“عدالة اليونسكو”.. انتصار التراث الفلسطيني على لصوص التاريخ

تزييف وتزوير وتخريب وتدمير التاريخ من أجل رواية إسرائيلية كاذبة وتهويد مواقع فلسطينية هو سياسة ينتهجها الكيان الصهيوني، وقد تصدت لها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) وانتصرت للحق الفلسطيني، مؤكدة أن عددا من المناطق هي مواقع تراث فلسطينية.

هذا الانتصار تحقق بعد معركة ضروس بين الدبلوماسيين الفلسطينيين والإسرائيليين دارت رحاها في أروقة المنظمة الدولية خلال التصويت على مناطق التراث العالمي التي اعتمدتها اليونسكو كمواقع فلسطينية وهي: القدس، والحرم الإبراهيمي، وكنيسة المهد، وبلدة بتير.

فيلم “عدالة اليونسكو”

ويرصد الفيلم الوثائقي “عدالة اليونسكو” الذي عرض على الجزيرة الوثائقية، المحاولات المستمرة لدولة الاحتلال في بذلها كل الجهود والضغوطات من أجل إفشال التصويت في اليونسكو على هذه المواقع التراثية الفلسطينية، وكيف انتصرت الدبلوماسية الفلسطينية في النهاية، وكيف تعاملت إسرائيل مع هذا القرار بمقاطعة اليونسكو وشن هجوم شرس عليها.

“أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.. أكذوبة الصهيونية الكبرى

ويفصل الدكتور جمال عمرو -وهو أستاذ هندسة معمارية وخبير في شؤون القدس- كيف بنت دولة الاحتلال عملية التزييف على قاعدة “أثبت للعالم أجمع أنها كاذبة وهي: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.

ويقول: نحن أمام تاريخ مثبت ومدون وأثبتته الحفريات، وهو يشير إلى الوجود الفلسطيني الكنعاني في فلسطين منذ قديم الزمن، ولكن الإسرائيليين امتهنوا التزييف بشتى الأشكال، وتمكنوا من تسويق معلومات مزيفة ومغلوطة ومزعومة استمدوها من التوراة المحرفة التي كتبها أحبارهم بعد أكثر من 800 عام، عندما كانوا موزعين في أصقاع الأرض، وقد أرادوا نقل ما كتبه أحبارهم إلى وقائع وحقائق، فقاموا باستحداث رواية تلمودية مصطنعة عن تاريخهم المزعوم في فلسطين، وأنهم يعودون لأرض الأجداد.

مملكة داود.. استعمار يعجز عن إثبات الأحقية التاريخية

ويتحدث حنا عيسى الأمين العام للهيئة المسيحية الإسلامية عن مدينة السلام التي احتلتها عدة حضارات حتى أتاها العرب المسلمون وأطلقوا عليها بيت المقدس. ويقول: كل الحيثيات التاريخية تثبت أن هذه البلاد للفلسطينيين ولا يستطيع أحد القول بعكس ذلك، فالمخطوطات القديمة والمكاتب البريطانية والأمريكية والإسبانية والإيطالية والعثمانية تؤكد هذه الحقيقية التاريخية.

ويشير حنا عيسى إلى أن اليهود يتحدثون عن أن لهم في القدس بقايا من هيكل سليمان وكنس الإسخريوطي والمغاربة وبيت الدين، وأنهم يعتبرون أن القدس القديمة والخليل وطبريا وصفد ملكهم.

الهيكل المزعوم.. كذبة صهيونية تسعى جاهدة لهدم المسجد الأقصى

ويشرح حنا تاريخ مملكة داود قائلا: هذه المملكة كانت عام 1003 قبل الميلاد، فداود حكم 40 عاما وابنه سليمان 33 عاما، أي أن مملكة دواد زالت بعد 73 عاما، وهي -ككل الاستعمارات التي حكمت فلسطين- لم تستطع إثبات أحقية تاريخية لها في الأرض.

مشروع الوطن القومي.. إعادة توجيه البوصلة من أطراف الكوكب إلى فلسطين

كان من اللافت حديث الدكتور جمال عمرو الذي يقول: فلسطين لم تكن مطلقا في مقدمة أولويات مشروع إقامة وطن قومي لليهود، ولم تخطر ببالهم، وكان الحديث يدور عن البرازيل أو الأرجنتين أو أوغندا، لكن الدعم البريطاني وجه الدفة نحو محاولة إقامة مشروع وطن قومي لليهود في فلسطين.

وفي السياق نفسه يقول حنا عيسى: حتى هذه اللحظة هناك مجموعات يهودية ترفض العودة لفلسطين، ويعتبرون أنه عندما تقوم القيامة يأتون لفلسطين، لأنهم ليس لديهم أي تاريخ فيها، ولكن بعض الدول التي تدعم الحركة الصهيونية التي هي جزء من الحركة الماسونية العالمية هي من تدعم القدوم إلى فلسطين.

نص وعد بلفور البريطاني (1917) الذي أعطى فلسطين وطنا قوميا لليهود

ويرى أن إسرائيل كان يجب أن تقام عبر التاريخ في كندا أو الأرجنتين أو أوغندا أو العريش أو سيناء أو ليبيا، ولكن عندما انعقد مؤتمر بازل عام 1897 بدأ الحديث عن أن إسرائيل ستقام في فلسطين.

ولكن رغم وضوح هذه الأدلة وثبوتها عبر التاريخ، فإن الدبلوماسية الفلسطينية دخلت بكل قوتها معركة في اليونسكو لتثبيت الحق، وعملت الآلة الدبلوماسية والسياسية والقانونية لدولة فلسطين -وقبلها منظمة التحرير- على دحض الروايات الإسرائيلية المزعومة.

تخريب الرواية التاريخية.. تراث يئن تحت أيدي المستوطنين

يقول الدكتور عمر عوض الله -وهو مدير عام بوزارة الخارجية الفلسطينية-: إسرائيل بصفتها قوة استعمار في أرض دولة فلسطين، كانت تعمل منذ البداية على تغيير وتشويه وتخريب الرواية التاريخية التي تعتبر المؤسسات الدولية المعنية بالثقافة والعلم والتاريخ.. لذلك كان لا بد من أن تبدأ إسرائيل بتزوير التاريخ وتغييره لصالح هذا المشروع الاستعماري في فلسطين، باعتبار أن جميع هذه المناطق التراثية هي إسرائيلية أو تتبع لديانة واحدة فقط.

وأوضح أن اليونسكو جزء من مؤسسات القانون الدولي، وكان القرار السياسي آنذاك أن تكون كنيسة المهد في مدينة بيت لحم هي أولى المواقع التراثية والأثرية التي ترغب دولة فلسطين بأن تكون على لائحة التراث العالمي، وجاءت بعدها بتير والحرم الإبراهيمي وبلدة الخليل القديمة.

اليونسكو تدرج كنيسة المهد في بيت لحم على قائمة التراث العالمي في حزيران/يونيو 2012

غير أن هناك حساسية خاصة للخليل بالنسبة للإسرائيليين، وفقا لمنير أنسطاس سفير فلسطين الدائم في اليونسكو، وهو يكشف السبب بقوله: جزء من البلدة القديمة مسيطر عليه من قبل الاحتلال والمستوطنين، مما يصعب القيام بعمليات الصيانة والترميم لموقع تراث عالمي.

سياحة النهب التراثي.. أذرع التزوير تعوق عمل اليونسكو

وتقول وزيرة السياحة والآثار الفلسطينية رولا معايعة: عندما نروج لفلسطين سياحيا، فإننا نذكر كل المدن والمواقع الأثرية والتراثية الفلسطينية، ولكن إسرائيل من أجل أن تستفيد سياحيا تروج لهذه المواقع على أنها إسرائيلية، فإسرائيل بذلت كل ما في وسعها من أجل وقف إدراج هذه المواقع على لائحة التراث العالمي، متذرعة بادعاءات غير صحيحة، لكن هذه المواقع هي الآن مواقع تراث عالمي فلسطيني مسجلة في اليونسكو، والعالم كله بات يعرف هذه الحقيقة.

الفضائيات العالمية تبث خبر اعتراف اليونسكو بالقدس والمقدسات تراثا فلسطينيا

كثيرة هي العوائق التي يضعها الاحتلال أمام اليونسكو، ويقول منير أنسطاس إن من بينها رفض الاحتلال منذ نحو 10 سنوات استقبال وفد من المنظمة يريد زيارة القدس من أجل مهمة بسيطة، قوامها رفع تقرير حالة الحفاظ على الموقع.

“معادٍ للسامية”.. مسرح إسرائيل الساخر في وإعلامها الغاضب

اهتمت وسائل الإعلام العربية والعالمية بالنصر الفلسطيني الصارخ الذي نجح في إدراج هذه المواقع على لائحة التراث العالمي كمواقع فلسطينية، غير أن ردة فعل الاحتلال كانت عنيفة وهيستيرية، وبدأ مسؤولوه يصفون اليونسكو بكلام يصفه الدكتور جمال عمرو بأنه “سوقي لا يليق إلا برجالات المافيا والشوارع، ووصل هذا الغضب إلى وصف قمة هرم الدبلوماسية الإسرائيلية، لليونسكو بالمنظمة الإرهابية”.

ولم يقف الأمر هنا، فالسفير الإسرائيلي الدائم في اليونسكو خرج بمشهد تمثيلي، ووضع سلة مهملات على الطاولة وكتب عليها كلمة “التاريخ” باللغة الإنجليزية، ثم هاجم القرار بعنف واعتبر أن مكانه الوحيد هو في مزبلة التاريخ ورمى القرار في سلة المهملات.

المتحدث باسم “إسرائيل” في الأممم المتحدة يضع قرار اليونسكو في سلة قمامة مكتوب عليها “التاريخ”

ولم يكتف الاحتلال بهذا القدر، إذ شنت وسائل إعلامه حملة شعواء على القرار واصفة إياه بأنه “معادٍ للسامية”، كما حرضت دولة الاحتلال الولايات المتحدة على وقف دعمها المالي للمنظمة وقلصت مساهمتها المالية فيها.

وعن رد الفعل الاستثنائي، يقول السفير منير أنسطاس: إن الإسرائيليين دائما ممتعضون من قرارات كهذا ويحاربونها بشتى الطرق، حتى أنهم أنشأوا وحدة خاصة في وزارة الخارجية لمتابعة قرارات اليونسكو، وهذا الاهتمام البالغ بقرارات المنظمة الدولية عكس كلامهم العلني عن أن قراراتها حبر على ورق. إن جدوى تلك القرارات أنها وثائق قانونية توثق الانتهاكات الإسرائيلية ومطالبات المجتمع الدولي من سلطات الاحتلال بالكف عن تلك الانتهاكات.

“نكون أو لا نكون”.. صراع التراث الفلسطيني في المحافل الدولية

يقول الدكتور عمر عوض: اليونسكو تعلم من يُزور ويُخرب ويُدمر التاريخ من أجل رواية كاذبة، تعلم من هم أصحاب الأرض الأصليين، ومن كان يعيش على هذه الأرض ولمن يتبع هذا التراث الموجود في القدس وبيت لحم والخليل وكل المدن الفلسطينية. فالإنصاف يأتي من هذه المنظمة التي تعتمد قواعد القانون الدولي الخاص بالحفاظ على التراث والثقافة والتاريخ، وهذا ما تقوم به الدبلوماسية الفلسطينية إلى جانب الحفاظ على الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشعب الفلسطيني.

كاريكاتور حول قرار اليونسكو باعتبار المسجد الأقصى تراثا إسلاميا خالصا والذي أرعب اليهود ودولة الكيان الصهيوني

ونصح الدكتور جمال عمرو المسؤولين الفلسطينيين بعدم التوقف عن الاهتمام بقرارات اليونسكو وعدم الانشغال بالسياسة، كما دعاهم إلى ترجمة القرار إلى كافة اللغات وإرساله مع موفد إلى دول العالم لشرح أهمية هذه المواقع التراثية الفلسطينية. وأضاف قائلا: يطلب هذا الموفد من الدول وقف التعامل مع أي موقع أثري سياحي فلسطيني على أنه إرث يهودي إسرائيلي.

وختم بقوله: هذا الموضوع لا يحتاج إلى اجتهاد لأنه وجودي “نكون أو لا نكون”.. واليونسكو منظمة دولية ويجب أن لا يصدر عنها أي قرار يدين الفلسطينيين بأي حال من الأحوال.