“السجن السري 1391”.. قصص من داخل غوانتانامو إسرائيل

للسجون مآسٍ تنبعث من بين جنباتها تخبر عن آلام المعتقلين وآهاتهم، فهم الممنوعون من ممارسة الحياة الطبيعية، إذ تفصلهم الجدران العالية عن رؤية نظرائهم من البشر خارجها، وتمنعهم الإضاءة الخافتة التي يوفرها السجان لهم داخل الزنازين من الرؤية الواضحة، عزلة في الحياة عن الحياة، مقبرة يسكنها الأحياء مرغمين مكبلين مقيدين ليس لهم حول ولا قوة.

وتزداد السجون سوادا عندما تكون ذات طابع سري ولا يعلم مكانها غير الجهة الآسرة، ولا تراقب حقوق الموقوفين فيها أي جهة، فتغيب العدالة ويصبح الأسير فريسة للمحقق ينهش منه المعلومات التي يريدها، وربما تسيل دماء الأسير على عتبات السجن إن أبدى المقاومة وأظهر التحدي والتجلد والصمود.

لم تكتفِ دولة الاحتلال الإسرائيلي بإنشاء 32 سجنا علنيا يودع فيها الأسرى العرب والفلسطينيون، بل أنشأت سجونا أخرى سرية لتمارس فيها التحقيق بعيدا عن أعين منظمات حقوق الإنسان وعن أي جهة تمثل العدالة.

بين أيدينا أحد أفلام الجزيرة الوثائقية المعنون بـ”السجن السري 1391″، ويسلط الضوء على أسرى عرب وفلسطينيين دخلوا هذا السجن بعد أن اختفت آثارهم من الحياة واعتقد أهاليهم بأنهم شهداء، يتساءل مخرج الفيلم إن كان هناك سجون سرية أخرى داخل دولة الاحتلال أم لا.

عماد الزقزوق.. بعد إعلان موته بسنتين يبعث لأهله رسالة يطالبهم بالسؤال عنه

عماد الزقزوق.. ميت يرسل رسالة لأهله

ينتمي عماد الزقزوق -الذي ينحدر من قرية الجديدة قرب جنين- لتنظيم الفهد الأسود، وهو إحدى التشكيلات العسكرية التابعة لحركة فتح الفلسطينية، لذا فإنه أصبح مطلوبا للاحتلال، ولتجنب تعرضه للاعتقال من لدن قوات الاحتلال الإسرائيلي أراد تنفيذ حيلة ما، إذ يقول شقيقه صدقي: “نسقنا مع الصليب الأحمر ليخرج فترة معينة إلى الأردن ثم يعود مجددا بعد أن تعفو عنه إسرائيل”، وفعلا غادر البلاد ولكن بعد عودته اشتبك مع الاحتلال على الحدود الإسرائيلية الأردنية ثم اختفت آثاره.

ادعى الاحتلال أنه قُتل، وبعد مطالبات حثيثة من قبل العائلة سلمت الجثة بعد منتصف الليل دون أن يُسمح لأحد بإلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه، وقامت العائلة بدفنه في عام 1995، وبعد فترة من الزمن ظهر أسير محرر اسمه سمير طقاطقة من قرية بيت فجار يحمل رسالة من إحدى السجون الإسرائيلية من عماد إلى عائلته يطالبهم بزيارته أو إخراجه من السجن.

يعتقد صدقي والد عماد أن ابنه لم يمت لكنه أسير في أحد السجون السرية، يقول ناصر دمج المختص في شؤون الأسرى الفلسطينيين والعرب: هناك قوائم بأسماء المفقودين الذين يُعتقد أنهم أسرى في سجون سرية، فمن المصريين 100 مفقود و29 من الأردنيين، إضافة إلى آخرين يحملون جنسيات أخرى تنفي إسرائيل اعتقالهم.

موسى الرجوب اختفى بعد استدعائه لمقابلة في مقر الحاكم العسكري في مدينة الخليل سنة 1978

موسى الرجوب.. لغز لم يجب عليه أحد

في كانون الأول/ديسمبر من عام 1978 استدعي موسى الرجوب للمقابلة في مقر الحاكم العسكري في مدينة الخليل، ومنذ تلك اللحظة اختفت آثاره ولم يعد قط إلى أهله.

اجتمع معه في ذات المكان محمد النمورة الذي يروي قصة آخر مشاهدة للرجوب قبل أن يختفي قائلا: رأيت موسى في قاعة الانتظار منهارا صحيا، ناداه المحقق وتحدثا سويا، ثم قام بلطمه فبادله موسى الضرب، ثم قادته القوات إلى داخل المقر وطُلبت مني المغادرة.

يعتقد محمد ابن المفقود أن أباه قضى في أقبية التحقيق، وما يزال يمتلك وثائق تثبت ذهاب والده للمقابلة مطالبا دولة الاحتلال أن تكشف عن مصير والده.

الحكومة الإسرائيلية ترفض الإدلاء بأي تصريح حول معتقل 1391 السري

سجن بإذن محكمة العدل الدولية.. أكثر الأماكن سرية في إسرائيل

في عام 2003 كشف النقاب عن السجن السري 1391، وقد حاول معدّو الفيلم الاتصال برئيس جهاز الشاباك السابق “عمري أيالون” ثم “شاؤول موفاز” للحصول على معلومات عن هذا السجن السري دون أن يوافقوا على إجراء أي مقابلة. وبعد محاولات حثيثة تمكنت الجزيرة من التواصل مع إدارة الجيش الإسرائيلي الذي قال إن محكمة العدل العليا وافقت على وجود هذا السجن السري مع ضمان حقوق السجناء فيه.

تقول “ليئا تسيمل”، وهي محامية إسرائيلية مختصة بالدفاع عن الأسرى الفلسطينيين: “اكتشفت السجن عندما كنت أبحث عن موكل لي من مدينة نابلس اعتُقل من معبر الكرامة فور عودته من الأردن، توجهت لمركز معلومات السجناء مركز الدفاع عن الفرد دون أن يسمح لي بمعرفة المكان”. ثم أثمرت جهود المحامية بمقابلة موكلها ولكن في منشأة أخرى.

ثم ينتقل بنا مخرج الفيلم إلى مشهد تمثيلي لأسير ملقى على الأرض وسجّان يفتح عليه الباب، ومشاهد أخرى تصف ظروف المُعتقل وأصوات العذاب من داخله.

سلطان العجلوني أحد الأسرى الأردنيين المحررين الذي نزل في السجن السري 1391

اعتداءات المحققين.. انتهاك حرمة الروح والجسد

من بين المعتقلين في السجن السري 1391 الأسير الأردني السابق سلطان العجلوني الذي يروي ملابسات اعتقاله، فبعد اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال وقتله لأحد جنودهم على الحدود الأردنية الإسرائيلية، اقتيد إلى مركز تحقيق تعرض فيه للتعذيب، ثم نقل إلى المنشاة 1391 ليمكث فيها 47 يوما دون أن يعرف المكان الذي اعتقل فيه، وكل ما كان يسمعه هو أصوات مركبات وطائرات وغربان.

في ذات السجن تعرض المسؤول الأمني السابق في حركة أمل اللبنانية مصطفى الديراني لاعتداءات جنسية من قبل المحقق “دورون زهافي”، وقام الديراني برفع قضية على المعتدي، وعند اتصال الجزيرة بمحامي المحقق الذي اعتدى على الديراني “إفراييم نافيه” رفض الإفصاح عن أي شيء فيما يتعلق بقضية موكله “زهفي”.

السجون السرية غير مسجلة لدى حقوق الإنسان وهي بذلك بعيدة عن أنظار مساءلاتهم

احتجاز من لا ولي له..  قضايا عدلية في مواجهة السجن

رفعت المحامية “ليئا” ومعها قائمة طويلة من المحامين دعوى ضد مقر الاحتجاز المعروف باسم المنشأة 1391 للتعرف على تاريخ إنشائها وعدد الأسرى فيها، دون أن تتلقى أي إجابات، سوى مطالبة المحكمة بتبليغ مركز الدفاع عن الفرد عند تمديد فترة اعتقال أي أسير فيه.

يقول الصحفي البريطاني “جوناثان كوك”: أقيم السجن السري لاحتجاز الأسرى العرب والإيرانيين الذين لا يطالب بهم أحد، وذلك للتحقيق معهم خارج القانون، كما أنه مكان لوضع الأسرى الفلسطينيين بعد اكتظاظ السجون الإسرائيلية بهم عقب الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

جدران الزنازين مطلية بلون أحمر أو أسود كي لا تتيح للسجين الرؤية أو تمييز الاتجاهات

“المقبرة المؤقتة المظلمة”.. أكل البيضة بقشرتها

تعرض الأسير المحرر نواف العامر من قرية كفر قليل قرب مدينة نابلس للاعتقال في هذا السجن عام 2002، ويصفه نواف بالمقبرة المؤقتة المظلمة، فقد كان وهو في داخل الزنزانة من شدة الظلمة يحرك شعر يديه كي يتأكد من استمرار قدرته على الرؤية، ويتحدث عن اضطراره لتناول قشر البيض بسبب عدم كفاية الطعام لسد الجوع.

يقول العامر: أثناء الانتقال من الزنزانة إلى غرفة التحقيق كان السجَّان يقتادني بطريقة التوائية وأنا مغمض العينين حتى لا أحدد الطريق بدقة، ويتميز مكتب التحقيق بوجود طاولة فارغة وكرسي بدون ظهر بعيد عن الجدار حتى لا يتكئ الأسير عليه.

ويحتوي السجن على غرفتين بمساحة مترين ونصف في أربعة أمتار، وتتسع الغرفة الواحدة لثلاثة أسرى، وزنزانتين بمساحة مترين مربعين، إضافة لزنزانتين بمساحة متر وربع مربع، بُنيتا تحت الأرض وطليت جدرانهما باللون الأسود أو الأحمر.

ينتقل بنا مخرج الفيلم لمشهد تمثيلي يظهر فيه اقتياد الأسير للتحقيق وهو مغطى الوجه والعينين. تقول المحامية عبير بكر: “يكفي أي جهاز مخابرات ما بين ثلاثة أيام إلى أربعة لانتزاع اعتراف من الأسير”، وتؤكد وجود العديد من المعتقلات السرية بسبب تكرار شهادات الموكلين السابقين التحدث عن ذات الظروف ونفس الجمل التي كان يقولها السجان للأسرى.

غوانتانامو أمريكا يقع خارج حدودها، أما إسرائيل فاتخذته داخل حدودها بمباركة من محكمة العدل العليا فيها

غوانتانامو إسرائيل.. حديث مع حشرات الزنزانة

يخضع السجناء لإجراءات أمنية معقدة، فبدلا من أسمائهم يحمل كل واحد منهم رقما يُعرف به، وعلى الرغم من منعهم من إصدار أي صوت فإن الأسرى كانوا يتبادلون أصوات التطبيل على الجدران، وكسرا لحاجز الصمت كانوا يتحدثون إلى الحشرات التي تأوي إلى زنازينهم، وهذا السلوك لم يكن جنونا بل تعايشا مع واقع أليم أجبروا عليه.

دفعت الطريقة التي يعزل بها الأسرى عن العالم الخارجي المحامي “جوناثان” إلى تشبيه المنشأة السرية بمعتقل “غوانتانامو”، وتقول المحامية عبير بكر: أنشأت الولايات المتحدة غوانتانامو خارج حدود أمريكا ليكون بعيدا عن مساءلة الدستور الأمريكي لانتهاكات حقوق الإنسان، أما المعتقل 1391 فهو مصادق عليه من قبل محكمة العدل العليا الإسرائيلية.

شارون يقر بوجود بنك للأسرى لمبادلتهم برهائن إسرائيليين في الدول العربية

بنك الأسرى.. مشروع الحروب الجاهزة

كثير من الأسرى أخبروا مؤسسات حقوق الإنسان عن سماعهم لصوت البحر عندما كانوا في السجن السري، وهذا يؤكد نظرية أن هناك العديد من السجون السرية التي لم تكشف إسرائيل إلا عن واحد منها.

وفي مقابلة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق “أرئيل شارون” لصحيفة “يديعوت أحرنوت” أكد بأن إسرائيل مهتمة بموضوع الأسرى منذ عهد “موشيه ديان” قائد أركان الجيش الإسرائيلي، وأنّها تدير مشروع بنك الأسرى الذي يهدف إلى اختطاف مواطنين عرب لمبادلتهم بإسرائيليين عند حدوث حرب أو اعتقال.

سجون سرية بنتها إسرائيل لتحافظ على وجودها في المنطقة التي انتزعتها من جسد الأمة العربية، تنتهك فيها حقوق هذا الإنسان بقتله أسيرا أو تعذيبه داخل تلك المعتقلات دون أن تجد من يمنعها، وما دامت تلك السجون سرية، فإن دائرة الاتهام بممارسة ألوان العذاب ستبقى تلاحق دولة الاحتلال عند التحدث عن سجونهم السرية.