تلسكوب هابل الفضائي.. أعظم إنجازات البشر الفلكية

 واحد وثلاثون عاما في الفضاء.. تالله لو كان مصنعا على الأرض لتطلب الكثير من العناية وقطع الغيار، وربما الكثير من العمال والمشغّلين، ولو كان إنسانا لزار الطبيب أكثر من عشرين مرة، أقلها مرة واحدة كل سنة، أما أن يظل في الفضاء دونما تعديلات ولا تطويرات أو إضافات ولا غيار زيت، فهذا يعني أنه واحد من عجائب التكنولوجيا في عالمنا.

إنه تلسكوب هابل الفضائي الذي أطلق إلى مداره حول الأرض في الرابع والعشرين من شهر أبريل/نيسان 1990 ولا يزال يعمل هناك في مداره الذي يرتفع عن الأرض قرابة 600 كيلومتر، فيُكمل دورة واحدة حولها كل مائة دقيقة تقريباً. وقد دار حولها حتى يومنا هذا أكثر من 150 ألف مرة بمعدل 14-15 مرة كل يوم.

وبالرغم من أنه عانى من الاحتكاك مع بقايا الغلاف الجوي الذي يؤثر على سرعته ومداره، فإنه بقي صامداً حتى اليوم. وإن كنت ترغب في أن تؤدي له التحية، فشاهده بالعين المجردة حين يعبر لامعاً في سمائك بعيد غروب الشمس (يمكن معرفة مواعيد العبور من المواقع المتخصصة الإنترنت).

العدسة.. أهم اختراع بشري

هابل الفضائي لا يزال أعظم ما أرسلت البشرية إلى الفضاء، لأنه كشف لنا حقائق مذهلة عن خبايا الكون لم تكن يوماً لتتحقق من لدن تلسكوبات الأرض، ببساطة لأنه يعيش خارج الغلاف الجوي للأرض ولا يضيره تعاقب الليل والنهار، فسماؤه مظلمة على مدار الساعة، ولذلك فإن المليون صورة ويزيد التي التقطها للكون كشفت حقائق فاقت بمئات المرات ما كان يعرفه العلماء عن الكون منذ بدء الحضارة وحتى ما قبل إطلاق هابل.

يدور تلسكوب هابل الفضائي على ارتفاع 600 كم من سطح الأرض

في الحقيقة إن ما يميز هابل أنه ذو عين كبيرة جداً، إنها مرآة مقعرة مصقولة بقطر 2.4 متر قادرة على أن تجمع ضوءاً خافتا من مجرات تبعد عنا مليارات السنين الضوئية، بل إن الرقم القياسي الذي سجله هابل في هذا المضمار كان لمجرة عند حافة الكون المرئي نشأت بعيد الانفجار العظيم بقليل، فقد شاهدت كاميرات تلسكوب هابل الفضائي مجرة GN-z11 التي تبعد عنا 13.39 مليار سنة ضوئية.

وإذا لم تكن تعرف أيها القارئ الكريم معنى السنة الضوئية فإن عليك أن تتخيلها وبصعوبة بالغة، فهي مسافة -وأكرر هنا أنها مسافة- يقضيها الضوء مسافراً بسرعته البالغة 300 ألف كيلومتر في الثانية مدة سنة كاملة ليقطع ما مقداره 9.46 آلاف مليار كيلومتر.

وليس في المجرة نجم بقرب سنة ضوئية عن الشمس، بل إن أقربها هو نجم رِجِل قِنْطورس الذي يبعد عنا 4.3 سنوات ضوئية بواقع 40 ألف مليار كيلومتر، فكيف بك إن طُلب إليك أن تتخيل تلك الأعماق السحيقة التي تقطنها مجرات واقفة عند حافة الكون الأولى الذي أطلق أول أنواره يوم بدأ قبل 13.8 مليار سنة من اليوم؟!

إدوين هابل.. مكتشف فوق العادة

هابل هو اسم عالم الفلك الأمريكي إدوين هابل الذي كان يعمل على رصد حركة المجرات في مرصد جبل ويلسون بكاليفورنيا، ليكتشف لنا في عام 1928 أن الكون يتمدد وأن المجرات تبتعد عنا، وهو صاحب قانون هابل الفضائي الذي يربط سرعة تباعد المجرات بمسافاتها، وباسمه عُرف ثابت هابل الكوني (وهو عدد يضاف إلى قانون هابل يربط السرعة بالمسافة).

عندما أَرسل تلسكوب هابل أول صورة كونية له في العام 1994، كانت صورة تجمع أكثر من 4000 مجرة في إطارها، وقد استغرقت هذه الصورة التلسكوب أربعين يوماً لتخزين بياناتها بواقع عشر ساعات تصوير كل يوم. وليس هذا فحسب، بل تخيل أيها القارئ بأنك لو أمسكت بكاميرا جوالك وأنت تركب سيارة أجرة وأحببت أن تلتقط صورة لشجرة على جانب الطريق، فكم ستكون المهمة شاقة خصوصاً إذا كانت السيارة مسرعة؟ بل أكاد أجزم أن الصورة ستكون مهزوزة بعض الشيء خلافاً لما فعله هابل في الفضاء وهو يسير بسرعة تقارب ثمانية كيلومترات في الثانية الواحدة أو ما يعادل 30 ألف كيلومتر في الساعة في حركة دائرية متواصلة، ومع ذلك لم تهتز كاميرته ولم يحصل على صورة مشوشة! أليس هذا من عجائب العلم والتكنولوجيا؟! بل الأعجب من ذلك أنه ظل قادراً على العطاء كل تلك المدة من الزمن، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على مستوى الإبداع والإخلاص لدى صانعيه.

جيمس ويب.. خليفة هابل

عاش تلسكوب هابل سنيّه العشر الأولى والعلماء يتوقعون أنه لن يُتمّها، لكنه فعل وأتم خمس عشرة سنة ثم عشرين، وكادت أن تنتهي المهمة لولا أن القائمين عليه وجدوا أنه لا يزال قادراً على العطاء.

ومع ذلك بدؤوا بتحضير خليفة قوي له يفوق أداءه بمائة مرة، إنه تلسكوب جيمس ويب الفضائي بمرآة قطرها 6.5 أمتار، إذ كان من المفترض أن يتم إطلاقه نهاية سنة 2018، غير أنهم أجلوا الأمر لأسباب فنية حتى 2021.

وجيمس ويب هو تلسكوب لا يرى بنور هابل، بل يرى بنور الأشعة تحت الحمراء التي ستتيح له أن يفوق هابل قدرة على تمييز الأجرام البعيدة والبعيدة جداً.

ولأن هابل يدور حول الأرض في مدار قريب نسبياً، فقد تمكن رواد الفضاء أن يزوروه في العام 1993 لعمل بعض الإصلاحات في مرآته الرئيسية. أما تلسكوب جيمس ويب فسيدور في مدار لا يمكن لأحد الوصول إليه بعد أن يغادر الكرة الأرضية، فخليفة هابل سيوضع على مسافة مليون ونصف المليون كيلومتر من الأرض في مدار يُعرف بمدار لاغرانغ حيث يحافظ القمر الصناعي أو التلسكوب على موضعه ويكمل دورة واحدة حول الشمس مرة كل سنة، تماماً كما تفعل الأرض، فهو بذلك يواجه السماء دونما شمس.

اكتشافات لم تُسبق

جاءت أولى إنجازات هابل بعد إصلاحه في العام 1994 حين اصطدمت قطع المذنّب شوميكر ليفي والبالغ عددها 21 قطعة بكوكب المشتري، فقد توقع العلماء أن تترك آثاراً على شكل بقع في غلافه الجوي، وجاءت صورة هابل الفضائي نصرا عظيماً لعلماء الفلك لمطابقتها للحسابات.

ثم كانت صورة العنقود المجري الأولى الذي سلب الألباب وانتشر خبره حول العالم كالنار في الهشيم. ثم تتالت الصور الرائعة للكون فبلغ عددها أكثر من ثلاثين ألف صورة مذهلة في تفاصيلها، خاصة تلك الغيوم السديمية التي التُقطت لمحاضن النجوم كسديم النسر وأعمدة الدخان الكونية، وسديم الجبار والنجوم الحديثة الولادة، وصور للكواكب الكبيرة كزحل والمشتري حتى بعد زيارة مركبة فوياغر لهما في عامي 1977 و1980، والصورة المذهلة لكوكب بلوتو عند حافة المجموعة الشمسية التي أحدثت فرقاً كبيراً في الاكتشافات الكوكبية على الرغم من أنها لم تُظهر أية معالم للكوكب سوى أنه قرص.

هابل هو عالم الفلك الأمريكي الذي كان يعمل على رصد حركة المجرات في مرصد جبل ويلسون بكاليفورنيا

لكن سدماً أخرى كعين القط وسديم الوردة وسديم رأس الحصان والسديم التوأم وسديم الفقاعة وغيرها من السدم التي هي إما محاضن نجوم تولد النجوم فيها أو هي بقايا نجوم انفجرت؛ كان تلسكوب هابل التقطها لتضيف لقاعدة البيانات العلمية العالمية كشوفات هائلة عن مادة الكون وعلاقة بعضها ببعض، ناهيك عن صور المجرات وعناقيد المجرات التي أذهلت الفلكيين وهواة الفلك لروعتها وكثرة بياناتها ومعلوماتها التي ساهمت بشكل كبير في إعادة نَمْذَجة الكون في إطار نظرية الانفجار العظيم.

أما أعظم الكشوفات التي حققها هابل في سنواته الأخيرة فهي تصويره للهالات المحيطة بالمجرات التي يعتقد علماء الكون شبه جازمين بأنها شكل من أشكال المادة المظلمة التي تمثل أكثر من 20% من مادة الكون المختفية والتي منذ أن قام الفلكيون بحساب تسارع الكون بعد كشوف هابل في الثلاثينيات من القرن العشرين، تسارعت نظرياتهم وبحوثهم وزادت الميزانيات التي دفعوها من أجل البحث عن هذه المادة التي لو كُشفت ستكون جزءاً من التفسير الكوني لتمدد الكون؛ هل سيستمر متمدداً بتسارع إلى الأبد، أم أنه سيتباطأ وربما يتوقف بعد حين لينكمش على نفسه فيما يعرف بالانكماش الأعظم على غرار الانفجار الأعظم؟

أبناء جيل هابل

تلسكوب هابل أيها القارئ الكريم ليس مجرد قمر صناعي أطلق إلى الفضاء، فقد أطلقت بعده أكثر من عشرة تلسكوبات ومئات الأقمار الصناعية وانتهت مهام أكثرها، بينما لا يزال هو صامداً يزداد تألقاً كلما شاخ أكثر، منتظراً أن ينطلق وريثه جيمس ويب ليتنحى متقاعداً بعد ذلك.

مجرة (GN-z11) أبعد مجرات الكون المرئي على بعد 13,3 مليار سنة ضوئية كما ظهرت بعدسة هابل

وهنا أوجّه دعوة إلى أولئك الذين ولدوا في العام 1990 أن يكونوا فخورين بأن أحد أبناء جيلهم كان تلسكوب هابل الفضائي، وأن يدركوا أنه ما من أحد قضى عمراً مثله صابراً مثابراً لم يَغُضّ طرفَه يوماً عن السماء ساهراً في تحقيق المهمة التي أنيطت به، إنها مهمة النظر إلى السماء والتفكر في ملكوتها.

فهل تدرك البشرية ما تقدمه الروبوتات لخدمتها على الأرض، وهل سنرى يوماً دوراً عربياً لريادة الفضاء وسبر أغوار الكون؟ عسى ولعل.