الحروب الصليبية.. همج يعبثون بحضارة الشرق ويغرقون القدس في الدماء

فاصل زمني يعكر صفو سلام لم يبدأ، ويُشعل فتيل صراع لن يتوقف، فالتاريخ يسطّره الأقوياء، لكن الحقيقة تأبى أن تندثر، ومن هنا تبدأ الحكاية، فمنذ فجر التاريخ وبقعة من الماء تشكل جسرا بين عالمين، عبرت من خلاله سفن التجارة من شرق دافئ خصيب إلى غرب جاف يغرق في بحر من الجليد، لكنها كثيرا ما حركت الأطماع في العبور نحو الشاطئ الآخر، وهكذا أبحرت إلينا سفن الإسكندر وأساطيل الرومان وأباطرة البيزنطيين، وأخيرا همج الفرنجة الذين هجموا علينا تحت راية الصليب، فملكوا مقدسات وثروات الشرق، لكن أوهام السيطرة لم تدم، ففي غضون جيل واحد من ظهور الإسلام كان المسلمون قد نجحوا في استرداد إرث أجدادهم الكنعانيين وأجْلوا الغزاة الأوروبيين.

الهجوم الصليبي وما تبعه من أحداث وتداعيات ترويه الجزيرة الوثائقية في سلسلة “الحروب الصليبية” المكونة من أربعة أفلام. وفي هذه الحلقة الأولى نتناول الجزء الأول من السلسلة الرباعية الذي يبحث في أحوال أوروبا المعيشية والطبقية البغيضة التي كانت تحكم العلاقة بين الناس في العصر الإقطاعي، وصراعات السلطة الدينية والسياسية العسكرية على توجيه دفة الحكم، والأسباب التي أدت مجتمعة إلى عبور البحر وغزو آسيا الصغرى وبلاد الشام، انتهاء بسقوط زهرة المدائن مدينة القدس.

غزو الإفرنج.. رايات الصليب القادمة من الغرب

لقد تركت الحروب الصليبية أو حروب الإفرنج بصمات وتأثيرات عميقة في العالم العربي الإسلامي، وهيأته لتقبل أوضاع تاريخية وعلاقات إنسانية غاية في القسوة والصعوبة.

يقول الفارس أسامة بن منقذ: إذا خبر الإنسان أمور الإفرنج، رأى فيهم فضيلة الشجاعة والقتال لا غير، كما في البهائم فضيلة القوة والحمل.

99% من سكان أوروبا كانوا يلقبون بـ”الأقنان”، ومفردها “قِـنُّ” أي عبد الأرض

لقد عاد الغزاة الأوروبيون ولكنهم يحملون رايات الصليب، وبخرجهم الدافع الديني بحماس كبير فاندفعوا إلى الشرق، يقودهم فكر تَعبوي ديني ويدفعهم اليأس من واقع بلدانهم الأوروبية البئيسة، لذلك صدّقوا مواعظ القساوسة واندفعوا للسيطرة على الأماكن المقدسة في بيت المقدس وأكنافه.

وعن وضع أوروبا التي قدم منها هذا الزحف البشري المباغت، يقول المؤرخ قاسم عبد قاسم: إن أوروبا في القرن الحادي عشر هي كتلة جغرافية لا توجد فيها دول كما هي الآن، حتى لا تختلط علينا الأمور.

عبيد الأرض.. أوروبا الإقطاعية

يقول الدكتور “جان فاندبوريه”: كان المجتمع الغربي في القرون الوسطى مجتمعا إقطاعيا، ويعني هذا أن الطبقة الأرستقراطية العسكرية كانت تتحكم في مجموعات كبيرة من الشعب ممن لا يمتلكون الأراضي.

وكانت شعوب أوروبا في تلك العصور في غاية التعاسة يرزحون تحت نير العبودية والاستغلال الجسدي فضلا عن الاستغلال النفسي.

الفتاة كانت تؤخذ قسرا من زفافها وفرحة ذويها ليفضّ بكارتها السيدُ أولا

أما الدكتور إسحاق تواضروس أستاذ قسم التاريخ بجامعة عين شمس فيشير إلى أن النبلاء كانوا يمثلون فقط 1% بالمائة من السكان ويحملون ألقاب “كونت” أو “دوق” أو “بارون” ويملكون جميع الأراضي الزراعية، وفي المقابل كان 99% من سكان أوروبا يلقبون بـ”الأقنان” ومفرده، “قِـنُّ” أي عبد الأرض، ولا يمكن لهذا القِـن أن يترك هذه الأرض حتى ولو بيعت من إنسان لآخر، بل يظل هذا القن مرتبطا بالأرض.

امتهان الكرامة.. زف العروس إلى غير زوجها

كان إنسان أوروبا في تلك العصور -كما يقول قاسم عبد قاسم- يسكن في بيت مبني من الطين، مُظلل ومسقوف بأغصان الأشجار لحمايته من الأمطار، وليحقق مستوى من التدفئة في ظل برد قارس، وله فتحة في السقف يخرج منها الدخان.

ولا يأكل إنسان أوروبا اللحم الطازج غير مرة واحدة في السنة، وبقية الوقت يأكل لحما مقددا أو محفوفا (مدخنا)، وكان إنسان تلك الفترة لا يفكر إلا في الخلاص مما هو فيه من عذاب، فالعمل الشاق والتعب المستمر ينتج منه إنسانا ذا حياة قصيرة، وغالبا ما تكون شاقة جدا، يصابون بالأمراض ويعانون من ظروف معيشية مؤلمة.

بودو يا ولدي لا تبكِ، بودو يا ولدي اصمت ومت.. أمّ ذلك العصر كانت تتمنى لوليدها الموت حتى يتفادى عذابات الحياة التعيسة

ولملاحظة درجة الامتهان من طرف الأسياد لعبيدهم، فقد كان بإمكان السيد الإقطاعي أن يأخذ زوجة قنه في الليلة الأولى امتهانا لكرامة أسرة الأقنان الجديدة، مما يكشف حجم المذلة التي كان يُربى عليها الشعب في أوروبا في ذلك الوقت؛ كما تقول السيدة زبيدة عطا أستاذ التاريخ بجامعة حلوان.

كانت الفتاة تؤخذ قسرا من زفافها وفرحة ذويها ليفضّ بكارتها السيد أولا، وأما القن العريس فليس له من حيلة إلا أن يندب حظه الأسيف لهذه الكارثة المدمرة، إذ لم تكن له فئة أو عشيرة ينصرونه، فهذه عادة سُلطة الأسياد، ولديهم أدواتهم التسلطية الكافية لحماية أنفسهم من ممارسة التداعيات المحتملة لهذا السلوك.

التعصب الأعمى.. لا تبكِ يا ولدي

كان شعب أوروبا في تلك الحقبة من التاريخ يعاني الجهل والأمية، فالأغلبية الساحقة من السكان لم تكن تقرأ ولا تكتب، وإنما كانت القراءة والكتابة صنعة للفئة القليلة من الطبقة الأرستقراطية (Aristocracy) المترفة في أعلى هرم مجتمع النبلاء، وخصوصا القساوسة وأصحاب الوظائف الدينية الكنسية.

وقد كانت الكنائس والأديرة مدارس تعليم ديني بالأساس، مما ولّد مستويات من التعصب الأعمى، والانغلاق على الخرافة والجهل، فكانت التعصب ورفض الآخر هو سيد الموقف في المجتمع الأوروبي إبان القرون الوسطى والحقبة التي ستعرف في التاريخ العالمي بالحروب الصليبية التي كانت غزوا همجيا منظما للعالم الإسلامي وخصوصا لمصر والشام على الضفة الشرقية للمتوسط.

طبقة النبلاء والفرسان كانت الطبقة الأكثر تميزا بين عامة الناس

وفي السنوات التي سبقت الحروب الصليبية، اجتاحت أوروبا مواسم من القحط والجفاف، وهو ما جعل الناس يتشبثون بكل ما يمكن أن يكون مخلّصا، لذلك جاءت مواعظ القساوسة ووعودهم لتملأ فراغا روحيا كبيرا، ولتسد جوعا حسيا ومعنويا لدى مجتمعات الأقنان والعبيد الذين يشكلون غالبية سكان أوروبا في تلك الفترة.

ولهذا يقول تواضروس: عثرت في أدبيات العصر على قصة امرأة قنة، وفي البرد القارس كان ابنها ورضيعها يبكي ليلا ونهارا. تقول السيدة لولدها المسمى بودو: “بودو يا ولدي لا تبكِ، بودو يا ولدي اصمت ومت”. تتمنى لابنها الموت حتى يتفادى عذابات الحياة التعيسة.

طبقة النبلاء والفرسان.. “سلام الرب”

كانت طبقة النبلاء والفرسان الطبقة الأكثر تميزا بين عامة الناس، فالفارس له مكانة مرموقة، فهو السيد والمحارب والمدافع والقائد بكل ما في الكلمة من معنى. وقد كان الملك يمنح من يتميز من الفرسان امتيازات بما يخص الأراضي، مما يوفر للفرسان وضعية مثالية بالنسبة لغيرهم، فكفالة الفرسان تخلق تنافسية قوية بينهم للحظوة عند الملك، حتى يسجلوا أنفسهم في سلك الذين يحظون بهذه الامتيازات.

وقد أفرزت هذه الوضعية نوعا من التوارث بين طبقة الفرسان لهذه المكانة المحظية، فكانوا يحافظون عليها، وكان الابن البكر يرث والده الفارس وينخرط في هذا النظام، أما أخوته فيكتسب أكثرهم صفات الفروسية.

البابوية كانت تخوض صراع السيادة وتوجه قوى المتحاربين نحو أهدافها

لكن الحصول على الامتيازات يبقى بعيد المنال، لذلك كانت هذه الفئة توظف خبرتها ودرايتها في أعمال اللصوصية والقرصنة والابتزاز، مما يساهم في خلق اضطراب وصراع دائمين بين شبكات الفرسان وبقية الفئات الإقطاعية الأخرى التي تجد نفسها في وضعية تفرض عليها الاستجابة للابتزاز لحماية نفسها ودفع الضر عنها، كما يقول الدكتور أحمد حطيط عميد كلية بالجامعة اللبنانية سابقا.

فقد كانت هذه الكيانات الإقطاعية الصغيرة تشكل باستمرار عصابات متحاربة فيما بينها، لأن الحرب ظلت مصدر ووسيلة الثراء الوحيدة المتاحة أمام هؤلاء الناس في هذه الظروف، وقد أنتج هذا الوضع استمرار الحروب واللاإستقرار بشكل يومي في المجتمع الأوروبي في هذا العهد، كما يقول قاسم عبد قاسم.

ونظرا لوجود هذه المعضلة الاجتماعية المستمرة حاولت البابوية وهي على رأس الكنيسة أن تجد حلا من خلال ما يعرف بــ”سلام الرب” إلا أنها فشلت في هذا المسعى، فرأت أن تصرف الطاقة الحربية لدى المقاتلين والفرسان في مشروع تقوده للسيطرة على المقدسات في الشرق الإسلامي، فجاءت فكرة الغزوات والحملات المتتالية على بلاد الشام ومصر.

حروب اليأس الداخلي.. حافة الانفجار

في هذا السياق كانت أوروبا يخيم عليها الظلام واليأس في نفوس أبنائها بدلا من الإيمان، فالأرض المقفرة تضيق بأطماع المتناحرين، والبابوية تخوض صراع السيادة وتوجه قوى المتحاربين، فقد دخلت الكنيسة في هذه الفترة في الصراع العلماني؛ صراع بين السلطة السياسية والسلطة الدينية.

كانت الكنيسة ترى أن السلطة الدينية أعلى من السلطة السياسية، فهي تشبه السلطة السياسية بالجسد وتشبه السلطة الدينية بالروح، وترى أن الروح أعلى من الجسد، كما تقول السيدة زبيدة عطا أستاذ التاريخ بجامعة حلوان.

استمر حكم الدولة العباسية في بغداد حتى ظهرت الدولة الفاطمية في مصر تنازعها هذا الملك

ويؤكد محمود سعيد عمران أستاذ تاريخ حضارة أوروبا في العصور الوسطى؛ أن هذا الصراع عميقا بين البابوية والإمبراطورية، فمن هو القائد الفعلي لأوروبا؛ البابا أم الحاكم؟

لكن الكنيسة ظلت صاحبة الصوت الأعلى، فهي التي تملك أغلبية الأراضي، إذ أن أراضيها تفوق أراضي ملوك أوروبا مجتمعة، وخزائنها -بما فيها من نفائس- تفوق ما يملكه جميع ملوك أوروبا، وهي تملك التأثير الروحي أيضا، كما يوضح الدكتور محمد المخزومي أستاذ التاريخ بالجامعة اللبنانية.

إنه مجتمع يتكون من عدة طبقات تتلخص أبرز سماتها في فقراء معدمين، وفرسان متناحرين، وبابوية تربض على صدور الجميع. إنها أوروبا القرون الوسطى على حافة انفجار سيتدفق في غزوات الحروب الصليبية اليائسة.

السياق الإسلامي للحروب الصليبية

كانت الرايات بارقة والأعمدة سامقة على الشاطئ الإسلامي من البحر المتوسط، أما الجسد فكان عليلا، حيث أن العالم الإسلامي -في تلك الحقبة تحديدا- كان في قمة التشرذم، فالدولة العباسية في بغداد تنازعها وتعاندها الدولة الفاطمية في مصر، في حقبة شهدت أول بروز واسع للصراع المذهبي بين الشيعة والسنة في العالم الإسلامي، وكانت الدولة الفاطمية حينها تحكم القدس ويافا وعكا وحيفا، وأما الخلافة العباسية فكانت تسيطر على دمشق وحلب وكانت هذه الخلافة تعاني لأنها فقدت بريقها منذ أواخر العصر العباسي الثاني.

كان الوضع مضطربا جدا ووصلت الأمور لحد الانقلاب الذي قام به الفاطميون في بغداد سنة 447هـ/1055م، وتطلب ذلك من الخليفة الاستنجاد بالأتراك السلاجقة لإنقاذ الموقف وهو ما تم بالفعل، إلا أنه من المجرّب تاريخيا أن من يُستنجد به لينقذ، يتحول تدريجيا إلى محتل وصانع للقرار ووارث للمستنجد، وفعلا تمكن السلاجقة الأتراك القادمون من وسط آسيا من السيطرة على الخلاقة وتولوا إدارة شؤونها، ثم تفرعت عن السلاجقة دويلات الأتابكة وإماراتهم التي توزعت على المناطق الشامية خلال فترة سيطرة الصليبيين على أجزاء من بلاد الشام.

بطرس الناسك سافر عبر أوروبا محرضا المسيحيين على حرب المسلمين حتى جمع منهم عددا كبيرا

لم يكن الصليبيون أقوى من المسلمين ولا أكثر عدة وعتادا، ولم يكونوا أكثر تفوقا في فنون القتال، وليسوا أكثر تحضرا، ولكنهم انتصروا بفعل التشرذم والانقسام السياسي، كما يقول الدكتور قاسم عبد قاسم.

وقد دفعت زهرة المدائن مدينة القدس ثمن التشرذم والانقسام لتقع تحت الاحتلال الصليبي، فدنس الغزاة إرث الأنبياء، ووظفوا ذلك في التدليس والتلبيس على عوام وجهال الأوروبيين تحت شعارات الكنيسة الأوروبية الغازية.

كانت فرصة الاحتكاك بالعالم الإسلامي المتحضر تشكل فرصة كبيرة للأوروبيين الغارقين في التخلف، فبدأ الانبهار بالحضارة الإسلامية وما تتيح من فرص تقدم وازدهار، فقد كان الشرق الإسلامي مزدهرا بالثقافة والثراء، فثمة نوع من الحسد من قبل رجال أوروبا المطلعين على العالم العربي في تلك الحقبة، كما يقول قاسم عبد قاسم.

وفعلا ومع الاطلاع والاحتكاك، بدأ نوع من توظيف النصوص الدينية الإنجيلية للتعبئة ضد الحضارة الإسلامية عبر دعاية نزقة، وتصوير المسلمين صورة بشعة لتبرير غزوهم واستلاب ما لديهم من رقي.

“مشروع الرب”.. حملة تحريضية

أنتجت الكنيسة مَتنا جديدا نصه “حرروا مدينة الرب من أيدي هراطقة مسلمين من جنس مشئوم لهم مخالب من نحاس وأسنان من حديد هم عصا الرب وأداة الجحيم”.

يقول البروفيسور “كريستوفر تيرمان” أستاذ التاريخ بجامعة أكسفورد “الغربيون المسيحيون في ذلك الوقت لم يكونوا يرون الإسلام دينا، بل كانوا يرونه بدعة أو تحريفا للمسيحية وكانوا مخطئين في هذا الأمر”.

وبهذا هُيأت الأجواء وشُحنت الأنفس، فكان الجميع في انتظار من يقدح الشرارة لإشعال الحروب الصليبية الساعية لإخضاع العالم الإسلامي للكنيسة الغربية.

البابا “غريغوري السابع” كان أول من فتح الطريق للحروب الصليبية ضد المسلمين

وبعد انتصارها في معركة ملاذ كرد سنة 463هـ/1071مـ، دقت سنابك خيل السلاجقة ناقوس الخطر، إذ أضحت على مرمى حجر من القسطنطينية عاصمة الروم البيزنطيين؛ كنز المسيحية الروحي في الشرق.

نجح الأتراك السلاجقة في أسر الملك “رومانوس الرابع ديوجينيس”، وأثناء الأسر تمت الإطاحة به فأطلقوا سراحه، ولكن خليفته طلب مساعدة من الغرب الأوروبي، فشكلت هذه الرغبة فرصة لتجميع حملة أطلق عليها “مشروع الرب”، وكان هدف هذا المشروع السيطرة على القدس واحتلال كنيسة القيامة.

ومن مأثور تلك الحقبة:” “من يرجو ملكوت السماء يوقد شمعة، ومن يرجو ملك الأرض يشعل حربا”.

الكنيسة.. تغيير قواعد السلم المسيحي

فتح البابا “غريغوري السابع” الطريق أمام البابا “أوربان الثاني” (1088 – 1099م) للدعوة للحروب الصليبية ضد المسلمين في مجمع كليرمونت بفرنسا 1095م.

ومنذ ذلك التاريخ أضحت الحرب العادلة والمقدسة هي السائدة في السياسة البابوية في الغرب الأوروبي، وبالتالي فقد صار أمر مهاجمة المسلمين في بلاد الشام ممكنا ومبررا بعد أن غيّر غريغوري السابع الموقف الرسمي للكنيسة من الحرب، بعد أن جعل الكنيسة المسيحية الكاثوليكية تعترف بالحرب، ليس بصفتها ممارسة مشروعة فقط، بل بصفتها خطوة لازمة في سبيل الخلاص، بعد أن تم الربط بين الغفران المسيحي والحرب ضد المسلمين، كما يرى الدكتور قاسم عبد قاسم والدكتور “مارتن أورويل” أستاذ التاريخ بجامعة بواتيه.

العامل الديني شكل الشعار والأداة التعبوية والأيدولوجية لحشد مئات الآلاف من المقاتلين عبروا المتوسط لخوض حرب دينية

لقد أدى مؤتمر كنيسة كليرمونت (488هــ/1095مـ) إلى تغيير قواعد اللعبة الحربية إلى الأبد. وفي نفس الوقت تغيير قواعد السلم المسيحي، لذلك لا عجب أن يهاجم الأوروبيون الصليبيون مدينة القدس 1099م ويعيثوا فيها فسادا.

يقول قاسم عبده قاسم: عالج “القديس أوغسطين” المفاهيم التي وردت في الكتاب المقدس عن الحرب بشكل سياسي، مما أدى إلى تغيير الموقف الفكري للكنيسة الغربية من الحرب، إذ أنها صارت تعدها عملا ضروريا بعد أن كانت خطيئة مرفوضة.

“الدماء المراقة في الشرق تناديكم”.. خطبة كليرمونت

على الرغم من الاختلاف التاريخي في مضمون خطبة “كليرمونت”، فإنها تضمنت: “أيها الشعب العظيم لقد أحبنا الرب ويطلب منا أن نطرد هؤلاء الكفار من الأرض المقدسة التي صلب فيها المسيح”.

ويضيف الدكتور محمد مؤنس عوض أستاذ التاريخ بجامعة الشارقة “أن البابا خاطب المجتمعين قائلا: أيها الفرنجة، لقد وصلت إلينا أخبار سيئة من الشرق عن جنس ملعون حوّل كنائس الشرقيين إلى إسطبلات للخيول، وإن الدماء المراقة في الشرق تناديكم”.

وقدم البابا “أوربان” وعودا بالغفران وإغراء باستعادة المقدسات المُستلبة، وكان الوعد بالأراضي وإرثها يسيّل لعاب المنتسبين للمسيحية من المقاتلين الفقراء، واعتبر المشاركة في هذه الحملة مشاركة في الحرب المقدسة.

القسطنطينية.. حاضرة أوروبا

ومهما اختلف المؤرخون في العامل الديني لهذه الحروب وما إذا كانت اجتمعت عدة عوامل مقنعة لها، فإن العامل الديني شكل الشعار والأداة التعبوية والأيديولوجية لحشد مئات الآلاف من المقاتلين الذين عبروا المتوسط لخوض حرب دينية الشعار، وفي المضمر الاستيلاء على الغنائم والتحف.

وفعلا وجد الكثير من النبلاء والفرسان ممن كانت الآفاق مسدودة أمامهم الفرصة سانحة للغنْم وإقامة معسكرات وإمارات في البلدان الجديدة، وهو ما يشكل فرصة للثراء والكسب، حسب ما يقول الدكتور “جان فاندبوريه” الباحث في تاريخ الحروب الوسطى.

مصرع “جيش الرب”.. اللقمة السائغة

بعد خطبة “كليرمونت” الشهيرة على لسان البابا “أوربان الثاني” انطلقت حملة قادها القس بطرس الناسك الذي جمع عشرات الآلاف من “جيش الرب”. وكانت هذه الحملة في حد ذاتها بما صاحبها من فوضوية وما تركته في طريقها من تخريب نموذجا فعليا لعبثية هذه الحروب وانتهازية مشعليها المتكئين على أرائك البابوية الوثيرة، فيما يدفعون بشعوبهم للموت المحقق، حسب ما يقول البروفسور “جون ثان فليبس”.

تركت الحملة خرابا ودمارا حتى داخل أوروبا ذاتها، قبل أن تعبر من القسطنطينية للعالم الإسلامي وبلاد الشام حيث المقدسات وأرض النبوات.

القائد الصليبي “بالدوين” كان أول من كوّن إمارة صليبية في الشرق

يقول المؤرخون إن الحملة عندما وصلت للقسطنطينية كان عدد أفرادها أربعين ألفا من الفقراء في حالة رثة وجوع وأمراض، فذهل الإمبراطور البيزنطي الذي طلب من الكنيسة الدعم، لأنه سيتحمل نفقة هذا الكم الهائل من الفقراء الظامئين للقتال الذين يقودهم القديس بطرس الناسك.

ولما وصلوا للقسطنطينية، وقعوا تحت تأثير المستوى الحضاري الراقي للكنائس وشاهدوا ملابس الجيش وخوذاته البراقة فأصيبوا بنوع من الصدمة الحضارية، فطفقوا ينهبون الكنائس كما فعلوا عند مرورهم ببعض مدن أوروبا، فقام الجيش البيزنطي بإبعادهم نحو آسيا الصغرى، وهناك كانوا لقمة سائغة للأتراك السلاجقة، فقُتل وأُسر منهم الكثير، ففشلت الحملة الشعبية الأولى، مما فتح الطريق لحملات أخرى كانت التالية منها في الترتيب “حملة الأمراء”.

سقوط عاصمة السلاجقة بلباس جنودها

أخذت جحافل الفرسان تطلق لنفسها العنان، فقد انفجر طوفان الرغبة، وفسرت أحلام الأمراء في التملك والثراء، وبدأت الجيوش والكتائب تخرج من غرب أوروبا باتجاه الأراضي المقدسة، فالطموحات والأطماع هي أبرز ما حرك هذا الكم الهائل من الرجال والمقاتلين، وفي القسطنطينية تجمع هؤلاء، غير أن الإمبراطور رفض السماح لهم بالعبور.

وبعد فترة اشترط عليهم الخضوع لسلطته والخضوع لحكمه، وفيما يخص الأراضي التي أخذها المسلمون من بيزنطة فقد اشترط أنها إذا استُردت تعود تحت حكمه، فوافقوا على الشروط التي تحسنت لصالح الجيوش الأوروبية عبر استفادتها من الأدلّاء والمخبرين الذين يصاحبون كل جيش أو كتيبة متوجهة للشرق عبر آسيا الصغرى.

هذا التعاون البيزنطي الأوروبي كان ضروريا للمقاتلين الفرسان الذين لا يعرفون طبيعة الأرض، وليست لديهم استخبارات، غير الاستخبارات والأدلاء البيزنطيين. واستطاعت جحافل الفرسان إسقاط عاصمة السلاجقة مدينة “نيقية” عبر استخدام خدعة حربية تمثلت في لبسهم لباس الجنود السلاجقة واقتحام سور المدينة من جهة البحر، غير أن الأمير السلجوقي لم يكن في المدينة، ووقعت القيادة التركية السلجوقية تحت تأثير الصدمة.

أنطاكية مدخل بلاد الشام ومفتاحها الأساس سقطت في أيدي الغزاة

واصلت الجحافل الصليبية زحفها نحو أنطاكية مدخل بلاد الشام ومفتاحها الأساس، وفي الطريق أغرى النجاح الأول القائد “بالدوين” بالانزياح والقفز نحو خطوة في العمق فانحرف نحو مدينة الرها في العام 491هـ/ 1097م، إذ أنها كانت ذات طبيعة استراتيجية هامة.

وكان “بالدوين” من القادة الصليبيين القلائل الذين يسعون لبناء مملكة خاصة، إذ هو طموحهم الذي يحركهم بأكثر من مجرد العاطفة الدينية، وكان يسعى إلى الاستقرار في إقليم يستقل بحكمه. وفعلا دخل المدينة التي كانت توجد فيها أعداد كبيرة من الشعوب المسيحية، وعندما وصل التقى بحاكم الرها الذي تبنّاه وتعهد له بترك الحكم له بعد موته، غير أن القائد الصليبي كان مستعجلا فاستغل أول ثورة للتخلص من أبيه الجديد، وفعلا كوّن أول إمارة صليبية في الشرق.

الرها أول إمارة صليبية في الشرق

تؤكد قصة الرها أن هدف الزحف الصليبي كان الحصول على الامتيازات والسلطة، وليس الدافع الديني إلا شعارا فارغا للتجييش والتعبئة، والحجة الأساسية في سياق القضية أن هذه المدينة يمكن أن تشكل حاجزا بين بيزنطة والأتراك، ونقطة ارتكاز تمكّن من تنفيذ مشروع استعادة البيزنطيين لنفوذهم ومناطق سيطرتهم السابقة، فإقامة مقاطعات على النمط الأوروبي تستند للوجود المسيحي اللاتيني لاستدامة الوجود والسيطرة في المنطقة.

جماجم القتلى يوم اقتحام البلدة المقدسة لو جُمعت لعلت على أسوارها

واصلت الجحافل زحفها باتجاه أنطاكية، غير أن المدينة الحصينة كانت قادرة على الصمود أمام الغزاة رغم الصدمة والمفاجأة، واستمر هذا الصمود سنة كاملة، واجه فيها الصليبيون مجاعة وظروفا صعبة، لكنها في نهاية المطاف دخلوها بالتواطؤ مع بعض السكان الخونة، فدخلوا المدينة لكنهم لم يتمكنوا من دخول الحصن، وأرسل الحاكم السلجوقي للاستنجاد بالسلاجقة فجاءه المدد وفرض المسلمون حصارا على الصليبيين ما لبث أن تفكك نتيجة الخلافات، وسقطت المدينة بيد الصليبيين، ولم يحترموا قسَمهم؛ فلم يعيدوا المدينة للإمبراطور البيزنطي، بل اتخذوها قاعدة لفصل المدن الشاطئية الشامية عن الحكم العباسي. ووقع المسلمون في هذه المناطق في ذل وتحت رحمة الصليبيين الذين جعلوا يفرضون الضرائب والمكوس على المسلمين، فقد كان المسلم يفدي نفسه وماله بجزء من ماله للإبقاء على حياته.

احتلال القدس.. زهرة المدائن تسبح في دمها

وقعت القدس سنة (492هـ/1099م) تحت السيطرة الصليبية، فحاصروا المدينة المقدسة لعدة أيام، وأقاموا الطواف وطقوسا دينية يتشبهون فيها بما كان في العهد القديم، وبعد عدة أيام من الحصار دخلوا المدينة دخولا مرعبا، فقتلوا الناس في الشوارع والأزقة، وكان من الصعوبة بمكان بالنسبة للصليبين التمييز بين السكان المسلمين واليهود وحتى المسيحيين فجميع السكان كانوا بملامح عربية وسحنة متشابهة. وتذكر المصادر العربية أن نحو أكثر من مائة ألف شخص ذبحوا خلال عشرة أيام، فقد كان الصليبيون المجرمون مصابين بنوع من السادية المريضة.

أكثر من 100 ألف من أهل القدس قتلوا في عشرة أيام من الغزو الصليبي

يقول الدكتور إسحاق تواضروس: إن الذي سجل بشاعة الصليبيين ليس المؤرخين العرب بل المؤرخين الغربيين ذاتهم، فهذا “رايمون دغليير” الذي قال “إن جماجم القتلى لو جمعت لعلت أسوار بيت المقدس، وإن الخيول كانت تخوض في برك من الدماء، مما يدل على حجم القتل الذي جرى جراء هذا الاجتياح المهلك”.

ويروي المؤرخون أنه بعد دخول بيت المقدس كان الغزاة يحرقون الجثث ثم يبحثون في رمادها عن القطع الذهبية كالخواتم وغيرها، وقد صبوا جام غضبهم على المسلمين لمدة ثلاث سنوات مما أسقط هدفهم الروحي، فهم أرادوا تطهير المدينة واستدامة احتلالها، ومن نجا فقد أجبر على الخروج بصفة قسرية. وحتى المقدسات الدينية فلم تسلم من أياديهم، كالمسجد الأقصى الذي جعلوه إسطبلا لخيولهم، وكذلك لم تسلم كنيسة القيامة، فقد حولوا جزءا منها لطقوس كاثوليكية مخالفة لطقوس المسيحية الشرقية.

وبعدما تأكدوا أنهم قتلوا كل من في المدينة من المدنيين، دخلوا كنيسة القيامة وأياديهم تقطر دماء ووجوههم تتفصد عرقا، وعلى مذبح كنيسة القيامة قالوا نشكرك يا رب.

كان نجاح الحملة الصليبية الأولى في السيطرة على مدينة القدس يفوق تصور وطموح الصليبيين الذي حركهم من الغرب الأوروبي، ولكنه كان أيضا عقابا للمسلمين والعرب على فرقتهم وتقاتلهم فيما بينهم.