل الثمانينيات، وكانت تعرض عليه مسرحية “روض الفرج” من إخراج كرم مطاوع.

وفي عام 2005 احترق مسرح بني سويف أثناء عرض مسرحي، فاحترق العرض والمتفرجون والمسرحيون في أسوأ كارثة في تاريخ المسرح المصري.

دار الأوبرا المصرية في أوائل السبعينيات
دار الأوبرا المصرية في أوائل السبعينيات

موقف المثقفين

وقد رفض المثقفون هدم هذه المعالم أو تغييرها، وأتناول هنا بيانين احتلا الساحة الثقافية نظرا لخطورة الإجراءات التي قامت بها الحكومة.

في البيان الأول أعلن المثقفون رفضهم التام لما أعلنته ممثلة الحكومة السيدة نشوى الطيب بخصوص هدم ونقل الصرحين الكبيرين “مسرح البالون” و”السيرك القومي”. بالطبع يفهم المثقفون أن التغيير لن ينال من هذين الصرحين فقط، وإنما سيتجاوزهما إلى المربع الذي يستوعب مسرح السامر وقاعة منف وقاعة الغد، أي هدم كامل وتغيير لمعالم منطقة لها تاريخ ثقافي وفني.

أما البيان الثاني فقد صاغه الأستاذ عز الدين نجيب الذي جمع عليه توقيعات الكثير من المثقفين، وذلك استنكارا لإغلاق متحف الفن الحديث من أجل إقامة بينالي القاهرة الدولي للفنون بدورها الثالث عشر، وجاء الاستنكار لمثل هذا القرار لأنه يُقلص مساحات المبدعين التشكيليين المصريين، كما يقضي عليها بغلق كل نوافذها المتاحة عن طريق قرارات متعسفة أو إهمال وتهميش وإغلاق.

صورة لمقهى ريش من الداخل
صورة لمقهى ريش من الداخل

هل هناك أمل؟

نعم، هناك دائما أمل رغم المُنغّصات والمحبطات التي تخنق القوة الناعمة في مصر سواء عن عمد أو من غير عمد، والتي تدمر الجمال لتحيله إلى منظومة قبح ممنهج.

يبقى الأمل في ذواتنا وإرادتنا الإنسانية في مواجهة قوى القبح والتخلف والجهل.