أزمات النفط في العالم.. عندما يُزعزع الذهب الأسود الأسواق

مراد بابعا

هشاشة كبيرة أظهرتها مجددا السوق العالمية للنفط عقب الهجمات الأخيرة التي استهدفت حقلي نفط في السعودية.

فمجموعة من الطائرات المسيرة والصواريخ استطاعت تقليص إنتاج أكبر دولة مصدرة للخام في العالم بحوالي النصف، وتسبب في حالة من الصدمة في بورصات النفط حول العالم، وسط تساؤلات عن قدرة الدول على حماية منشآتها النفطية من التخريب.

فمباشرة بعد الهجمات على حقلي النفط التابعين لشركة أرامكو، أجاز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استخدام الاحتياطي النفطي الإستراتيجي لبلاده، وهو ما تلقفته الأسواق العالمية باعتباره وضعا شديد الخطورة، فواشنطن لا تقرر السماح باستخدام احتياطيها الإستراتيجي إلا نادرا.

أحدثت الهجمات على مواقع شركة أرامكو في “بقيق” و”خريص” شرقي السعودية، رجات كبيرة قفزت معها أسعار برميل النفط بـ20% في بداية تعاملات الأسواق يوم الاثنين 16 سبتمبر/أيلول 2019، لتقترب العقود الآجلة لخام “برنت” من 72 دولارا للبرميل، قبل أن تعود للانخفاض مجددا.

ووصف محللون اقتصاديون هذه الصدمة في الأسواق بأنها الأعنف من حيث النسبة خلال يوم واحد منذ حرب الخليج الثانية قبل نحو 30 سنة.

وأظهر هذا الوضع -الذي أوصل الولايات المتحدة إلى حد التفكير مجددا في استعمال احتياطيها الفدرالي- مدى سرعة تأثر سوق النفط العالمية بالتوترات الإقليمية والصراعات السياسية، وأكد أن الاقتصاد العالمي واقف على أساسات من ورق. فصناعة النفط تعتمد عليها جل الدول –سواء أكانت منتجة أم مستهلكة- في نموها الاقتصادي. وبين ارتفاع الأسعار وانخفاضها، يضع صانعو القرار أيديهم على قلوبهم.

فلماذا تتأثر إذن أسواق النفط العالمية سريعا بالتطورات الجيوسياسية؟ وكيف يتم التحكم في أسعار هذه المادة الأساسية؟ ولماذا تسعى بعض الدول المصدرة إلى خفض الإنتاج وأخرى إلى رفعه؟ وما مستقبل هذه الصناعة في ظل البحث عن بدائل أقل كلفة وتلويثا للبيئة؟

سوق هشّ

أثار الهجوم الأخير على حقلي النفط في السعودية المخاوف حول العالم من قيام أزمة نفط جديدة تبعثر أوراق وحسابات الدول وخصوصا المستهلكة، وأولها الولايات المتحدة التي تعتبر أكبر مستهلك في العالم، وهذا ما يفسر سرعة تحرك واشنطن وتلويحها باستعمال احتياطيها الإستراتيجي إذا دعت الضرورة من أجل الحفاظ على استقرار الأسعار.

وشهدت السوق العالمية للنفط نوعين من الأزمات؛ نوعا يدفع بالأسعار نحو الانخفاض، وآخر يدفعها نحو الارتفاع. ومن أبرز هذه الأزمات خلال الأربعين سنة الأخيرة “أزمة عام 1986” التي بدأت شرارتها قبل ذلك في 1982، وشهدت معها أسواق النفط تنافسا شرسا وحرب أسعار طاحنة بين الدول المنتجة، الأمر الذي خفض الأسعار إلى مستويات وصلت إلى 10 دولارات للبرميل.

وأثرت هذه الأزمة بشكل كبير على الدول المنتجة والمصدرة، وتسببت بأزمات اجتماعية وسياسية، وصلت في الجزائر مثلا إلى إلغاء نظام الحزب الواحد، وفي السعودية إلى إقالة وزير النفط آنذاك الشيخ أحمد زكي يماني.

وتمكنت السعودية في الأخير من إقناع منظمة الدول المصدر للنفط “أوبك” بتدارك الأمر، ليتم في ديسمبر/كانون الأول 1986 توقيع اتفاق من أجل تقليص الإنتاج مجددا لحماية الأسعار عند 18 دولارا.

وبعد هذه الأزمة غير المسبوقة ظلت أسعار النفط مستقرة نسبيا بين أعوام 1987 و1989 قبل أن ترتفع إلى 23 دولارا في عام 1990 بعد غزو العراق للكويت.

الانهيار في الأسعار إلى 10 دولارات للبرميل سيعود مجددا تزامنا مع ما عرف بـ”الأزمة الآسيوية” سنة 1997، ومع بدء العراق ما سمي بـ”برنامج النفط مقابل الغذاء”.

أما في العام 2008، فقط وصلت أسعار الذهب الأسود إلى أعلى مستوى لها في التاريخ، وهو 147 دولارا للبرميل بسبب المضاربة في الأسعار، نتيجة الطلب المفاجئ من الصين والهند وباقي الدول الناشئة.

لكن الأسعار سرعان ما انهارت مجددا مع نهاية العام نفسه بسبب الأزمة المالية العالمية التي نشأت بسبب سقوط المصارف الأمريكية الكبرى وانهيار شركات الرهن العقاري في الولايات المتحدة.

آخر أعنف الأزمات جاءت في أعقاب “الربيع العربي” عام 2011، حين انقطعت إمدادات الكثير من الدول المنتجة التي شهدت اضطرابات مثل ليبيا وسوريا واليمن، وقفزت الأسعار مجددا فوق حاجز 100 دولار. وهو ارتفاع أثقل كاهل الدول المستهلكة لنحو ثلاث سنوات، وأنعش ميزانية الدول المصدرة، لكن هذا الوضع لم يستمر، لتنخفض الأسعار ابتداء من 2015 إلى نحو 40 دولارا، واستمرت متقلبة إلى يومنا هذا.

النفط.. سلاح سياسي

استُعمل النفط كسلاح لأول مرة في التاريخ من قبل الدول العربية سنة 1973 فيما سمي “أزمة قطاع النفط العالمي” (The First Oil Shock)، وقام أعضاء منظمة الدول العربية المصدرة للنفط آنذاك -ومن بينهم إيران والعراق والكويت وقطر والسعودية- بوقف إمدادات النفط إلى الولايات المتحدة والبلدان الأخرى التي تؤيد إسرائيل. وذلك من أجل دفع هذه الدول لإجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها في حرب 1967.

ورغم أن الحرب العربية الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين عام 1973 لم تستمر سوى ثلاثة أسابيع، فإن الحظر النفطي -الذي تضررت منه بالأساس الولايات المتحدة- استمر حتى مارس/آذار 1974.

وتسبب هذا الحظر النفطي الذي فرضته دول الشرق الأوسط في ارتفاع كبير في أسعار النفط في جميع أنحاء العالم، وقفزت الأسعار من نحو 3 دولارات آنذاك إلى 12 دولاراً للبرميل الواحد تقريبا.

ووصلت درجة تأثير هذا القرار إلى حد وقوف أرباب السيارات في عدد من الدول الغربية في طوابير أمام محطات الوقود، كما قررت بعض الحكومات حظر قيادة السيارات أيام الأحد، وهي صورة بقيت راسخة في أذهان بعض القادة الذين فوجئوا بالموقف العربي بإدخال النفط كسلاح في تلك الحرب.

ومنذ تلك الفترة بدأت الدول الغربية -وعلى رأسها الولايات المتحدة- في التفكير في خطط وإستراتيجيات بديلة لتفادي أزمات مماثلة مستقبلا، ليطرح السياسيون الأمريكيون فكرة “مخزون النفط” لأول مرة في سبعينيات القرن الماضي.

المخزون الأمريكي.. الاستعمال وقت الحاجة

ويعتبر المخزون الإستراتيجي الأمريكي من النفط الخام هو الأكبر في العالم، وأنشئ أول مرة في 1975 بعد أن أقرّ الكونغرس الأمريكي قانون سياسة الطاقة وحفظها إثر نشوب أزمة النفط بسبب الحظر العربي آنذاك.

وحاليا يقدر هذا المخزون بأكثر من 640 مليون برميل مخزنة في آبار عميقة تحت الأرض على طول سواحل الخليج المكسيكي، وبالأساس تحت ولايتي تكساس ولويزيانا، وبلغت أكبر كمية من النفط تم الاحتفاظ بها في هذه الخزانات نحو 726 مليون برميل من النفط.

وتكفي هذه الاحتياطات الولايات المتحدة لمدة 31 يوما على الأقل، على اعتبار أن البلاد استهلكت في عام 2018 نحو 20 مليون برميل من النفط يوميا وفقاً لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية.

ويقول بعض الخبراء إن مصافي التكرير تحتاج إلى أكثر من 100 يوم لتفريغ هذا الاحتياطي الهائل وتكريره وضخه في البلاد.

ولا تلجأ واشنطن إلى استخدام احتياطيها من النفط إلا في الحالات القصوى، مثلما حصل مثلا سنة 1991 أثناء عملية “عاصفة الصحراء” بعد غزو الكويت من طرف العراق، أو في 2005 عندما دمر إعصار “كاترينا” جزءا من البنية التحتية النفطية للولايات المتحدة، وأيضا في 2011 بسبب تداعيات الربيع العربي وتعطل إمدادات النفط الليبية.

أوبك.. المتحكم في السوق

سوق النفط العالمي خاضع من حيث المبدأ لقانون العرض والطلب كباقي السلع الأخرى، لكن الأهمية والتأثير الكبيرين لهذه المادة الأساسية يجعلان عوامل أخرى تدخل في تحديد الأسعار.

وتُعتبر منظمة الدول المصدر للنفط المعروفة اختصارا بـ”أوبك” (Opec) اللاعب الرئيسي في معادلة تحديد الأسعار، فمع كل ارتفاع أو انخفاض تتجه الأنظار صوب المنظمة وقرارها بخفض أو رفع الإنتاج، وهذا أمر طبيعي على اعتبار أن دول أوبك توفر حاليا 41.5% من إجمالي إنتاج النفط العالمي البالغ 94.72 مليون برميل في اليوم حسب أرقام العام 2018.

كما يقدر احتياطي دول المنظمة بـ1.24 تريليون برميل، أي ما يعادل 71.8% من إجمالي احتياطي كوكب الأرض من البترول بحسب آخر الإحصائيات السنوية لشركة النفط “بريتش بتروليوم”.

تأسست “أوبك” في بغداد عام 1960 بمبادرة من خمس دول هي إيران والعراق والكويت والسعودية وفنزويلا، وهدفها الرئيسي هو ضمان أسعار عادلة ومستقرة لمنتجي النفط، وإمداد الأسواق بالكميات الكافية من الخام بشكل فعال ومنتظم.

وبين التأسيس واليوم، انضمت عشر دول أخرى إلى المنظمة من بينها الجزائر والإمارات ونيجيريا. أما قطر وبعد عضوية استمرت أكثر من خمسة عقود من الزمن، فقد أعلنت نهاية العام الماضي انسحابها من أوبك لرغبتها في تركيز جهودها على تطوير قطاع الغاز المسال.

ويرى محللون ماليون أن دول أوبك يمكن أن تستفيد من الأزمة الأخيرة ولو لفترة قصيرة، وذلك عبر سد النقص الحاصل في الإنتاج بسبب تراجع صادرات السعودية مما سيؤمن لها مداخيل إضافية مهمة.

السعودية.. ضربة قاسية

الملكة العربية السعودية التي تعتبر أكبر منتج مصدر داخل منظمة أوبك بنحو 10 ملايين برميل يوميا، تأثرت كثيرا بالهجوم الأخير على منشآتها النفطية. فالمملكة تعرضت لأحد أكبر خسائرها على الإطلاق بعد تراجع إنتاجها بنحو النصف، أي ضياع خمسة ملايين برميل يوميا، رغم تعهدها باستخدام مخزونها الضخم للتعويض جزئياً عن تراجع الإنتاج.

كما تكبدت أضرارا مهمة على مستوى المجمّعين التابعين لـ”أرامكو”، واللذين قد تستغرق أشغال إصلاحهما أسابيع أو شهورا، بالإضافة إلى تكاليف هذه الإصلاحات.

والأكثر من ذلك أن استهداف “أرامكو” يأتي في وقت حرج بالنسبة لهذه الشركة التي تستعد لطرح جزء من أسهمها للاكتتاب العام، وهو ما قد يدفع إلى التفكير في تأجيل العملية حتى تستقر الأوضاع ورجوع ثقة المستثمرين إلى وضعها السابق خصوصا وأن الأمر يتعلق بعملية تقدر بمليارات الدولارات.

لكن تخوّف المستثمرين على أموالهم قد يطول بحسب العديد من المحللين، خصوصا أمام المستقبل الغامض لصناعة البترول، ومنافسة النفط الصخري في الولايات المتحدة، وازدياد الضغط العالمي في مجال المناخ من أجل الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة.

صناعة النفط.. مستقبل غامض

الدول المنتجة للنفط تواجه العديد من التحديات بدءا أولا بعدم استقرار الأسعار وميلها مؤخرا للانخفاض بسبب تخمة المعروض في السوق وتراجع الطلب العالمي، وحتى دول “أوبك” لم تعد كالسابق قادرة في كل مرة على الاتفاق على خفض الإنتاج لدفع الأسعار نحو الارتفاع بسبب الانقسامات بين أعضاء المنظمة خصوصا بين السعودية وإيران، وأيضا لوجود منتجين أقوياء خارجها على رأسهم روسيا والمكسيك والبرازيل والنرويج.

كما برزت أيضا في السنوات الأخيرة تحديات مرتبطة بما أصبح يعرف بـ”طفرة النفط الصخري” في الولايات المتحدة. وتوقعت شركة “ريستاد إنيرجي” الأمريكية لاستشارات الطاقة أن يرتفع إنتاج البلاد من الخام النفطي الصخري إلى 1.3 مليون برميل يوميا هذا العام.

ويبقى العائق أمام الشركات المستغلة لهذا النوع من النفط هو الكلفة المرتفعة، وهذا يفسر دعم أوبك -خلافا للعادة- منذ 2015 لإبقاء الأسعار دون 80 دولارا للبرميل لكي يصبح استخراج النفط الصخري أمرا غير مجد اقتصاديا، والحفاظ بالتالي على الولايات المتحدة كأول مستورد عالمي في للنفط.

التحدي الأكبر دون شك أمام مستقبل النفط في العالم، هو التوجه الحالي نحو تعويض الوقود الأحفوري بمصادر أخرى أقل تلويثا للبيئة على رأسها الطاقات المتجددة.

كما أن صناعة السيارات في العالم أصبحت تتجه نحو إنتاج السيارات الكهربائية والهجينة تطبيقا للاتفاقيات الدولية لمكافحة التغيرات المناخية، وعلى رأسها اتفاق باريس الذي تحاول الأمم المتحدة بث الروح فيه من جديد بعدما انسحبت الولايات المتحدة منه.