يوم أوروبا.. صلابة الاتحاد الأوروبي تُهدم بمعاول الشعبويين

أيوب الريمي

وزير الخارجية الفرنسي روبرت شومان الذي أعلن عن تأسيس المجموعة الأوروبية للفحم والصلب، التي ستنبثق عنها فيما بعد المجموعة الأوروبية التي هي نواة الاتحاد الأوروبي

في مثل هذا اليوم وقبل 69 سنة خرج وزير الخارجية الفرنسي روبرت شومان مزهوا فرحا ليعلن من قصر فرساي في العاصمة باريس تأسيس المجموعة الأوروبية للفحم والصلب، وهو ما سيعرف بإعلان شومان الذي ستنبثق عنه فيما بعد المجموعة الأوروبية التي هي نواة الاتحاد الأوروبي.

فلا عجب إذن من تخليد إعلان شومان باسم يوم أوروبا، كيف لا وقد كانت فكرة وزير الخارجية الفرنسي كفيلة بتحويل القارة العجوز من فضاء للحروب الدامية والصراعات التي لا تنتهي إلى أكبر تكتل اقتصادي في العالم يضم حاليا 27 دولة بعملة موحدة وبرلمان موحد.

ومن العوامل التي ساعدت شومان في إتمام مشروع المجموعة الأوروبية للحديد والصلب التي ضمت في البداية كلا من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبوغ، هو النتائج الكارثية والمدمرة للحرب العالمية الثانية والمخاوف من تكرار نفس السيناريو خصوصا بين فرنسا وألمانيا وهي الفكرة التي نص عليها الإعلان بأن “التضامن الذي سيتأسس سيجعل أي حرب بين فرنسا وألمانيا غير قابلة للتصور، وغير ممكنة من الناحية المادية”.

 

الأب الروحي للاتحاد الأوروبي

ساهم الوسط العائلي لروبرت شومان في إيمانه بأهمية الوحدة الأوروبية، فهو سليل أسرة عاشت على الحدود بين فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ. هذا الإحساس بالانتماء لفضاء أوروبي واسع ترسخ مع مساره الدراسي بانتقاله بين مدينتي بون وميونخ الألمانيتين وأيضا مدينة ستراسبوغ الفرنسية، هناك حيث حصل على الدكتوراه في القانون سنة 1990.

دخل شومان غمار السياسة سنة 1919 عضوا في البرلمان الفرنسي إلى غاية سنة 1936، وكأن مهمة التوحيد باتت قدر شومان، بتكليفه خلال هذه الفترة بمهمة إعادة دمج الألزاس في فرنسا بعد نزاع مرير مع ألمانيا، كما كان شومان من أشد المدافعين داخل المؤسسة التشريعية لبلاده على ضرورة احترام التنوع الثقافي والديني للمناطق التي استعادتها فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى، وناضل كي يحصل سكان هذه المناطق على رعاية اجتماعية أفضل وحماية كل حقوقهم دون تمييز وهنا سيظهر فكر الرجل المتحرر من التعصب والقومية المفرطة اللتين كانتا سائدتين في أوروبا خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين.

ورغم كل جهوده لتهدئة الأوضاع في أوروبا ونشر ثقافة الاعتراف بالتنوع، فإن قارته كانت على موعد مع حرب أكثر دموية من سابقتها، أي الحرب العالمية الثانية، التي سيصبح شومان بعدها وزيرا لخارجية بلاده من سنة 1948 وهنا سيصبح من أهم السياسيين الأوروبيين في تلك الفترة.

في منصبه الجديد يجد شومان نفسه أمام قارة منقسمة، فمن جهة هناك المواجهة بين المعسكرين الشرقي والغربي، إضافة لأزمة اقتصادية مردها الإنتاج الضخم للفحم بما يفوق الطلب مما أدى إلى تراجع أسعاره في العالم، ولم تكن الدول الأوروبية -وخصوصا ألمانيا وفرنسا- لتسمح بأن يصبح العمود الفقري لاقتصادها عرضة للمضاربة العالمية، وهكذا ولأول مرة منذ عقود تقف برلين وباريس في المعسكر نفسه لحماية مصالحهما الاقتصادية.

 

هذه الفرصة الذهبية تلقفها وزير الخارجية الفرنسي، للتفكير في مشروع يوحد الدول الأوروبية، ولأنه كان يعلم أن الشعوب الأوروبية لم تكن حينها مستعدة لمشروع وحدوي ضخم، فجراح الحرب العالمية الثانية لم تندمل بعد، وعليه فقد قدر أن البداية يجب أن تكون بمشروع اقتصادي محدود يوحد بعض الدول الأوروبية التي يخشى أنها يمكن أن تعود للصراع من جديد خصوصا فرنسا وإيطاليا وألمانيا، فكان الإعلان عن فكرة المجموعة الأوروبية للفحم والصلب في التاسع من مايو 1950 التي رأى فيها شومان أفضل رادع لأي مسبب لحرب محتملة، فالصلب والفحم الذي كان وقود الحروب سيصبح محفزا للنمو الاقتصادي والوحدة، وهذا ما عبر عنه في إحدى تصريحاته بقوله إن “الحديد والصلب لعبا في العقود والقرون الماضية في الصراع بين الشعوب الأوروبية دورا مميتا، لأن جميع الأسلحة كانت من الحديد والصلب. والآن يراد من الحديد والصلب أن يقربا الشعوب الأوروبية لتحقيق وحدة في العمل والتفكير”.

وبالفعل أثبتت رؤية شومان صوابها بتحقيق نتائج اقتصادية مبهرة وتعزيز التعاون والتنسيق الاقتصادي بين الدول الأوروبية والأهم من ذلك تجنيب القارة العجوز ويلات حرب جديدة، وسيكون العامل الاقتصادي حاسما في تشكيل السوق الأوروبية الموحدة والتوقيع على اتفاقية روما في عام 1958، ثم بعد ذلك وضع القانون الأوروبي الموحد سنة 1985، وأخيرا التوقيع على معاهدة ماستريخت سنة 1992 التي تعتبر محطة الانطلاق الحقيقية للاتحاد الأوروبي، هذا الاتحاد الذي أبهر العالم بقدرته على الاندماج وخلق عملة موحدة، واقترب من تشكيل جيش أوروبي موحد، وساهم في تحقيق إقلاع اقتصادي حقيقي في عدد من الدول الأعضاء.

فلا عجب إذن من تلقيب روبرت شومان بعراب الاتحاد الأوروبي وصانع الوحدة الأوروبية، هذه الأخيرة التي تتعرض في الوقت الحالي لهزة عنيفة قد تعصف بكل ما تم بناؤه منذ عقود، ولن يكون شومان والآباء المؤسسون لفكرة الاتحاد راضون عن الوضع الذي وصلت له فكرتهم الخلاقة بعد أن تلقت ضربات موجعة، لعل أقواها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتصاعد نفوذ اليمين المتطرف الشعبوي صاحب الخطاب المعادي لفكرة الاتحاد الأوروبي.

الاجتماع الأول لربوبرت شومان مع ممثلي ألمانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبوغ لتأسيس المجموعة الأوروبية للفحم والصلب

البريكست.. الشجرة التي تخفي غابة الشعبوية

يتابع الرأي العام الأوروبي والعالمي مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد، والتطورات الدراماتيكية التي يعرفها مسار الاتفاق على بنود خروج المملكة المتحدة. وكلما لاح أمل بالتوصل إلى اتفاق يكون مربحا للطرفين، انهار الاتفاق إما بسبب تعنت بروكسل أو تشدد البرلمان البريطاني الرافض للتفريط في سيادة بلاده بعد الانسحاب.

وفي كل مرة تفشل رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي في إقناع برلمان بلادها بما اتُفق عليه مع قادة الاتحاد الأوروبي يلوح سيناريو الخروج بدون اتفاق، وهو الخيار المرعب للجميع، بالنظر لما كشف عنه البنك المركزي البريطاني من احتمال تعرض اقتصاد المملكة المتحدة لانكماش مماثل لما حدث له بعد الحرب العالمية الثانية بنسبة 8%، وسيتطلب الأمر أكثر من عشر سنوات حتى يستعيد الاقتصاد البريطاني عافيته، فضلا عن احتمال نقص في الأدوية لمدة شهرين واختلال حركة الطيران والتجارة، ولهذا وصف وزير العمل البريطاني أمبر رود البريكست بأنه “حادثة سير” مروعة، أما رئيس المجلس الأوروبي فقد صرح بأن “أسوأ مكان في جهنم محجوز للذي فكر في البريكست”.

ومن أسباب نقمة قادة الاتحاد الأوروبي على بريطانيا أنها بقرارها الخروج حفزت عددا من الدول -خصوصا تلك التي باتت في يد اليمين الشعبوي- على التفكير جديا في الانسحاب هي الأخرى، ولهذا يحرص التكتل -وخصوصا ألمانيا وفرنسا- على إظهار الكثير من التشدد مع لندن لتكون عبرة لمن يعتبر، وتوجيه رسالة مفادها أن المملكة التي تعتبر سادس اقتصاد في العالم ستواجه نتائج كارثية بعد خروجها، فماذا عن الدول الصغيرة التي تستفيد من دعم المؤسسات الأوروبية؟!

ولهذا يقول بعض خبراء الاقتصاد إن إستراتيجية التخويف التي ينتهجها الساسة الأوروبيون لتضخيم النتائج الاقتصادية للبريكست، هي إستراتيجية لها أغراض سياسية أكثر من كونها تنطلق من وقائع، فالمؤشرات كلها تفيد بأن الميزانية المخصصة لمؤسسات الاتحاد الأوروبي هي الأكبر منذ تأسيس التكتل، ودعم عملة اليورو وصل لمستويات قياسية، مع انتعاش ملحوظ في نسبة النمو، أما البطالة التي تعتبر التحدي الأكبر في العديد من الدول الأوروبية فإنها تراجعت لأدنى مستوياتها منذ سنة 2000.

وهكذا يظهر أن الرغبة الجامحة لعدد من الحكومات في الانسحاب من الاتحاد الأوروبي لا تعود لأسباب اقتصادية بقدر ما هي أسباب أيدولوجية سياسية شعبوية، فمثلا في بريطانيا سنجد أن وزير الخارجية البريطاني السابق بوريس جونسون وهو أحد أشرس المدافعين عن البريكسيت، له علاقات وطيدة مع ستيف بانون المسؤول في حملة ترامب الانتخابية وصاحب النظريات اليمينية الأكثر تطرفا، ليبقى هذا التوجه السياسي هو كلمة السر إزاء ما يتهدد القارة الأوروبية من تفكيك.

 

المد الشعبوي.. نهاية أوروبا الموحدة

يقف الاتحاد الأوروبي على أعتاب انتخابات البرلمان الأوروبي التي توصف بالمصيرية لأنها ستحدد معالم مستقبله، فقد أظهر استطلاع للرأي أنجزته المؤسسة الأوروبية لقياس الرأي أن الأوروبيين باتوا أقل إقبالا على أحزاب الوسط واليسار مقارنة بأي فترة سابقة، ويستفيد من هذا التراجع الأحزاب الشعبوية المعادية لفكرة الاتحاد الأوروبي التي لم تنجح لحد الآن في الانضواء تحت فريق برلماني واحد، وتبدو حظوظها أقوى هذه المرة بعدما حققته من تقدم في الانتخابات التشريعية في أكثر من بلد أوروبي.

ومن مظاهر تنامي الخطاب المعادي للاتحاد الأوروبي التصريحات المتكررة لأكثر من حكومة أوروبية، وكلها تصب في اتجاه النقد الحاد لفكرة التكتل الأوروبي والتلويح بإمكانية الانسحاب، ولعل أقوى هذه المواقف تأتي من هنغاريا وبولندا وإيطاليا وأخيرا الجبهة الوطنية في فرنسا. في هذه الدول الأربع بات حضور اليمين المتطرف قويا بل وبات صاحب القرار، دون إغفال اليسار المتطرف الذي يعبر هو الآخر عن شكوكه في نجاعة الاتحاد الأوروبي، وهكذا يلتقي الشعبويون يمينهم ويسارهم على كلمة سواء، وهي معاداة الاتحاد الأوروبي.

ومن المؤشرات التي تجعل كل مساند للوحدة الأوروبية يضع قلبه على يده عدم حماسة الكتلة الناخبة لأحزاب الوسط واليسار التقليدي للتصويت في الانتخابات الأوروبية بسبب الإحباط من متاهة البريكست. أما بالنسبة للمتعاطفين مع اليمين المتطرف فهم ينظرون إلى الانتخابات القادمة في شهر يونيو/حزيران من العام الحالي كفرصة ذهبية لا تعوض لتقوية حضورهم داخل البرلمان الأوروبي ومن المتوقع أن يتعاملوا بجدية بالغة مع عملية التصويت.

ولعل صحيفة غارديان البريطانية لم تكن مبالغة عندما قالت إن أوروبا تواجه أسوأ أزمة وجودية منذ سنة 1930، بل إن الصحيفة تقول إن الاستقرار السياسي والمسار الديمقراطي في القارة العجوز بات مهددا، وتربط الصحيفة بين هذه الأزمة وبين إعلان المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل تخليها عن قيادة حزبها، واقتراب نهاية ولايتها الرئاسية.

 

لقد ظلت ميركل ومنذ وصولها للحكم سنة 2005 تمثل وجه الاتحاد الأوروبي القوي والصارم، فهي من واجه الأزمة الاقتصادية، وأزمة المهاجرين، لكن يبدو هذه المرة أن الوهن الذي أصاب البيت الأوروبي دفعها للانسحاب، خصوصا مع تزايد الإحباط من سياسة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي شكل وصوله للرئاسة أملا لإعادة إحياء المشروع الأوروبي، ولم يكن من قبيل الصدفة أن مجلة تايم الأمريكية وضعت في غلافها الشهير صورة للرئيس الفرنسي مع عنوان “يستطيع قيادة أوروبا” ثم إحالة صغيرة في الأسفل “إذا استطاع قيادة فرنسا”، وكأن المجلة الأمريكية توقعت مصير ماكرون الذي أظهرت استطلاعات الرأي أنه حقق أسرع تراجع لشعبيته في تاريخ الرؤساء الفرنسيين بسبب احتجاجات السترات الصفراء التي لم يهتد ماكرون لطريقة ناجعة في التعامل معها.

ليظهر أن المخاطر التي تهدد الاتحاد الأوروبي ما عادت مجرد مخاوف، بل هي واقع يتشكل وله ملامح عديدة، أبرزها تراجع اليسار الأوروبي الذي حقق في ألمانيا أسوأ نتائج انتخابية في تاريخه، وهناك الأحزاب اليمينية الصاعدة بقوة، وأيضا غياب القيادة الأوروبية مع قرب تواري ميركل عن المشهد السياسي، وانسحاب بريطانيا، فضلا عن الخطر القادم من الخارج سواء من روسيا التي ظهر أنها مولت الحملة الانتخابية لليمين المتطرف الفرنسي المعادي للاتحاد الأوروبي، وأخيرا ترامب الذي ينظر للاتحاد الأوروبي كمنافس وليس كشريك إستراتيجي، بل ولا يتورع عن دعوة بريطانيا للانسحاب ويغريها باتفاق تبادل حر غير مسبوق.. كلها عوامل تظهر أن الاتحاد يواجه أزمة وجود حقيقية ربما تؤدي لتفككه أو تُغير من ملامحه وتحوله لمرتع لليمين الشعبوي.