العربي بن مهيدي.. جزائري حارب فرنسا وانتهى به الحال إلى المشنقة

في القرن الأول قبل الميلاد، شهدت منطقة خميسة طاغست بسوق أهراس الجزائرية ميلاد قائدها النوميدي “تاكفاريناس” الذي قاوم روما، وقاد ثورة شرسة ضدها دامت سبع سنوات.

قضت روما على القائد النوميدي سنة 24م في معركة سور الغزلان بالجزائر، ودفن هناك، وقد انتظر أكثر من تسعة عشر قرنا ليشهد بعثه من جديد، ولعله حلّق طويلا خارج ضريحه الكائن بمنطقة سور الغزلان، ليشاهد طفلا صغيرا يقود فوجين من الأطفال وهم يضعون على رؤوسهم خوذات من ورق ويشدون على أحزمتهم حبالا، ويحاكون معركة وهمية على سفح جبل محاذ لدوار الكواهي شرق الجزائر.

لم يكن ذلك الطفل سوى محمد العربي بن مهيدي المناضل الجزائري، وكما استبسل “تاكفاريناس” في مقاومة روما، فقد استبسل بن مهيدي في مقاومة فرنسا حتى انتهى إلى حبل المشنقة.

نشأة الزاوية.. طفولة بين القرآن والكتب العربية

في العام 1923 وُلد محمد العربي بن مهيدي بدوار الكواهي، وهي إحدى قرى مدينة عين مليلة شرق الجزائر. لم يكن ذلك الطفل ليلقى حظوة في سن مبكرة إلا بسبب نسبه، فجده قاض ورث عنه ابنه حبه للعلم والدين، مثلما ورث زاوية كانت وجهة لطلبة العلم، هناك قدمت لهم عائلة بن مهيدي المأوى والمأكل.

لم تجد عائلة بن مهيدي في البداية صعوبة في تعليم طفلها العربي الذي ارتاد في سن مبكرة زاوية العائلة لتعلم القرآن واللغة العربية التي حافظت على نقاوتها من الموريسكية والفرنسية، خاصة في الريف الجزائري، ثم درس في مدرسة نظامية بمدينة الخروب، قبل أن ينتقل إلى مدينة عين مليلة لمتابعة دراسته، لكنه واجه صعوبة التنقل والعودة إلى المنزل، فقرر والده نقله إلى مدرسة بمدينة باتنة.

لم يغب بن مهيدي عن عائلته، فكان يعود إلى قريته دائما. يقول الكاتب رابح لونيسي في كتابه “قاهر الجلادين، الشهيد محمد العربي بن مهيدي” إن الفتى تفطن منذ سن مبكرة إلى التمييز وعنصرية الاستعمار التي كانت تمارسها قواته ضد التلاميذ الجزائريين مقارنة بالتلاميذ الفرنسيين، فكانت تعمد إلى حرمان التلاميذ من تعلم اللغة العربية، وتسعى إلى مسح شامل لهويتهم العربية والإسلامية، حتى يتسنى لها إقناعهم بأن الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا، وهذا ما خلق حقدا دفينا على فرنسا في الجزائر.

لم تغفر سلطات الاستعمار لعائلة العربي بن مهيدي دورها في تعليم الطلاب القرآن واللغة العربية في الزاوية التي تديرها العائلة، واضطر أبوه إلى الانتقال إلى منطقة بسكرة، بعد أن أتم ابنه المرحلة الابتدائية في مدرسة باتنة، واشتغل في تجارة التمور في بسكرة، حيث أنهى محمد العربي مرحلته الثالثة هناك.

“هكذا يجب أن نصطاد فرنسا كي ترحل عنا”

يروي الباحث الجزائري السبتي الغيلاني قصة تمرّد العربي بن مهدي المبكّر، ويقول إنه في إحدى زياراته إلى أهله بعين مليلة، وقف أمام قابض فرنسي في محطة القطار المتوجه إلى مسقط رأسه، فشتمه القابض، فاحتج الطفل وقرر أن يشتكيه لمدير المحطة، وتعنت في طلب دفتر الانطباعات ليسجّل شكواه، غير أن خاله نصحه بالعدول عن ذلك، وطمأنه بأنه سيسوي المسألة، لكن الفتى بن مهيدي أصر على انتظار مدير المحطة ليبلغه شكواه.

لاحت شعلة التمرد لكل المحيطين بالعربي بن مهيدي منذ أن كان فتى صغيرا، ويستحضر ابن عمه عبد النور بن مهيدي صديق طفولته في رواية نقلها الباحث السبتي الغيلاني عن حادثة قابض القطار الذي أهانه، ويقول إن تلك الحادثة أينعت بذرة المقاومة في نفسه، حتى أنه في إحدى زياراته لأهله خلال العطلة جمع أصدقاءه وصنع خوذات من الورق، وقادهم إلى جبل محاذ، وبدأ الفوجان بقتال وهمي، وكان بن مهيدي يحفزهم قائلا “هكذا يجب أن نصطاد فرنسا كي ترحل عنا”.

المناضل الجزائري العربي بن مهيدي الذي جابه الاستعمار الفرنسي

بدأت الأقدار تكشف عن أوراقها، ولاحت خطوط طريق العربي بن مهيدي ووجهته في مرحلتين؛ الأولى في العام 1941، حين انضم إلى الكشافة الإسلامية فوج الرجاء ببسكرة، والثانية حين التحق بأول مدرسة للتربية والتعليم في الجزائر، وكان مدرسه هو الشيخ سماتي محمد العابد الذي تكفّل بتقديم دروس خصوصية له بعد أن حرم بن مهيدي من مواصلة الدراسة بسبب عنصرية المسؤولين الفرنسيين.

تولى الشيخ تعليم العربي بن مهيدي، وبدأ الفتى فعليا بفهم السياسة والتاريخ بفضل معلمه. في تلك الفترة حظي العربي بن مهيدي سريعا بمنصب القيادة في الكشافة الإسلامية، وأصبح قائد فريق الأشبال في فرع الرجاء ببسكرة.

الكشافة الإسلامية.. أنشطة تصقل الموهبة العسكرية

يقول الصحفي الجزائري منتصر أبترون في شهادته في الفيلم الوثائقي “العربي بن مهيدي صندوق الأفكار” إن هدف الكشافة الإسلامية كان التغطية على أنشطة أخرى، وهي أنشطة مثل التدريب والتحضير للثورة، وأن التدرب على السلاح قام تحت غطاء الكشافة، لذلك صقل انضمام بن مهيدي للكشافة الإسلامية موهبته العسكرية وروحه القيادية.

تقول أخته ظريفة بن مهيدي في شهادتها في الوثائقي إن أخاها ورث خبرة عسكرية من الكشافة، قبل أن يعمل في مصلحة التموين بثكنة عسكرية فرنسية بسعي منه، حيث سرق مسدسا ودفترا يحتوي على معلومات قبل أن يفصل من العمل هناك.

اكتسبت الحركة الكشفية شعبية كبيرة لدى الجزائريين، وتحولت إلى مدرسة حقيقية لتلقين الشباب الأفكار الوطنية والتشبع بالفكر الاستقلالي وترديد الأناشيد الحماسية التي تغذي روح الانتماء القومي في صفوفهم، وهو ما يذكره الكاتب الجزائري عبد الحميد زردوم في كتابه “كشافة بسكرة 1930-1962”.

هناك وجد العربي بن مهيدي ضالّته، ولم تمض بضعة أشهر قبل أن يصبح قائد أشبال سرب عبد الحميد بن باديس التابع لفوج الرجاء.

سلاح الفن.. مقاومة الكلمة على خشبة المسرح

التقط العربي بن مهيدي كل أسلحة المقاومة التي قدمها له انضمامه إلى الكشافة، ومن ضمنها سلاح الفن، وكان في كل مرة يتقن استعمال السلاح الذي يلتقطه ببراعة.

صورة للعربي بن مهيدي خلال اعتقاله من قبل الفرنسيين

يقول الكاتب الجزائري بن عبد المومن إبراهيم في بحث بعنوان “محمد العربي بن مهيدي مسيرة حكيم 1923-1957” إنه كوّن فرقة مسرحية بعد انضمامه للكشافة الإسلامية، وقدّمت هذه الفرقة عدة مسرحيات، أشهرها مسرحية “في سبيل التاج” عام 1944، وقد تقمص بن مهيدي الدور بشكل جيد، مما تسبب له في مضايقات، ومنع من السفر صحبة فرقته للعرض في مدن مختلفة.

اقتُبست مسرحية “في سبيل التاج” من مسرحية للشاعر الفرنسي “فرانسوا كوبي”، وتروي هذه المسرحية الحرب التي شنتها الإمبراطورية العثمانية على شعوب البلقان، وكانت مرآة حقيقية للوضع في الجزائر آنذاك. تقمص العربي بن مهيدي دور البطولة، واقتضى الدور أن يقتل البطل أباه القائد العام لجيش التحرير في البلقان، حين عزم على خيانة وطنه من أجل التاج مقابل دخول قوات الاحتلال، وتكتم بطل المسرحية على خيانة والده وعلى حقيقة موته، حتى أثر ذلك الدور كثيرا في العربي بن مهيدي.

ذاع صيت المسرحية بعد عرضها في مدن قسنطينة وعنابة وقالمة، لذلك أصدرت سلطات الاستعمار الفرنسي أمرا بمنع عرضها في جنوب الجزائر.

شدت المسرحية رحالها إلى غرب الجزائر، ولم يشارك فيها العربي بن مهيدي، وذلك بعد أن دست قوات الاحتلال الفرنسي عملاءها في صفوف المشاهدين للتعرف على هوية سي لخضر، الذي لم يكن سوى بن مهيدي، حسب رواية الباحث السبتي الغيلاني.

قضى العربي بن مهيدي بداية العقد الثاني من عمره في صقل نفسه، إذ يقول الباحث عبد المومن إبراهيم إن بن مهيدي: اهتم بالرياضة، فكان يقوم بممارسة العدْو، وانضم أيضا إلى فريق كرة القدم الذي تأسس باسم “الاتحاد الرياضي البسكري”، كما نجده مع كل هذا محبا للسينما ومشاهدة الأفلام السياسية والتاريخية، وكان يطالع الكتب والجرائد، وكان حسب روايات مقربين منه متأثرا بكتاب القائد البربري “تاكفاريناس” الذي قاوم الرومان في شمال أفريقيا، ولعل كل هذا ساهم في صقل شخصيته وتنمية روح الوطنية لديه.

وقد مهدت الكشافة والمسرح لدخول العربي بن مهيدي طريق المقاومة الذي انتهى به بطلا معلقا في حبل مشنقة الاستعمار.

أيام السجن.. إضراب عن الأكل وتشبع بالروح الوطنية

في بداية العام 1944 أسس فرحات عباس حركة البيان والحرية، وكان بن مهيدي من ضمن أعضائها، وأسندت مهمة الكتابة في نادي الحركة له. يقول الباحث السبتي الغيلاني إن المناضل محمد عصامي هو من قدم بن مهيدي لمحمد بوضياف للنشاط ضمن حزب الشعب السري عام 1945، وكان الحزب حينها قد وضع عينه على الشباب الناشط في الكشافة.

العربي بن مهيدي في الوسط، مؤتمر الصومام 1956

ويقول الباحث عبد المومن إبراهيم: نظرا لقدراته الكبيرة على التنظيم والتسيير، كلف من طرف أحمد الشريف سعدان للقيام بمهمة كاتب عام لفرع حركة أحباب البيان والحرية ببسكرة، وقد عمل بكل تفان على تعليم وتثقيف المنخرطين الجدد في الحركة. لقد شهدت منطقة الشرق الجزائري هزة قوية سرعان ما تحولت إلى مجازر في مظاهرات مايو 1945، وكان العربي بن مهيدي أحد المشاركين فيها، فأوكلت له مهمة رفع العلم الجزائري والسير به في الصفوف الأولى، وعقب المشادات بين المتظاهرين والشرطة اعتقل من طرف الشرطة بصفته أحد أعضاء قسم بسكرة، وواحدا من أبرز مناضلي حركة أحباب البيان والحرية.

تعرض بن مهيدي للاستنطاق والتعذيب بتهمة التظاهر ورفع العلم، وقضى 21 يوما بمركز الشرطة في بسكرة، وامتنع فيها عن الأكل متأثرا بما حصل، وذلك حسب ما روى زميله المجاهد الذي اعتقل معه محمد عصامي. لقد تأثر بالفترة التي قضاها هناك، وتشبع أكثر بالروح الوطنية، خاصة بعدما رأى المجازر التي طالت الجزائريين الأبرياء في شهر مايو 1945.

وبعد تأسيس المنظمة الخاصة سنة 1947 وقع الاختيار مباشرة على العربي بن مهيدي باقتراح من محمد عصامي مسؤول خلية حزب الشعب الجزائري-حركة انتصار الحريات الديمقراطية بمدينة بسكرة، ومنها بدأ نشاطه بربط علاقاته واتصالاته بتجار الأسلحة بوادي سوف على الحدود الجزائرية التونسية، واستطاع شراء بعض الأسلحة زود بها مصطفى بن بولعيد لتخزينها في الأوراس.

“المنظمة السرية”.. أنشطة تجوب أرجاء الجزائر في الخفاء

في العام 1949 دُعي العربي بن مهيدي إلى سطيف للإشراف على “المنظمة السرية” التابعة لحزب الشعب، ليعين نائبا لمحمد بوضياف المسؤول عن المنظمة في منطقة قسنطينة، قبل أن يخلفه ويصبح بن مهيدي مسؤولا عنها في منطقة الشرق الجزائري.

أسس العربي بن مهيدي خلايا للتنظيم السري في مناطق كثيرة، قبل أن يُكشف أمرها في 18 مارس/آذار 1950، بعد وشاية نُسبت إلى عبد القادر خياري الملقب برحيم، وقد أدت إلى اعتقال قرابة 400 شخص اشتُبه في انتمائهم إلى المنظمة، وحُكم على بن مهيدي بالسجن عشر سنوات، بعد أن فرّ إلى الغرب الجزائري.

أصبح العربي بن مهيدي تحت مجهر سلطات الاستعمار، وكان يتنقل متخفيا بين مناطق الغرب الجزائري. يروي الباحث بن عبد المومن إبراهيم أنه في تلك الفترة عُيّن في منصب رئيس دائرة لحزب الشعب في منطقة مستغانم، ثم وهران وتلمسان، والتقى بقيادات الحزب مثل أحمد زبانة. ويقول: زار بن مهيدي مناطق على الحدود الجزائرية المغربية، لكنه ظل مراقبا من قبل السلطات الاستعمارية التي علمت بأنه في وهران، في أقصى الساحل الغربي الجزائري.

منزل العربي بن مهيدي في مدينة بسكرة

ويروي إبراهيم حادثة القبض عليه صحبة مقاوم آخر قائلا: أوقفا من طرف الشرطة، واقتيدا إلى المركز للتحقق من الهوية، ومن حسن الحظ أنهما تحيلا على الشرطيين المكلفين، واستطاعا أن ينسحبا من المقر. وبعد التدقيق في هويتهما حدثت بلبلة في مقر الأمن، فقد اختفى المشبوهان، وخرجت دوريات للبحث عنهما، فقد كانت لهما بطاقات حقيقية وهويات مزورة صادرة من طرف المصالح المتخصصة للحزب، وقد استطاعا الإفلات بأعجوبة، وقد عاد بعدها محمد العربي بن مهيدي إلى الجزائر العاصمة، وبقي هناك مدة بدون تكليف.

في العام 1953 أصبح العربي بن مهيدي أمين مال حركة الانتصار، والتقى مع المناضل الحاج محمد بن علة. يقول الباحث عبد المومن إبراهيم: التقى الرجلان بن مهيدي وبن علة بعد ذلك، وتدارسا الأمور وفهما من بعضهما ميولهما الثورية الكبيرة في ظل الأزمة التي كان يمر بها الحزب، وقد سأله الحاج بن علة يومها عن السلاح، فأجابه بن مهيدي أن السلاح متوفر، وأصبح بن علة بعدها نائبا لبن مهيدي، وأحد أبرز القادة الذين سيحضرون لتفجير الثورة في العمالة الوهرانية أي المنطقة الخامسة.

كان لقاء بن مهيدي وبن علة الشرارة التي ستشعل العمل المسلح فيما يسمى بالمنطقة الخامسة. في تلك الفترة عمل العربي بن مهيدي على إنشاء “لجنة شبكة التعبئة والتوعية” التي ترأسها الحاج غالي، وكلّف مسؤولي اللجنة بجمع المال والمتعاطفين والبحث عن المخابئ.

ثورة التحرير.. اتفاق تاريخي يبدأ حقبة الكفاح المسلح

يروي المناضل الجزائري محمد القنطاري في مداخلة بعنوان “قيادة الحدود والقاعدة الغربية” إن محمد بوضياف حدثه عن ميلاد جبهة التحرير الوطني، وأن فكرة تأسيسها جاءت في حديث بين بوضياف وبن مهيدي خلال استراحتهما ليلا بوادي كيس على الحدود الجزائرية المغربية، عند عودتهما من الناظور بالريف المغربي إلى الجزائر العاصمة، ويضيف القنطاري: قال محمد بوضياف للعربي بن مهيدي: اذهب إلى بلدية مغنية لتسجيل ميلاد جبهة التحرير الوطني الجزائري. ويروي القنطاري أن بوضياف وبن مهيدي كانا في طريقهما نحو اجتماع مجموعة 22 الذي مهّد لاندلاع الثورة الجزائرية.

في مايو/أيار عام 1954 زار العربي بن مهيدي منزل والديه في بسكرة، ودعا معه رفاق النضال للحديث عن المستجدات الحاصلة على الساحة السياسية في بسكرة وكل الجزائر، وخلال هذا اللقاء أخبرهم أنه لا أمل في نجاح أي مواقف سياسية سلمية مع الاستعمار الفرنسي، وأنه لم يبق أمامهم إلا اللجوء إلى الكفاح المسلح حسب شهادة أخته نفيسة بن مهيدي.

بقي العربي أسبوعين في منزل عائلته قبل أن يشد الرحال إلى العاصمة، هناك باشر بالتحضير لاجتماع سيحضره أعضاء المنظمة في يونيو/حزيران عام 1954، وضم 22 عضوا، وعقد في منزل إلياس دريش، ومن هناك انبثقت ثورة التحرير الجزائرية.

طرح المجتمعون تقييم عمل “المنظمة الخاصة” منذ نشأتها إلى غاية اكتشاف المستعمر لنشاطها، ومشاكل حزب حركة الشعب وانقسامه، وانتهى باتفاق تاريخي وهو بداية الكفاح المسلح. نصح العربي بن مهيدي بالسرية، وبأن يكون التحضير للثورة المسلحة حذرا، وكوّن محمد بوضياف الذي تولى مسؤولية التنسيق تكوين لجنة مكونة من خمسة أعضاء، من ضمنها العربي بن مهيدي، تتولى التحضير للكفاح المسلح.

كان شق حزب الشعب الموالي لمصالي الحاجي قد عارض حمل السلاح، في حين وافق أحمد بن بلة من سويسرا على قرار اللجنة والترويج للثورة في الخارج. وقد بدأ التحضير للثورة المسلحة في بداية خريف العام 1954، وتقرر حينها إنشاء منظمة جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني، واعتبار يوم 1 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1954 تاريخ اندلاع الثورة المسلحة، حيث قسمت المناطق الجزائرية إلى ست مناطق، وعُيّن العربي بن مهيدي مسؤولا على المنطقة الخامسة وهي منطقة وهران.

اندلاع الثورة.. ضربات موجعة لجنود الاستعمار

في ليلة الاثنين الأولى من نوفمبر/تشرين الثاني 1954، شهدت الجزائر ميلاد ثورتها المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي، ليبدأ عصر جديد ينتهي بفجر الحرية للجزائر.

يقول الباحث السبتي الغيلاني: استطاع العربي بن مهيدي أن يهيئ الظروف الملائمة لاندلاع الثورة في موعدها المحدد، فوزع على معاونيه المهام، وكلف أحمد زبانة بشن هجوم على مخزن الأسلحة وذخيرته الحربية، وكلف المناضل عبد المالك رمضان بالهجوم على مركز الدرك الكائن بسيدي علي كسان بمستغانم، وكلفت مجموعة أخرى باستهداف ممتلكات المعمرين بتلمسان، وذلك بحرق مخازن الحلفاء، وإتلاف محاصيل المعمرين، بينما قاد الحاج بن علة مهمة إتلاف المزارع والمحلات التجارية للمعمرين بعين تمشونت، وقام بن مهيدي صحبة مجموعة من المقاومين الآخرين بحرق مخازن الفلين، وقطع الأعمدة الهاتفية، وتخريب الطرقات بمنطقة أحفير قرب تلمسان. نفذ المجاهدون تحت إمرة العربي بن مهيدي أربع هجمات، واستحوذوا على بندقية، وقتلوا اثنين وجرحوا ثلاثة فرنسيين.

العربي بن مهيدي رفقة قادة ثورة التحرير الجزائرية 1954

وفي الأول من أكتوبر/تشرين الأول عام 1955، شن المقاومون هجمات عدة، وأحرقوا المزارع، وقطعوا السكك الحديدية والجسور، وقتلوا عددا من الجنود الفرنسيين، فكانت ضربة موجعة للمستعمر الفرنسي.

جيش تحرير المغرب العربي.. اتحاد المقاومين الجزائريين والمغاربة

كان العربي بن مهيدي قائدا قويا، فقد غنم السلاح، وقاد المقاومين الجزائريين والمغاربة إلى تأسيس جيش تحرير المغرب العربي، وساهم هذا التنسيق في انتعاش الثورة المسلحة في المنطقة الخامسة التي يشرف عليها بن مهيدي.

يقول “روبرت ميرل” في كتابه “مذكرات أحمد بن بلة “: في طول الشمال الأفريقي كانت الجماهير العربية قد حملت السلاح، لأن ثورة جهة وهران كانت قد نظمت بالاتصال مع الثوار المغاربة الذين كانوا يشنون العمليات في الريف، بل إنهم أرسلوا كتائب في اتجاه الأطلس، واضطر الخصم إلى الاستسلام خشية من خسران كل شيء، فأسرع لإرجاع محمد الخامس إلى عرشه، ومنح المغرب الاستقلال في نطاق التكافل.

يوم 20 أغسطس/آب عام 1956 دعا المجاهد عبان رمضان قادة الثورة للاجتماع في قرية إيفري الواقعة بوادي صومام من أجل تنظيم النشاط العسكري لهم، وكان من قرارات المؤتمر تكليف العربي بن مهيدي بالعمل الفدائي في لجنة التنسيق والتنفيذ التي انبثقت عن المؤتمر، وذلك انطلاقا من الجزائر العاصمة، وبدأ عمل اللجنة بتنظيم إضراب بثمانية أيام، بداية من الرابع من يناير/كانون الثاني عام 1957، وقاد ذلك الإضراب إلى قرار قوات الاستعمار الفرنسي القضاء على قادة الثورة، ومن ضمنهم العربي بن مهيدي.

تفجيرات الملعب والمقهى.. ضربات في العاصمة وقرار حاسم

يروي ضابط الاستخبارات الفرنسي “بول أوساريس” في كتابه “الأجهزة الخاصة، الجزائر 1955-1957 شهادتي حول التعذيب” الأيام الأخيرة للعربي بن مهيدي، ويقول: قاد المنطقة المستقلة من الجزائر العاصمة وأحوازها رجل بالغ من العمر 34 عاما، كان ابن عائلة من المزارعين الأثرياء، قبل أن يتحول إلى العمل السري. شهدت الجزائر ثلاث أو أربع هجمات يوميا استهدفت المدنيين والأمكنة التي يرتادونها.

لعربي بن مهيدي وابتسامة التحدي خلال اعتقاله من قبل القوات الفرنسية نهاية شهر فبراير 1957
لعربي بن مهيدي وابتسامة التحدي خلال اعتقاله من قبل القوات الفرنسية نهاية شهر فبراير 1957

وأضاف: لقد كان بن مهيدي مصرا على دفع الإرهاب إلى نقطة حرجة، لدرجة أن فرنسا كانت ستضطر إلى التخلي عن الجزائر. وكان قد توقع ردا من السلطات الفرنسية سيكون أكثر حدة مع تزايد حدة الهجمات.

ويتحدث عن القبض عليه بعد تفجيرات الجزائر العاصمة قائلا: في 30 سبتمبر/أيلول، انفجرت قنابل في مقهى وكافيتريا، وهما مكانان يتردد عليهما شباب الجزائر العاصمة. كان هناك أربعة قتلى و52 جريحا أغلبهم مشوهون، وفي منتصف يوم الأحد 10 فبراير/شباط عام 1957، حصل تفجيران مرعبان في ملعب الأبيار، وخلّفا 11 قتيلا و56 جريحا، وعززت تلك الهجمات قرارنا بالقبض على بن مهيدي، وفي الليلة الفاصلة بين 15-16 فبراير قبضنا عليه.

يعترف الضابط الفرنسي بتفاصيل الوصول إلى بن مهيدي، ويقول: الحقيقة هي أننا تعقبنا ابن الملياردير “بن تشيكو” الذي كان لديه تجارة تبغ ضخمة في الجزائر العاصمة، فاعتقل “بن تشيكو” الصغير، وكان قد اعترف بكل ما يعرفه، بما في ذلك عنوان بن مهيدي.

“انتحار العربي بن مهيدي في زنزانته بعد حالة اكتئاب”

اقتيد العربي بن مهيدي إلى معتقله التابع لفرقة المظليين التي يقودها الجنرال “مارسيل بيجارد”، واعترف بن مهيدي ببعض المعلومات السطحية التي يمكن الإفصاح عنها دون المساس بسلامة أصدقائه، ويعترف الجنرال “أوساريس” أنه اغتاظ من قرب “بيجارد” من بن مهيدي ومعاملته اللطيفة له، وصمم على تنفيذ عملية اغتياله في أقصى سرعة.

يقول “أوساريس” في مذكراته: وصلت مع سيارات جيب وسيارة دودج، كان لدي عشرات الرجال المسلحين في فريقي الأول، وطلبت جلب بن مهيدي. بعد ذلك قدّمت مجموعة المظليين من التجمع الثالث التكريم الأخير للزعيم المهزوم لجبهة التحرير الوطني، كان ذلك بمثابة تكريم من “بيجارد” للرجل الذي أصبح صديقه، فهذه اللفتة الديماغوجية المذهلة إلى حد ما لم تجعل مهمتي أسهل، بالطبع في تلك اللحظة فهم بن مهيدي ما ينتظره.

الجنرال أوساريس اعترف لصحيفة لوموند عام 2001 إنه هو من قتل العربي بن مهيدي شنقا بيديه

في الرابع من مارس/آذار عام 1957 اقتيد العربي بن مهيدي إلى مزرعة تبعد بضع كيلومترات عن العاصمة الجزائرية، وأدخل إلى غرفة في منزل متواضع تحت حراسة مشددة، يقول “أوساريس”: بمجرد أن دخلنا الغرفة بمساعدة ضباطنا، أمسكنا بن مهيدي وعلقناه بطريقة قد توحي بالانتحار، عندما تأكدت من وفاته، قمت على الفور بإحضاره ونقله إلى المستشفى، كان ذلك في منتصف الليل تقريبا، اتصلت على الفور بالجنرال “ماسو” على الهاتف فقلت له: يا جنرال، بن مهيدي انتحر للتو، جثته في المستشفى، سأوافيكم بتقريري صباح الغد.

في السابع من مارس/آذار من العام 1957، نشرت صحيفة لوموند الفرنسية خبرا بعنوان “انتحار العربي بن مهيدي في زنزانته بعد حالة اكتئاب”، وذلك قبل قرابة نصف قرن من اعتراف الجنرال “أوساريس” بتفاصيل إعدام بن مهيدي.