“أدب غسان كنفاني”.. روائي فلسطين الذي أسالت حبره ودماءه

تربع اسم غسان كنفاني على عرش كتابة الأدب الروائي الفلسطيني، ويعد من أهم الأدباء الفلسطينيين الذين أسسوا للأدب الفلسطيني فيما بعد النكبة، وأعادوا الوعي له، وقد عرف كصحفي ومناضل حمل القضية الفلسطينية وهمومها في كل ما كتب، مستلهما كتاباته من نبض الشارع الفلسطيني وواقعه.

ولتكتمل فصول ملحمته الكفاحية دفع كنفاني حياته ثمنا لما تناوله قلمه.

يقول كنفاني: كلنا نفكر بأشياء خطيرة، ورغم ذلك نحن لا نعرض حياتنا للنهاية بمجرد أننا نفكر بأشياء خطيرة، الخطير الذي كنت أفكر فيه تعريض حياتي للنهاية.

 

فيلم “أدب غسان كنفاني” قدمته قناة الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة أفلام “خارج النص”، ويستعرض حياة الأديب الفلسطيني غسان كنفاني وأدبه ونضاله ضد المحتل الإسرائيلي.

“ولدت في عكا”.. ظلال العيش في عصر النكبة

يقول غسان كنفاني معرفا بنفسه: ولدت في عكا عام 1936، وانتقلت بعدها للعيش في يافا مع عائلتي. في طفولتي كنت أدرس في مدرسة فرنسية، وذلك ساعدني في الانفتاح على الآداب الأخرى، كنت أنتمي لعائلة من الطبقة الوسطى، وكان والدي محاميا، وفجأة انهارت هذه العائلة وأصبحنا لاجئين.. غادرنا فلسطين إلى لبنان، ولاحقا ذهبنا إلى دمشق، وهناك درست الأدب العربي، لكن وقع استبعادي لأسباب سياسية، وعندها سافرت إلى الكويت وباشرت في القراءة والتأليف.

شكلت النكبة الفلسطينة عام 1948 نقطة سوداء في التاريخ الفلسطيني، وتأثر كنفاني بالواقع الذي آل إليه الفلسطينيون، فاستلهم من قصص الناس وتجاربهم البائسة في مخيمات اللجوء أعماله الأدبية ورواياته.

“أرى في فلسطين رمزا إنسانيا متكاملا”.. ميلاد قلم

تقول فيحاء عبد الهادي، مديرة مؤسسة الرواة للدراسات والأبحاث: كان كنفاني ظاهرة أدبية مميزة، فقد جمع بين حقول معرفية متعددة في أسلوبه، فالتقط المتحرك في الساكن، والساكن هي حالة البؤس الذي عانى منها الفلسطيني، ولكن إيمان كنفاني بعدالة قضيته بحث في العوامل الجنينية التي تصنع التغير وتوقد الأمل من جديد.

وعن ذلك يقول كنفاني: إننا نتعلم من الجماهير ونعلمها، ومع ذلك فإنه يبدو لي يقينا أننا لم نتخرج بعد من مدارس الجماهير؛ المعلم الحقيقي الدائم الذي تكون الثورة في صفاء رؤياه جزءا لا ينفصم عن الخبز والماء وأكف الكدح ونبض القلب.

أكثر من عشرين عملا أدبيا خلفه غسان كنفاني في خدمة قضية فلسطين والوطن والثورة

يقول الروائي سليم بيك: كان كنفاني قريبا من الفقراء، ولم يحتج إلى التسلق على الموضوع، بل رفعه بأسلوبه التجديدي الراقي في كتاباته المعاصرة.

يقول كنفاني: تطور أسلوبي الكتابي في الفترة ما بين عامي 1956 و1962، حيث كنت أكتب عن فلسطين كقضية قائمة بحد ذاتها، ثم تبين لي أني أصبحت أرى في فلسطين رمزا إنسانيا متكاملا.

قدم كنفاني أكثر من عشرين عملا في الأدب العربي، ما بين القصة القصيرة والرواية والأدب المسرحي، والدراسات الأدبية، وكتب مئات المقالات السياسية والثقافية، وكانت رواياته قصيرة بعض الشيء، إلا أنه اختزل فيها كل ما أراد قوله، فجاءت مكثفة وعميقة وناطقة، وتقول فيحاء عبد الهادي: اعتمد كنفاني أسلوب التجريب الفني، وكان في كل مرة يكتشف أسلوبا جديدا يقدم به أعماله المميزة. وكانت قضية الأرض محورية بالنسبة له، ليست الأرض بسكونها بل بفعلها.

“رجال في الشمس”.. الفلسطيني الأخرس والعربي الأصم

لاقت رواية كنفاني “رجال في الشمس” التي صدرت عام 1963 انقساما بين القراء والمهتمين، فاعتبر المؤيدون أن كنفاني قدم فيها صرخة للتحرك والتغيير، معتبرين أن ربط شخصية أبو الخيزران (العاجز جنسيا) بالهزيمة، ما هو إلا تجسيد للقيادات العاجزة عن قيادة شعبها .

بينما يرى منتقدو العمل أن شخصية أبو الخيزران على الرغم من قوة حضورها الروائي، بقيت أسيرة لمفهوم الذكورة الذي لا ينسجم مع الفكر التقدمي الذي حمله الكاتب، فالروائي إلياس خوري يعتقد بأن الفحولة ليست رمزا للقدرة على قيادة الشعوب، وليس العجز الجنسي رمزا للتخبط والفوضى وقيادة الشعوب إلى الهاوية والهزيمة. ويرى أن الرواية كان فيها ثلاثة رجال يدقّون ولا أحد يسمعهم، فهل فعلا دقوا -كما ادعى كنفاني- وهو لم يسمعهم أو لم يدقوا، وهل المشلكة في كون الفلسطيني أخرس؟ أم أن العربي لا يسمع؟

“رجال في الشمس” رواية شكلت الهوية الفلسطينية

لكن من الناحية الأخرى، يرى إلياس خوري أن كنفاني أعطى في هذه الرواية إشارات عن كيفية تشكل الهوية الفلسطينية، وكيف يعود الفلسطيني لامتلاك لغته ووضع اللبنة الأساسية في الأدب الفلسطيني المعاصر.

“ما تبقى لكم”.. من مخيم الذل إلى المعسكر الثوري

شكلت رواية غسان كنفاني “ما تبقى لكم” نمطا جديدا في الأدب العربي، من خلال التداخلات الزمانية والمكانية التي أوجدها، فقد أضفت على رموز الرواية الجامدة -وهي الساعة والصحراء- شيئا من الإنسانية، لتشكلا شخصيتين جوهريتين في العرض الروائي.

وكتب كنفاني في سطور روايته “ليس ثمة من تبقى لي غيرك.. وأنت تبدو بعيدا، رغم أنك في فراشي.. تتركني وحدي أحصي تلك الخطوات المعدنية الباردة تدق في الجدار.. تدق، تدق، تدق داخل النعش الخشبي المغلق أمام السرير”.

ابتدع كنفاني في هذه الرواية أسلوبا جديدا تقاطعت فيه الشخصيات وتداخل الزمان بالمكان، واكتمل فيها البناء الفني وتيار الوعي بشكل مثالي. وقد وقع كنفاني تحت تأثير المدرسة الرمزية والوجودية الفرنسية .

رواية “ما تبقي لكم” نمط جديد من الأدب العربي

يقول كنفاني في روايته أيضا: “وفجأة جاءت الصحراء، رآها الآن مخلوقا يتنفس على امتداد البصر، غامضا ومريعا وأليفا في وقت واحد، يتقلب في تموج الضوء الذي أخذ يرمد منسحبا خطوة خطوة أمام نزول السماء السوداء من فوق”.

ويرى الكاتب عز الدين المناصرة أن الرواية حملت التبشير بجيل جديد يفضل الذهاب إلى المعسكر الثوري بدلا من البقاء في مخيم الذل.

“بعد هزيمة حزيران”.. واقعية ما بعد انحسار المقاومة العربية

كان الإعلان عن منظمة التحرير وانطلاق الثورة الفلسطينية عام 1965 بمثابة بارقة أمل للشعب الفلسطيني، وتجاوزا للواقع المرير، لكن سرعان ما جاءت هزيمة حزيران 1967 لتصبح فلسطين محتلة بالكامل.

في تلك الفترة قدم غسان كنفاني روايته “بعد هزيمة حزيران”، وشكل أسلوبه الفني بناء منسجما مع فكرة انحسار المقاومة العربية، وغدا التحرير مهمة الشعب الفلسطيني وحده. وعن ذلك يقول إلياس خوري: كانت تلك المرحلة تحتم على المثقف أن يكون مناضلا، ولا يوجد خيار آخر.

إعلان انطلاقة منظمة التحرير الفلسطينية في القدس سنة 1965

انتمى كنفاني للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان الناطق الإعلامي باسمها، ولم يكن لنشاطه السياسي أثر واضح في كتاباته الأدبية، ولكن تأثره بالفكر الماركسي والأدب الواقعي ألقى بظلاله على رواياته التي جاءت بعد ذلك، وكانت الثورة ركيزتها الأساسية.

“أم سعد”.. سد المزراب بالمقاومة المسلحة

حملت مرحلة الصعود في العمل الفدائي كنفاني على كتابة عملين هما “الرجال والبنادق” و”أم سعد”، وقدمت رواية “أم سعد” الذي كتبها بعد انقطاع دام لثلاث سنوات قيمة ثورية جديدة وإيمانا بالمقاومة المسلحة لتحرير الأرض.

يقول كنفاني في روايته: “لقد علمتني أم سعد كثيرا، وأكاد أقول أن كل حرف جاء في السطور التالية إنما هو مقتنص من بين شفتيها اللتين ظلتا فلسطينيتين رغم كل شيء، ومن كفيها الصلبتين اللتين ظلتا رغم كل شيء تنتظر السلاح عشرين سنة”.

“أم سعد” رواية ملحمية تحكي قصة النضال والصمود الفلسطيني

كانت أم سعد شخصية ملحمية ثابتة من أول الرواية حتى نهايتها، وتعتبر هذه الرواية نموذجا للرواية الواقعية الاشتراكية.

يقول كنفاني: “لا، يا ابن عمي.. تعرف ماذا كان يفعل سعد حين يطوف بالمخيم؟ كان يقف يتفرج على الرجال وهم يجرفون الوحل، ثم يقول لهم: ذات ليلة سيدفنكم الوحل، ومرة قال له أبوه: لماذا تقول ذلك؟ ماذا تريدنا أن نفعل؟ هل تعتقد أنه يوجد مزراب في السماء وعلينا أن نسده؟ وضحكنا كلنا، ولكنني حين نظرت في وجهه رأيت شيئا أرعبني، كان منصرفا إلى التفكير وكأن الفكرة راقت له، كأنه سيذهب في اليوم التالي ليسد ذلك المزراب، ثم ذهب، ثم ذهب”.

“عائد إلى حيفا”.. نقد الذات في ظل الخيانة العربية

حملت رواية “عائد إلى حيفا” رموزا متعددة، فقد طرح فيها فكرة ماهية الوطن، وتساءل هل هي الثقافة أم الوطن هو رابط الدم؟

يجيب كنفاني عن ذلك في روايته قائلا: “سألت: ماهو الوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك قبل لحظة، أجل ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة؟ ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ماهو الوطن؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ البنوة؟ ماهو الوطن؟”.

مشهد من فيلم “المتبقي” عن رواية “عائد إلى حيفا” لغسان كنفاني

ويعتبر الروائي إلياس خوري أن هذه الرواية “عائد إلى حيفا” جاءت نقدا للذات الفلسطينية، وذلك يظهر لأول مرة ويطرح كفكرة، فرغم الخيانة العربية، فإن هناك مسؤولية ملقاة على عاتق الفلسطينين في استعادة الأرض.

سيارة مفخخة في بيروت.. خاتمة برعاية الموساد

كانت حياة غسان كنفاني زاخرة بالأعمال الأدبية رغم قصرها، ولكن أهم رواياته تلك التي كتبها بدمه، فقد سطرت ملحمة نضال لروائي فلسطيني أبى أن تكون نهايته عادية، فبقي صامدا ومقاوما كزيتونة رومية.

وكما كانت كتابته رمزية كان موته كذلك برمزية، فقد اغتالته أيدي الموساد في يوليو/تموز 1972 في بيروت عن طريق سيارة مفخخة، لأنها عندما تختار فإنها غالبا ما تنتقي الصفوة.

في 8 تموز/يوليو 1972 قتل غسان كنفاني في بيروت على يد الموساد الإسرائيلي، لكن كلماته بقيت خالدة

يقول كنفاني: “إنني أشعر أكثر من أي وقت مضى أن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض تافه لغياب السلاح، وإنها تنحدر الآن أمام شروط الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه. إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت إنها قضية الباقين.. الثورة وحدها هي المؤهلة لاستقطاب الموت.. الثورة وحدها هي التي توجه الموت.. وتستخدمه لتشق سبل الحياة”.