“وهران يا حسرا”.. عشية بكت عين الجزائر الساحرة على وقع الراي

حسن العدم

قال عنها الفيلسوف الفرنسي “ألبير كامو” إنها مدينة مرتفعة تدير ظهرها للبحر، وهي مدينة العرب والإسبان والفرنسيين وحاضنة “الراي”، وتقول الأسطورة إن اسمها جاء حين ألقت الأمواج بأمير أندلسي على شاطئ البحر بعد أن تكسر قاربه في عرض البحر المتوسط، وعندما أفاق “جعفر” أحد أبناء وزير قرطبي، من غيبوبته وجد بجانبه أسدين يحرسانه، وكلمة “الأسدان” تقابلها في لغة الأمازيغ “وهران”، وبقي هذان الأسدان مرافقين لمدينة وهران حتى يومنا هذا.

من خلال فيلم وثائقي مهم تحت عنوان “وهران.. يا حسرا”، أطلت علينا قناة الجزيرة الوثائقية، لتحدثنا عن وهران وهمومها، عن هذه المدينة الشامخة التي ما خضعت للبحر يوما، يحاول بعض أهلها اليوم إخضاعها بالتغييب والنسيان، ولكنها تتمرد كما كانت دائما، وتستنطق صخورها التي حطمت أمواج البحر، وأزقتها القديمة التي سار فيها الأولياء والصالحون والمجاهدون، حتى ينتصروا لها من تنكّر حكامها المعاصرين.

 

مدينة الأسود.. يرحل كل الغزاة وتبقي وهران

إنها مدينة يصعب تمييزها أو فهمها من بعيد، وتستعصي قراءتها على من لا يفهمها، وهي كذلك تفتح ذراعيها للمحبين والثائرين، فالأمير القرطبي خرج ثائرا على أبيه لأنه لم يزوّجه الفتاة التي يحبها. ولذلك فالمدينة أيضا تلفظ من لا يحبها؛ فقد لفظت الفرنسيين واليهود وغيرهم، وبقي فيها المحبون فقط.

يقول قويدر مطير رئيس جمعية الأفق الجميل إن المدينة بُنيت من قبل المسلمين الأندلسيين القادمين من قرطبة، فقد أعجبهم موقع المرسى الكبير، وهو ميناء عظيم على البحر المتوسط، كان يستخدمه الرومان، وأطلقوا عليه اسم “بورتيس دي فينيك” ولكن لم يكن هنالك ماء عذب للشرب في منطقة المرسى، فاختاروا “منطقة رأس العين” التي ينبع منها ماء عذب، فشيدوا وهران هناك.

كانت وهران في بداية عهدها أموية، ثم تعاقب عليها الفاطميون والمرابطون والموحدون والزيانيون والمرانيون إلى أن سقطت غرناطة عام 1492، ثم احتلها الإسبان لحوالي ثلاثة قرون، وجعلوها ثكنة عسكرية خاصة، وكانت حصينة بشكل محكم ففيها عشرون حصنا وبرجا كبيرا، أهمها حصن “سانتا كروز” و”سان بيدرو”، إضافة إلى أبراج أخرى صغيرة.

ثم حُررت سنة 1792 عن طريق العثمانيين الأتراك، ودخلها الباي عثمان الكبير، حيث أصبحت عاصمة للبايلك الغربي، إلى أن سقطت في قبضة الجيش الفرنسي عام 1831.

تقول أستاذة التاريخ في جامعة بوستن “ديانا ويلي”: هناك نقص واضح في البحوث التاريخية حول وهران، ففي الثلاثين عاما التي قضيتها هنا لم يصدر إلا كتابان، لذا فهذا مكان جذاب بالنسبة للمؤرخين، فهو لا يزال بِكرا لم يكتشف بالكامل بعد، أُحب أن أسميها مدينة العولمة منذ القرون الوسطى، فاختلاط الأجناس فيها واستمراره حتى هذا اليوم يوحي لك بعظمة هذه المدينة”.

أهل وهران يتحدثون الفرنسية بطلاقة، أما الجالية الفرنسية فهي حاضرة بقوة في المدينة

 

بين أحضان العذراء.. المختبر المعماري

وفي احتفاليتها بعامها المئة بعد الألف، يحظى ضريح مولاي عبدالقادر الجيلاني بزيارات موسمية مستمرة، وقد بناه “سيدي بو مدين” الأب الروحي للتصوف الجزائري، وأحد مريدي الشيخ تكريما له، وهو يُطل على المدينة من الأعلى كأنه حارس لها من الغزاة، وهو أعلى من حصن “سانتا كروز” الإسباني (1577)، حيث يطل الحصن على كنيسة “نوتردام” الفرنسية التي بُنيت إثر الوباء الذي حل بالمدينة عام 1849، وقد وضعوا على أعلى أبراج الكنيسة تمثال السيدة العذراء كي تطرد الكوليرا والأمراض، ويطلق عليها المسلمون لقب “لله مريم”، وما زال الفرنسيون يحجّون إليها.

يقول بوزيان بن عاشور، وهو صحفي وروائي: فرنسا جعلت وهران مختبرا معماريا، اختبرت فيها جميع أشكال الهندسة المعمارية، لكن الجزائري لم يكن يحب المستعمر، كان يكره أن يسكن إلى جانبه، ومع ذلك فثراء المدينة يكمن في انفتاحها وتعدد ثقافاتها وجالياتها، انظر إلى المعمار والشوارع والمسارح، كل شيء يذكرك بالحقبة الفرنسية على المدينة، إن 150 عاما حولتها إلى باريس مصغرة.

ي، يقول “روبير دوازي”، وهو مهندس معماري فرنسي يسكن وهران منذ تحريرها: عندما تنظر إلى وهران من أعلى، خصوصا الجزء الحديث منها، وإذا تناسيت فترة الاحتلال الفرنسي، يُخيل إليك أنك ترى مدينة إسبانية، الفضاءات متقاربة جدا كأنها لا تتنفس كثيرا، كأنّ الناس هنا يبحثون عن تاريخ يتشبثون به، فاختاروا حضارة وثقافة الأندلس.

ويضيف روبير: معظم سكان وهران جاءوا مع التهجير القسري للموريسكيين (المسلمون من أصل إسباني) من الأندلس عام 1609، وتعتبر رمزا للتعدد الثقافي في الجزائر، وإحدى أكثر المدن انفتاحا وتسامحا.

“سِتّهُم الهوّارية” ناشطة من نساء وهران تعشق المدينة وتراثها، وتتحدر من سلالة سيدي الهواري الأب الروحي لوهران

 

يا حسرا.. إرث القرطبيين بين أيدي السماسرة

فاطمة بو فريق ناشطة في الدفاع عن المرأة وتحصيل مزيد من الحقوق لها، تتحدث عن دور المرأة في وهران، فالمرأة هناك معروفة بعفويتها وبساطتها وانطلاقتها، حيث تقول: نحن نقود المراكب، لا يهمنا إن كان المرفأ آمنا أو غير آمن، ونحن نطمح إلى الأحسن، قد تكون النساء في شرق البلاد أو جنوبها يحلمن بالوصول إلى ما وصلت إليه نساء وهران، ولكن ما زلنا نقارن أنفسنا بمن هو أحسن منا، في الجزائر أو خارجها، ونطمح أن نتفوق عليهن. وتركز فاطمة على جانب الحداثة المنضبطة بالتقاليد العريقة، وليس أن نرمي قديمنا ولا نختار الجديد المفيد.

أما “سِتّهُم الهوّارية” وهي ناشطة أخرى من نساء وهران، فتعشق المدينة وتراثها، وتدافع عن موروثها الثقافي والفني، وتتشبث به وتحاول أن تبعثه من جديد، وهي تتحدر من سلالة سيدي الهواري أحد الأولياء الصالحين والأب الروحي لوهران، وهو لم يولد في وهران بل في مدينة مستغانم، ولكنه أصبح رمزا للمدينة، وبركاته تحل على أهلها.

يقع ضريح سيدي الهواري في القصبة العتيقة لوهران، وحرصت الدولة الجزائرية على إعادة إعماره واعتباره أهم مركز حضاري في البلاد في القرن العشرين، لكن هذا لا يرضى الهوارية، ولا كثيرا من أقرانها من سكان وهران التاريخية، ويصرخون بمرارة: يا حسرتا على وهران، باعوها للمستثمرين الأجانب، أما نحن فصرنا غرباء، لقد صرنا نخجل أن نقول نحن وهرانيون.

ويشاطرهم بوزيان مشاعر الألم والحسرة حين يقول: ينتابني البكاء عندما أتجول في المدينة القديمة، الجزائر لا ينقصها المال، لكن تنقصها إرادة البناء والتعمير.

أكثر من 300 ألف شخص هاجروا بسبب الحرب الأهلية في عشوائيات تحيط بمدينة وهران

وهران الملاذ الآمن.. جراح العشرية السوداء

ظلت وهران مدينة آمنة حين جلّلت العشرية السوداء مدن الجزائر الأخرى، فخلال عقد التسعينيات من القرن العشرين نزح إلى وهران الكثير من العائلات من المدن الأخرى هربا من الحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد وأحرقت الأخضر واليابس، واستقروا في عشوائيات تطوق المدينة من كل نواحيها، كانت طفرة سكانية لم يصاحبها أي تطور في البنية التحتية والمرافق العامة.

كمال لحرج ناشط ثقافي يتحدث عن هذه الطفرة فيقول: المهندس المعماري البرازيلي “نيمور” الذي خطط مدينة برازيلية كان قد حذر السلطات الجزائرية من خلال عدة محاضرات، أن الهجرة الداخلية بين المدن كفيلة بأن تحدث خرابا كبيرا إذا لم يصاحبها نوع من التخطيط المرحلي والمستقبلي للمدن الكبرى.

هنالك ثلاثمئة ألف من الفارين من شبح الحرب ممن قصدوا “باريس الصغيرة” وجدوا أنفسهم عالقين في هذه العشوائيات المهملة على أطراف المدينة، وهذا العدد في تضخم مستمر حتى بات برميل بارود على وشك الانفجار يهدد مستقبل هذه المدينة الوادعة.

ويؤكد “لحرج” أن المحسوبية والرشاوى والفساد الإداري عوامل تهدد مستقبل المدينة، فأهلها لا يستفيدون من الفرص فيها، كما أن المدينة لا يقرر بناءها مجموعة من الخبراء يجلسون في مكتب مغلق، بل إن المدينة يبنيها أهلها، ومؤسسات المجتمع المدني فيها. ويتساءل كمال لحرج: وهران تتألم من أجل تراثها الذي يضيع ويتلاشى أمام ناظريها، هل يخططون لمحو ذاكرة المدينة؟

الوهرانيون يأملون بأن تقوم الحكومة بترميم المباني القديمة في المدينة لتصبح وجهة سياحية كحال مرسيليه

 

لماذا لا تكون مثل برشلونة.. أو مرسيليه؟

يقول قويدر مطير: على مدى خمسين عاما فائتة لم أشاهد مشروع ترميم ناجح، من السهل على المستثمرين بناء عمارة جديدة من عشرين طابق، ولكن من العسير جدا ترميم طابق أو طابقين من مبنى تراثي قديم. في الحقيقة فإن مدينة وهران من الناحية السياحية مرادفة لمرسيليا أو حتى برشلونة إذا توفرت النيات والإمكانات.

ويقول المهندس “روبير” عن إمكانية تطوير المدينة: القصبة القديمة التي سكنها العرب والإسبان يمكن ترميمها واستثمارها سياحيا بشكل جيد، ثم هناك مستشفى “بودانس” وهو مستشفى عسكري يعود إنشاؤه إلى عام 1860-1865، هنالك عشرة آلاف متر مربع من البناء يمكن تحويله إلى جامعة مرموقة، أو مجمع سكني كبير، مع ما يمكن أن يحدثه من نهضة تجارية واجتماعية.

الساسة يحاولون تحويل وهران إلى دبي المغرب العربي على حساب تراثها ومبانيها القديمة

دُبَي الممسوخة.. نريدها وهران وكفى

صُنفت الجزائر وهي عملاق الغاز الأفريقي على أنها صاحبة ثاني أكبر احتياطي عالمي للعملة الصعبة بعد السعودية، وهي تستثمر في مشروع تجاوز نصف مليار دولار لإنشاء شبكة مترو حديثة في مدينة وهران، يعمل به عمال وفنيون ومهندسون من فرنسا وإسبانيا، يتقاضى العامل منهم حوالي 70 دولارا في اليوم الواحد.

السياسيون الجزائريون يبنون وهران أخرى ذات أبراج مرتفعة بعشرات الطبقات، بعيدة كل البعد عن وهران التاريخية العريقة، يبنون وهران جديدة على غرار دُبي، أما أهل وهران ومثقفوها فيناشدونهم بالتوقف عن هذا التغريب، ويقولون لهم وهران ليست دبي، نِمتم أكثر من ثلاثين عاما ثم جئتم لنا بدبي؟ نريدها وهران فقط كما هي.

هدف جمعية الأفق الجميل الرئيسي هو المحافظة على هوية وهران، ويجتمع فيها العشرات من الشباب المبدع الواعد، ليقرروا كيف سيكون الوجه الجميل لمدينتهم، مثقفون ورسامون وموسيقيون يعيدون صياغة وهران على وفق ما بُنيت عليه في الزمن الجميل.

حي الدرب عاش فيه اليهود قبل حرب التحرير، وله حساسية خاصة عند مجاهدي الجزائر

 

حي الدرب.. مساكن الذين ظلموا أنفسهم

حي الدرب هو المنطقة المحرمة التي يُمنع الدخول إليها بأمر من السلطات، لكن ما السر فيه؟ إنه حي عاش فيه اليهود قبل حرب التحرير، وله حساسية خاصة عند مجاهدي الجزائر، ولذلك حرموه بعد الاستقلال من أي مشروع ترميم أو صيانة أو تجديد، بدعوى أن اليهود آنذاك ناصروا المستعمر الفرنسي، بل إن السلطات اليوم أزمعت أن تهدم الحي وتزيله من جذوره.

غير أن أصواتا تنادي اليوم بإنصاف هذا الحي، فهو ملك للمدينة والمواطنين والبلاد بعامة، يقولون إن وجوه الساكنين تروح وتأتي، ويبقى المكان لأهله الذين يسكنونه الآن. ولذلك فقد تحول الدرب إلى مشروع تخرج لمجموعة من طلاب الهندسة المعمارية، نذروا أنفسهم لإعادة رسم الحي وتخطيطه وبعثه إلى الحياة من جديد. ولذلك فقد طلبت السلطات التريث في إزالة الحي، وانتظار ما سوف يقدمه الطلبة من مخططات لتقييمها.

الشباب هم نبع الطاقة المتفجر في وهران، فهم يحبون مدينتهم ويحبون موسيقى “الراي” التي تعبر عن هوية المدينة الفنية، يعشقون “الشاب خالد” و”الشاب مامي” و”الشاب حسني” الذي اغتيل سنة 1994، ويعتبرون نجاح “الراي” بمثابة هزيمة للنخب السياسية والثقافية القديمة، فهذا اللون من الموسيقى صنفته السلطات على أنه نوع من الفن السوقي الهابط، بينما يعتبره جيل الشباب ثورة على العقليات القديمة التي تتحكم بديكتاتورية في مقومات البلاد، وتحرم الشباب من أخذ دورهم في التغيير.

موسيقى “الراي” الوهرانية تتجاوز شهرتها الآفاق بواسطة الشاب خالد وأصدقائه

 

موسيقى “الراي”.. سفيرة وهران إلى العالم

يقول قويدر: لقد سافرت إلى مدن كثيرة في العالم، وعندما أقول لهم إنني من وهران، فهم يذكرون عنها شيئين اثنين فقط؛ “ألبير كامو” الفيلسوف الفرنسي الذي كتب عنها، والشاب خالد ملك أغاني “الراي” العالمي، وقد كانت السلطات تنظر إلى موسيقى “الراي” على أنها طفل غير شرعي وغير مرغوب فيه، ولكن هذا الطفل كبر وأصبح شابا، وتجاوزت شهرته الآفاق ووصلت إلى درجة العالمية، فصار لا بد أن يتبناه أهله لأنه صار مصدر فخر لهم.

وهران ثقافة متعددة ومتوحدة، فهي لا تتجزأ، وهي لا تقبل أن تصطبغ بلون دون لون، إذا كان الله قد خلقها متعددة الوجوه، فلماذا تريدونها أنتم بوجه واحد؟ إن تعدد الثقافات والأجناس والأعراق والديانات هي نعمة أنعمها الله على وهران، حتى يستوعب الناس معنى التعايش والتسامح والإبداع الإنساني.