“هندسة القطار”.. رحلة قارب البر الذي غيّر التاريخ

يقول الشاعر الفرنسي “غيوم أبولينير”: اخشَ اليوم الذي لا يحرك القطار فيه مشاعرك.

بالفعل فإن السفر في القطار مغامرة مثيرة، فقد ملأ أزيزه المدن بضجيج الحياة وطوى المسافات من الشرق إلى الغرب، ولم يعد مستساغا التفكير في عدم تأثيره على الناس.

وفي هذه الأيام تتسارع وتيرة التطور التكنولوجي، وتعد القطارات إحدى مكونات الثورة التكنولوجية منذ الحقبة البخارية، وانتهت بالقطارات فائقة السرعة، وهي من الاختراعات الهندسية التكنولوجية التي هزت العالم.

في هذا الفيلم يصحبنا أستاذ الهندسة الميكانيكية “ماثيوبرو” في رحلة عابرة للزمن، نرى من خلالها مسيرة الرواد والمخترعين الذين جعلوا العالم صغيرا وقربوا كل بعيد باختراعاتهم العبقرية، مذللين العقبات والتحديات التكنولوجية لبناء قطارات عابرة للقارات، وكذلك نظام “الهايبرلوب” المستوحى من مؤلفات “جول فيرن”.

تنين الثورة الصناعية.. أول الغيث قطرة

كانت بداية المحاولات في إنجلترا وتحديدا في منطقة التعدين مهد الثورة الصناعية، وذلك على يد البريطاني “ريتشارد تريفيثيك” المهندس الميكانيكي الذي اخترع آلة بمساعدة أفران صهر تقذف الدخان، ولم يعلم أن اختراعه سيغير وجه العالم للأبد.

يقول “آلان جونز” إنها أول محرك يمشي على سكة حديدية صممت على أساسه كل المحركات الأخرى لاحقا، وعندما شاهده الناس لأول مرة خافوا منه لأنه ينفث الدخان كتنين.

قطار يعمل بالفحم الحجري في إحدى السكك الحديدية في بريطانيا (1926)

إن آلية عمل القطار البخاري تعتمد على تسخين الماء عن طريق مرجل لحرق الفحم حتى يصل الماء لدرجة الغليان، فيتبخر ويدخل البخار الحار أنبوبا على شكل حرف (U) بالإنجليزية، وهي حجرة الدخان المغمورة في خزان مائي، وتسمى الأسطوانة.

إن الضغط الذي يولده البخار يحرك المكبس، وعند توقف المكبس يرسل نظام معاكس ثان بخارا إلى الأسطوانة، ويستمر المكبس ذهابا وإيابا يسحب “الكرنك”، وهو ذراع مفصلي يحول الحركة إلى العجلات، وكلما زاد البخار زادت قوة القطار وسرعته.

قبل 200 عام.. قطار يزحف في إنجلترا

كان “تريفيثيك” وريث “جيمس وات” المهندس الأسكتلندي مبتكر الآلة البخاريى، أما والده فكان ميكانيكيا، وعندما ترك “تريفيثيك” المدرسة التحق بعمل والده، فكان يصلح معه المحركات البخارية، ولم يكتف بذلك بل أجرى تحسينات عليها وصنع محركه ذا الضغط العالي المزود بأربع عجلات، ويتحرك بسرعة ثمانية أميال في الساعة.

لكن لسوء حظه حدثت مشكلة في العجلات فعرقل التوجيه غير المضبوط القطار فاصطدم بالجدار، لذا خطرت له فكرة رائعة وهي الاستعانة بالسكك الحديدية التي كانت تستخدم في نقل الأحمال الثقيلة وبنى نموذجا جديدا وعجلات جديدة وضعها في مسارات منجم الفحم.

آلة البخار الأولى.. فكرة بسيطة جعلت من العالم قرية كبيرة

وهكذا ظهر أول قطار في التاريخ صبيحة ٢١ من أبريل/نيسان عام ١٨٠٤. وقد تجمع حشد كبير لمشاهدة القطار الذي كان عدد ركابه ٧٠ شخصا ويتكون من خمس عربات تحمل ١٠ أطنان.

يومها قطع القطار تسعة أميال في أربع ساعات، لكن في رحلة العودة انكسر المزلاج وتناثر المرجل، وفي عام ١٨٠٨ صنع قطارا آخر اسمه “أمسك بي إن استطعت”، وعمل لبضعة أسابيع بنجاح.

سيّر “تريفيثيك” قطاره على مسار دائري في لندن حيث انطلق الركاب في جولات قصيرة مقابل فلس، لكن وزن المحرك كسر السكة الحديدية الهشة، مما أدى لانحرافه ووضع نهاية مبكرة لتجاربه.

لقد كان “تريفيثيك” عبقريا، وكان يملك كل المعطيات للبدء في ثورة حقيقية، لكنه لم يلق الدعم والمساندة، وهاجر إلى البيرو بحثا عن الفضة ومات هناك دون ذكر.

أسرار السكة والقطار و”جورج ستيفسون”.. المخترع الحقيقي للقطار

إن سر السكك الحديدية هو اتصال العجلات بالمسارين الفولاذيين، وهذا يعني تحريك الأحمال الثقيلة بطاقة ضئيلة لأن الفولاذ مادة قاسية يصعب انحرافها، والسطح التلامسي بين السكة والعجلة صغير جدا بحيث يمنع حصول احتكاك كبير، وهذا لا يمكن مطابقته بالإطار المطاطي.

غدا مطلب إنتاج البخار بكميات كبيرة أمرا ملحا في فرنسا لتسيير القطارات، وظهر هناك اختراع دفع عجلة التقدم للأمام، إنه المحرك الكبير الذي ابتكره المخترع العبقري “مارك سيغا”.

لقد صمم مرجلا كبيرا في القاطرة مزودا بـ42 أنبوبا لتسخين المياه، وهذا ما زاد في سطح التبادل الحراري بين النار والماء لإنتاج المزيد من البخار، وبالتالي أدى إلى زيادة قوة المحرك.

وقد بقي هذا المحرك مستخدما حتى سبعينيات القرن المنصرم، لكن “مارك” لم يكن ملما بالتفاصيل الدقيقة للنقل الميكانيكي، لهذا خسر قدرا كبيرا من الطاقة في نقل الحركة بين قضبان التوصيل التي كانت تعمل بشكل رأسي.

إن الرجل الذي يمكن تسميته فعليا بمخترع القطارات، فهو المهندس البريطاني الفذ “جورج ستيفنسون”، وقد عرف قطاره باسم “روكيت” (الصاروخ)، ففيه وضعت الأسطوانات بشكل مسطح وعملت بشكل مباشر مع العجلات مع سواعد مفصلية، وهذا نموذج أبسط وأكثر عقلانية مما سبق.

وفي عام ١٩٢٩ وصلت سرعة قطاره إلى ٥٩ كيلومترا في الساعة، وقد تحققت هذه السرعة من خلال صنبور ماء في القطار.

أدهش إنجاز “ستيفنسون” الكثيرين، لكنه أثار قلق وزير الأشغال العامة فعارض المشروع لاعتبارات تتعلق بسلامة الناس، بيد أن هذه المخافة لم تقف طويلا في وجه التقدم.

مع اختراع القطار تغيرت حياة الناس وأصبحت أكثر انضباطا، وأضحى التنقل بواسطة القطار مرتبطا بمواعيد محددة، وذلك لأسباب إدارية وأخرى أمنية، وكان توحيد الأماكن وربطها ببعضها وترسيم الحدود هدفا آخر للسكك الحديدية.

“كاليفورنيا زفر”.. قطار الوحدة الأمريكية

كانت القطارات في الولايات المتحدة من ملامح نشأة وتطور الأمة الأمريكية الحديثة، وللوقوف على هذه التجربة، وصل “ماثيوبرو” إلى الولايات المتحدة الأمريكية وتحديدا إلى “ديلفركولورادو”، وصعد على متن قطار “كاليفورنيا زفر” الأسطوري الذي يعبر البلاد من شرقها إلى غربها في ثلاثة أيام بمسافة تقدر بأربعة آلاف كيلومتر.

وبعد محطة “يونين” يصعد قطار كاليفورنيا زفر ببطء جبال روكي، وهذا هو القطار رقم 49، أما القطارات التي سبقته فكانت رائدة “حمى الذهب” في تسعينيات القرن التاسع عشر، وكانت تشق الطريق برحلة مرعبة محفوفة بمخاطر البرد وهجمات السكان الأصليين، بالإضافة إلى الجوع والمرض، وقد شهد هذا الطريق على موت آلاف الركاب.

في حديثه بالوثائقي يشير “ديك سبوتسوود” إلى مقطورة كبيرة تعود لتشغيل القطار عام ١٩٢٣، وحينها كان رئيس الولايات المتحدة يملك “رولز رايس”، و”هذا النوع من العربات الفارهة كان فرانكلين روزفلت وهاري تورمان يستخدمانها، وتحوي على شرفة خارجية وهي مثالية للحملات الانتخابية”.

خلال أربع ساعات وصل قطار “زفر” إلى “ساكرمينتو” عاصمة كاليفورنيا، وهي مدينة محورية في تطور السكك الحديدية الأمريكية، وتعتبر نقطة لأروع المغامرات البشرية والتكنولوجية، وأول طريق سكة حديدية عابر للقارات.

بناء أطول سكة في العالم.. نهضة أمريكا من الحرب الأهلية

يقول “فيل سيكستون” متحدثا عن قطار “كاليفورنيا زفر”: كان هذا المشروع ضروريا لتطور أمريكا في القرن التاسع عشر، وقتها بدأ الناس يتحدثون عن الساحل الشرقي كنقطة بداية لانطلاق القطار منتهيا عند الساحل الغربي.

لقد تطلب الأمر مهندسين ومعدات متطورة وأشخاصا يؤدون مهمات مستحيلة، ولتحقيق الهدف في عام ١٨٦٣ قام الكونغرس بالموافقة على مشروع بناء سكة حديد وسط المحيط الهادي، بناء على طلب الرئيس “أبراهام لينكولن”، وهي أطول سكة حديد في العالم، وكانت أمريكا وقتها ممزقة بسبب الحرب الأهلية.

أطول نفق في العالم في سويسرا تحت جبال الألب بطول 57 كيلومترا

على جدارية محطة “ساكرمينتو” رسْم لحفل وضع حجر الأساس في عام ١٨٦٣ حين أعلنوا بذلك البدء في العمل، وكانت “ساكرمنتو” مركز الأنشطة المالية وكل الذهب الذي استخرج مخزن فيها.

كان هناك أربعة رجال أعمال كبار وحّدوا جهودهم لتأسيس سكة الحديد، وعرفوا بالأربعة الكبار، وهم: “كوليس هنتنغتون”، و”تشارلز كروكر”، و”ليلاند ستانفورد” و”مارك هويكنز”.

وقد راهنوا على أن مشروعهم سيجلب لهم المال والشهرة، وكان المشروع بحاجة لجيش من العمال وأصحاب الخبرة، وبعد فترة وجيزة انسحب العمال البيض لأنهم التحقوا بالحرب الأهلية، فاقترح “كروكر” الاستعانة بالعمال الصينيين الذين جاءوا من أجل العمل في الذهب.

كان “ليلاند” معارضا للفكرة، بينما رأى “كروكر” أن الصينين بنوا سور الصين العظيم وبإمكانهم فعل ذلك، فوافقوا على توظيفهم، ولقد أثبتوا جدارتهم وكانوا يعملون بجد وبرواتب أقل من الأمريكيين البيض، ووضعوا المسارات بشكل سريع للغاية.

منحدرات جبال “سييرانفادا”.. جنون الإبداع في مواجهة الطبيعة

لم يعد هناك عائق أمام مشروع الأربعة الكبار سوى الطبيعة، فعلى بعد 100 كيلومتر من “ساكرمينتو” كانت توجد منحدرات جبال “سييرانفادا” الشاهقة، وهي من أعمق المناطق الثلجية في أمريكا الشمالية.

وفي المنطقة ممر دونر الجبلي وهو مكان محفور في الذاكرة الأمريكية، ففيه وقعت مأساة عام ١٨٤٧ حيث وجدت مجموعة من الرواد الممر مغلقا بفعل الثلوج وهم في طريقهم إلى كاليفورنيا فاضطروا للبقاء أربعة أشهر ومات أكثر من نصفهم، وأُجبر البقية على أكل رفاقهم في نهاية المطاف.

الأنفاق الأرضية اختصرت المسافات بين المدن والبلدان، ومنها ظهرت فكرة الميترو

إن بناء سكة حديد في هذا المكان هو ضرب من الخيال، فالرجل الذي عاين المكان ووضع الأفكار وصفه الناس بالجنون، لكنه وجد مؤيدين له ساعدوه في تشكيل شركة سكة حديد وسط المحيط الهادي.

لقد عاين طرقا عديدة كانت هذه أفضلها وهي الأكثر سلاسة لبناء سكة حديد تحتاج لمترين ونصف في كل مئة متر، وهو جانب آخر من اتصال العجلات بالسكة لاحتكاك قليل وجهد ضئيل وأحمال ثقيلة.

ولبناء سكة حديد فمن الأفضل بناء أنفاق لها، لأن السكك الحديدية لا تلائمها الالتفافات الحادة وإنما المنحيات البسيطة.

وقد شق في منطقة “إميغراندغاب” 13 نفقا بالإضافة لمجموعة أخرى من الأنفاق موزعة في المنطقة، لكن بناء الأنفاق كان في غاية الصعوبة، مما حدا بالعمال الصينين لإعلان الإضراب عن العمل وقام “كروكر” بحرمانهم من الطعام وإجبارهم على مواصلة العمل.

وفي سباق البناء، تحولت الغاية إلى وسيلة حيث نقلت المواد إلى أقرب مكان ممكن على عربات تجرها قاطرات على المسارات الموضوعة حديثا.

كانت القاطرات أشبه بعمل فني رائع، فهي مغطاة بالكروم بشكل كامل ومزدانة بالألوان، وكانت تعبر عن روحية وحيوية القرن الـ19 لأن العمال كانوا فخورين بإنجازهم وأرادوا عرضه للعالم.

يعتمد القطار على عجلة أمامية وهي التي تشغل القاطرة وتجعلها تتحرك إلى الأمام والخلف، وهناك “العربات المحورية” وهي عبارة عن عربات صغيرة بأربع عجلات في مقدمة ومؤخرة المحرك، وتعمل على توزيع كتلة القاطرة على السكك بشكل متساو، كما أنها مثبتة في كل مقطورة وتعمل كوحدات تدحرج حر، ويمكن نقلها مقارنة بالهيكل الخارجي، وذلك بفضل محور مثبت في وسطها، وحين يقترب القطار من منحنى تتحرك العربات المحورية بشكل متعاقب باتجاه مركزها فتتيح للقطار العبور بسهولة وثبات.

التقاء الشرق بالغرب.. صورة تذكارية عند ملتقى المحيطين

لم تكن قاطرات وسط المحيط الهادي الوحيدة التي خاضت تحدي عبور القارات، فقد انضمت إليها شركة منافسة وهي “يونيون باسيفيك”، وبدأت العمل من شرق الولايات المتحدة ووضعت بدايات سكتها في مدينة أوماها بنبراسكا.

ترأس المشروع الضابط السابق في جيش الاتحاد “غرينفل ميلن دوج”، وكان العمال خليطا من المهاجرين الأيرلنديين والعبيد المحررين والمحاربين القدامى.

غرفة الاحتراق سر القطارات البخارية عبر القرون

كانت سهول نبراسكا مثالية للسكة الحديدية، إلا أنهم واجهوا مشاكل متعددة منها المدن المتنقلة في نهاية السكك، وكان يقتل في تلك المدن أربعة أشخاص مقابل كل عامل يقتل في السكك الحديدية.

وقد كان السكان الأصليون يشكلون خطرا بسبب شعورهم بضياع حقهم، فيهاجمون القطارات التي غيرت أسلوب الحياة على أراضيهم.

وفي عام ١٨٦٩ التقت الخطوط المتنافسة من الشرق والغرب، فطلب الرئيس “يوليسيس غرانت” ضم الشركتين وسط مدينة “بوتا” في موقع اسمه قمة “برومنتري”. وفي صورة جمعت الفريقين معا كان المهندسون يحملون زجاجات شراب، وعلى الجانب الأيسر مياه المحيط الهادي، وفي الجانب الأيمن مياه المحيط الأطلسي.

بقي لديهم قسم واحد من السكة وقام العمال الصينيون بتثبيته، ووضعوا الوتد الذهبي، وهو رمز اتحاد أمريكا الذي ضم الأمة من شرقها إلى غربها، وجعلها أمة عابرة للقارات وأصبحت الرحلة التي تستغرق أربعة أشهر بالعربات تستغرق 12 ساعة، وبعد ذلك غدت الرحلة ثمانية ساعات فقط.

أفول العصر البخاري.. مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية

كان لأوروبا أيضا -شأنها شأن الولايات المتحدة- حلم مماثل بعبور القارات، وقد سافرت القطارات من قطر لآخر في القارة العجوز نافثة دخانها في الربوع الخضراء.

كان ملك التنانين “باسيفيك ٢٣١” أحد تلك القطارات وقد وضع كنصب تذكاري في فرنسا كشاهد على عبقرية مصممه المهندس “أندريه شابلو” المعروف بعبقري البخار الفرنسي.

ويحتوي “باسيفيك ٢٣١” على مرجل تصل حرارته ٣٥٠ درجة مئوية، وبعد تخلصه من الماء ينتج البخار الجاف طاقة لا مثيل لها، وبعد إضافة تلك التعديلات تزداد قوة القطارات من ٢٣٠٠ حصان إلى٣٥٠٠ حصان، وأصبح يستخدم بنسبة أقل بعشرين بالمئة وبفحم أقل.

قطار التعليق الديناميكي يستعمل المجال المغناطيسي للانطلاق بسرعة فائقة

ولكن نهاية القطارات البخارية كانت محتومة، لأن محركها يحتاج الى كمية كبيرة من الفحم ورجلين لتشغيله، وهو يستغرق ساعة كاملة في عملية الإحماء.

إبان الحرب العالمية الثانية بدأ العمل في البخار بالتراجع، وفي المقابل بدأت قطارات الديزل بالعمل وظهرت دراسات لتطوير الدفع الكهربائي.

كانت تكلفة الكهرباء مرتفعة في البداية لأن البنية التحتية باهظة الثمن، ولكن الجهات المعنية غضت الطرف عن التكلفة أمام مرونة أساطيل القطارات الكهربائية وتشغيلها السهل.

يقول المهندس “كليف لامينغ” :لم تكن الكهرباء كافية لدوام سيطرة القطارات فظهرت السيارات والطائرات، وهي الوسيلة الأسرع والأكثر راحة، وهذا ما أزعج مسؤولي السكك الحديدة.

ثورة السرعة.. فخر الصناعة الفرنسية

سرعان ما تغير الحال مع ظهور القطارات فائقة السرعة المزودة بـ”توربين” طائرة مروحية. لقد دفع تعاقب أزمات النفط شركات التصميم الوطنية للسكك الحديدية الفرنسية إلى العمل بالدفع الكهربائي وكان أحد الخيارات تقليد قطارات “شينكانسن اليابانية”.

أطلق برنامج القطار فائق السرعة عام ١٩٦٤، وبعد فترة وجيزة اجتازت النماذج الأولية سرعة ٣٠٠ كيلومتر في الساعة، وفي عام ١٩٨١ أصبح بمقدرة الفرنسين السفر من باريس إلى ليون برحلة تستغرق ساعتين وأربعين دقيقة مقارنة بأربع ساعات في السابق.

وقد وضع هذا القطار أساسيات المفهوم الجديد للسكك الحديدية، ويضم محركات من الأمام والخلف بعضها يسحب والآخر يدفع ببراعة في الحركة الإيروديناميكية، مما جعله فخرا للصناعة الفرنسية، وهو تركيبة مثالية للتكنولوجيا الحديثة وقوانين الميكانيكا.

زود هذا بعجلات مخروطية تمكنه من تخطي المنحنيات، فعندما تدفع قوة الطرد المركزي القطار إلى الخارج عند المنحنى ترتفع العجلة الخارجية إلى قسم قطر أعلى، وتنزل العجلة الداخلية بقطر أصغر، فتقطع العجلات مسافات مختلفة عند الانحناء بنفس السرعة ونفس المحور.

وقد سجل القطار فائق السرعة رقما قياسيا آخر في عام ٢٠٠٧ حيث بلغت سرعته ٥٧٤ كيلومترا في الساعة، وقد صمم بعجلات أكبر وهيكل أصغر.

قبل ذلك افتتح نفق المانش عام ١٩٩٤ ليربط فرنسا ببريطانيا بطول 50 كيلومترا منها 38 تحت سطح البحر، وذلك في مدة زمنية قدرها 20 دقيقة. إنه تحفة هندسية فريدة.

مشروع “الهيبرلوب”.. تخليد المئة الثانية لعالم القطار

كان نفق المانش في فرنسا يشكل رقما قياسيا في عالم النقل، لكن تفوق عليه نفق قاعدة “غوثرو” الذي حمل رقما قياسيا جديدا بطول ٥٧ كيلومتر تخترق جبال الألب السويسرية، إذ يشبه فيلم خيال علمي يسير فيه القطار بطرق مستقيمة بسرعة ٢٠٠ كيلومتر في الساعة، وتبلغ الكتلة الصخرية الصلبة فوقه ٢٣٠٠ متر، وتكون درجة حرارة الصخور في هذا العمق ٥٠ درجة مئوية، ولكن بسبب ارتفاع النفق الذي يبلغ ٢٣٠٠ متر تعمل الصخور كعازل يخفض درجة الحرارة إلى الأربعين مئوية.

يبدأ نفق “غوثرو” من شمال جبال الألب وينتهي جنوبا، ويتكون من أنبوبين بمسار واحد يربطان ٣٢٥ مترا بأروقة متصلة مما يجعل المكان معزولا، وهذا هو حل الإخلاء في حالات الحريق.

من آلة بخارية بدائية إلى قطار هايبر لوب الخارق الذي سيسير مستقبلا بسرعة 1200 كم في الساعة

افتتح هذا النفق عام ٢٠١٦ واستغرق بناؤه 17 عاما، وحفر النفق التوأم بطول ١١٤ كيلومتر، ثم ربطت أروقة المداخل.

وفي اليابان تخطى القطار سرعة ٦٠٠ كيلومتر في الساعة بواسطة نموذج أولي لتكنولوجيا القطار المغناطيسي المعلق “ماغليف”.

و”ماغليف” قطار يستخدم التعليق الديناميكي الكهربائي، وهو مزود بمغانط كهربائية قوية على طول هيكله، وتوجد على طول المسارات الملتوية مغانط كهربائية أخرى يمكن أن تستبدل أقطابها والتبديل من قطر لآخر، أي أن القطار يتجاذب ويتنافر مع السكة بالتناوب، وهذا يعمل على دفعه وكل ما تبدلت الأقطاب بشكل أسرع زادت سرعته.

وهذه التكنولوجيا تحتاج إلى استثمارات ضخمة. وترى” كارول ديسنوست” أن تطبيق هذا النظام في فرنسا يتطلب كلفة عالية، وببساطة فإن فرنسا لن تستبدل البنية التحتية لمجرد مكاسب السرعة لأن هذا النظام لن يعوض تلك التكاليف الباهظة.

كما أن السرعة الخارقة لن تتخطى قوانين الفيزياء، فاحتكاك الهواء يزداد بشكل كبير، مما يعني ازدياد قوة الدفع المكثف.

يقول المهندس “فيليب هيرسي”: إن مشكلة السحب الديناميكي الهوائي تجعل تلك القطارات تسير في جو مفرغ من الهواء بشكل كامل أو جزئي، وهذا هو نظام “الهيبرلوب”.

و”الهيبرلوب” مشروع حلم به المهندس ورجل الأعمال الميلياردير “إيلون ماسك”، وقد أجريت الاختبارات في عام ٢٠١٧ في صحراء “نيفادا”، ويمكن أن تصل سرعة رحلة الركاب الأولى ١٢٠٠ كيلومتر في الساعة.

وهذا المشروع مستوحى من كتابات “جولف فيرن”، وهذا هو عالم الغد الذي سيوفر إمكانيات عديدة. إنه اختراع من سحر خاص لتخليد الذكرى المئوية الثانية لعالم السكك الحديدية.