السينما العنصرية.. تاريخ الوحشية والتمييز يفسد سمعة هوليود العظمى

بلال المازني

لا يمكن تعداد إنجازات السينما وخدماتها للبشرية في بضع سطور، كما لا يمكن أيضا حصر وحشيتها، نعم وحشيتها، فهي “فرنكنشتاين” والأميرة النائمة في الآن ذاته، لكن الأكيد أن السينما وثّقت بكثير من الابتكار والصراحة أبغض ما أفرزه الإنسان ضد الإنسان على الإطلاق؛ وهو العنصرية، وكانت في المقابل أيضا أحد أكبر المحامل التي روّجت للعنصرية، فكانت شريكا في تلك الجريمة، أو ربما سلاحها الناعم الذي أريقت بسببه الدماء في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث حفّزت منظمة “كو كلاكس كلان” (Ku Klux Klan) الإرهابية لتنتفض من رمادها وترتكب جرائمها، وتروج أفكارها الفظيعة ضد السود.

 

حفظت السينما الجرائم التي ارتكبت خلال ما يقارب قرن من الزمن، بسبب اختلاف اللون أو العرق أو الدين، وقدّمت أفلاما عظيمة كانت شاهدة على حقبة وحشية، لكنها كانت أيضا العنصري الذي أنتج أفلاما تقطر عنصرية وتمييزا.

“كستر الغرب”.. انتصار السينما لأبطال الهنود الحمر

في النصف الثاني من القرن الماضي بدأت السينما في العالم تنفض عنها بعضا من آثامها التي ارتكبتها بحق الملوّنين من غير البيض، وأنتجت أفلاما كانت بمثابة الاعتذار العلني والتاريخي عن الرسائل العنصرية التي طبعتها، ففي العام 1967 أخرج “روبرت سيودماك” فيلمه “كستر الغرب” (Custer of The West)، وكان في الفيلم شيء من الإنصاف للسكان الأصليين للولايات المتحدة الأمريكية.

يروي الفيلم قصة الجنرال الأمريكي “كاستر” الذي يكره الهنود الحمر كرها شديدا، وكان مشهد سقوطه قتيلا وسط جيشه، خلال معركة كبيرة انتصرت فيها قبائل السكان الأصليين للقارة في العام 1839؛ مشحونا بالرسائل المعلنة على أنه حان الوقت لاعتراف السينما بأنه عليها أن تصرع الصورة التي روجتها عن الهنود الحمر باعتبارهم قتلة متوحشين، وبأنهم بدائيون لا يملكون أي حق في الأرض.

 

لم يكن فيلم “كاستر الغرب” الوحيد الذي صوّر الهنود الحمر باعتبارهم أبطالا، فقد اصطفّ فيلم “عدائيون” (Hostiles) للمخرج “سكوت كوبر” إلى جانب الهنود الحمر، وقدمهم باعتبارهم السكان الأصليين الذين انتزعت منهم أرضهم وهويتهم، وشوّه تاريخهم تشويها.

“الباحثون”.. وحشية المنتقم المعتد بكرامته

من ناحية أخرى كان الهنود الحمر ضحية السينما الأمريكية التي كانت انعكاسا متعصبا لمواقف مخرجيها، فالمخرج الأمريكي “جون فورد” مثلا كان من أكثر مخرجي هوليود تعصبا، وصبّ مواقفه التي ينعتها البعض بالمتطرفة في أفلامه، خاصة تلك التي تنتمي إلى فئة ما يسمى بأفلام “رعاة البقر”، فغالبا ما يكون فيها راعي البقر رجلا أبيض وسيما وشجاعا يواجه الهنود الحمر كما يواجه الذئاب المفترسة، وتكون النهاية السعيدة بسقوط الرجل الهندي صريعا.

غير أن “جون فورد” خالف نفسه في إحدى المرات، وأخرج فيلم “الباحثون” (The Searchers) في العام 1956، وأنصف فيه قليلا السكان الأصليين على عكس أفلامه الأخرى. ويروي الفيلم قصة هجوم عنيف قاده مجموعة من الهنود على مزرعة، فيقتلون أغلب أفراد العائلة ويأسرون فتاتين، أما الأولى فتموت في الطريق، بينما تكبر الثانية لتصبح زوجة زعيم القبيلة.

 

قدّم “فورد” في منتصف الفيلم تبريرا للهجوم العنيف للهنود الحمر الذي غالبا ما كان المشهد الروتيني الذي تفتتح به أفلام “رعاة البقر” الأمريكية، فقد كان ذلك الهجوم ثأرا قاده زعيم القبيلة بعد أن قتل ولداه على يد أفراد عائلة الفتاة التي أصبحت زوجته.

يقول المخرج “جون فورد”: ربما يكون ما عبرت عنه في الفيلم ردّ فعل غير واع من قبلي، لكن هذا الاحتمال لا يمنعني من القول إنهم (أي: الهنود الحمر) شعب يعتد بكرامته إلى حد كبير حتى حين يهزمون، ومن الطبيعي القول هنا إن التعبير عن مثل هذا الموقف في السينما ليس موقفا يحظى بشعبية كبيرة في الولايات المتحدة، فالجمهور هنا يحب أن يشاهد الهنود الحمر وهم يتساقطون قتلى، فهو لا يعتبرهم كائنات بشرية تمتلك ثقافة عميقة، وإن كانت تختلف عن ثقافتنا، والحقيقة أنك إن نظرت إلى الأمور عن كثب، فستجد أن إيمانهم يتشابه مع إيماننا في العديد من نقاطه.

“معركة الجزائر”.. تكفير السينما عن عنصرية الاستعمار الفرنسي

في ستينيات القرن الماضي كان العالم كله على فوهة بركان مستعد للانفجار في أي لحظة، وكانت طفرة الحركات التحررية قد بلغت ذروتها في شرق الكرة الأرضية وغربها، وصاحبتها موجة جديدة من الأفكار المناهضة للاستعمار والتمييز، ولم تكن السينما بمعزل عن تلك الحركات.

ففي العام 1966، وفي أوج الفترة التي لا تزال فيها الجزائر تلملم جراحها التي أثخنتها أكثر من مئة عام من الاستعمار؛ أخرج المخرج الإيطالي “جيلو بونتيكورفو” فيلمه “معركة الجزائر” (la battaglia di Algeri)، ويروي قصة نضال الشعب الجزائري من أجل تحرير وطنه من الاستعمار الفرنسي منتصف خمسينيات القرن الماضي، وقد صوّر “بونتيكورفو” العنصرية التي مارسها الفرنسيون على السكان الأصليين للأرض.

 

ارتبطت العنصرية أساسا بكل ما لحق بذوي البشرة السوداء من ازدراء بسبب لونهم أو أصولهم، وحاولت السينما الأمريكية محو ذلك العار الذي التصق بجزء من سكانها طيلة قرون، ففي النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي بدا أن السينما في الدول الاستعمارية قد بدأت تتخلص فعلا من اللطخة السوداء التي طبعت أفلاما كثيرة منها، إما عن طريق إشراك ممثلين ذوي بشرة سوداء في أدوار ذات أهمية في أفلامها، بعد أن كانت تطلي وجوه ممثليها البيض باللون الأسود حين يجسدون دور شخصية داكنة البشرة، وذلك حتى لا تتيح للسود الفرصة للمشاركة في الأفلام، أو عن طريق استحضار المآسي التي يعاني منها ذوو البشرة السوداء بسبب اختلاف لونهم، وهي غالبا ما تستلهم قصصها من الواقع الزاخر بتلك المآسي.

“في دفء الليل”.. إرث صراع الأفضلية بين الأسود والأبيض

في فيلم “في دفء الليل” (In the Heat of the Night) الذي أخرج في العام 1967، صوّر المخرج الكندي “نورمان جيوسون” قصة خلافات شرطيين شريكين في التحقيق في جريمة قتل، أحدهما أبيض البشرة والآخر داكن اللون، وهي خلافات أساسها ما ورثه الشرطي ذي البشرة البيضاء من أحكام عنصرية، وهي أنه دائما على حق، كما أنه مُتعالٍ على زميله الأسود.

نال فيلم “في دفء الليل” خمس جوائز أوسكار، وهو محفوظ في الأرشيف الوطني للسينما في الولايات المتحدة الأمريكية ضمن حزمة من الأفلام التي تفخر بها أمريكا عبر تاريخها.

لم يكن فيلم “في دفء الليل” الفيلم الوحيد الذي كان محملا برسائل إنسانية لم تعتدها المجتمعات الغربية أساسا، خاصة في العلاقة بذوي البشر السمراء، فقد صوّر المخرج الأسترالي “بروس بيرسفورد” مشاهد محفزة كي تراجع المجتمعات التي ادعت تقدمها على حساب أخرى بعض مفاهيمها.

 

وكانت العلاقة الإنسانية التي جمعت سيدة بيضاء بسائقها العجوز ذي البشرة الداكنة في فيلم “توصيل الآنسة دازي” (Driving Miss Daisy) الذي أخرج في العام 1989 أحد الجوانب الإنسانية التي ركز عليها المخرج “بيرسفورد” في فيلمه، حيث صوّر ببساطة المحبة التي بين مختلفين في لون البشرة، رغم الرواسب العنصرية التي حفرها المجتمع في النفوس.

“التاريخ الأمريكي إكس”.. انقلاب عقلية القاتل العنصري بالسجن

إن أكثر الأفلام الصادمة، لم يكن قطعا فيلم “دجانغو الحر” (Django Unchained) للمخرج “كوينتين تارانتينو” (2012)، الذي يروي قصة عبد حُرّ  حارب بشجاعة من أجل إثبات كرامته، ولا  فيلم “المساعدة” (The Help) للمخرج “تيت تايلور” (2011)، الذي يصوّر علاقة نساء من ذوري البشرة البيضاء بخادماتهن داكنات اللون في أوج  حركة التحرر في بداية الستينيات، ولا حتى فيلم “إثنا عشر سنة من  العبودية” (12 Years A Slave) الذي أخرجه “ستيف ماكوين” في العام 2013، رغم ما احتواه من مشاهد مؤلمة عانى منها بطل الفيلم بسبب لونه.

لقد كان الفيلم الأكثر وقعا وصدمة هو فيلم “التاريخ الأمريكي إكس” (American History X) للمخرج البريطاني “توني كاي”، والسبب هو أن الفيلم الذي أنتج  في العام 1998، صوّر العنصرية ضد السود في تلك الفترة،  ودحض أن العنصرية ضد ذوي البشرة الداكنة قد دُفن بين طيات التاريخ.

 

يروي الفيلم  قصة شاب عنصري متعصب يُدعى “ديريك” (الممثل إدوارد نورتون)، وقد دخل السجن بسبب ارتكابه جريمة قتل شابين من أصول أإفريقية، ولكن في السجن انقلبت مواقفه، حتى أأنه أصبح صديق رجل أسمر اللون.

لكن قصة “ديريك” لم تنته حتى بعد خروجه من السجن، فقد كان محتما عليه إنقاذ أخيه الأصغر من الأفكار العنصرية  التي زرعها في  عقله قبل دخوله السجن.. واحتل الفيلم قائمة أفضل الأفلام  الأمريكية في تاريخ السينما.

“ستيفن سبيلبرغ”.. عقدة الشتات اليهودي تصنع أعظم أفلام العنصرية

لم يتخلف المخرج العبقري “ستيفن سبيلبرغ”، أشهر المخرجين إطلاقا، عن ركب المخرجين الشجعان الذين واجهوا مجتمعهم وتاريخ بلدهم الزاخر بالعنصرية، فأخرج فيلمين رائعين صوّر فيهما قصة حقيقية حصلت في العام 1839، وأخرى أحداثها يمكن أن توجد في ركن أي عائلة سمراء البشرة.

في العام 1985، أخرج “سبيلبرغ” فيلم “اللون الأرجواني” (The Color Purple) الذي استند على رواية تحمل العنوان ذاته، ويصور  الفيلم معاناة فتاة أمريكية من أصول أفريقية، إذ تتعرض للعنف بسبب لونها، وفي فيلم “الصداقة” (Amistad) الذي أخرجه في العام 1997، يروي “سبيلبرغ” قصة حقيقية لسفينة عبيد اختطفت في العام 1839، وبيع من على سطحها، وطرحت القضية أمام  المحكمة الأمريكية العليا في العام 1841.

المخرج العبقري “ستيفن سبيلبرغ” الذي انخرط في موجة الأفلام التي تحارب التمييز العنصري

 

لم يصوّر “ستيفن سبيلبرغ” قصة العنصرية ضد ذوي البشرة الداكنة فحسب، بل صبّ كل إبداعه في فيلم “لائحة شندلر” (Schindler’s List) الذي أخرجه في العام 1994، وكان الفيلم تحفة فنية جميلة نقلت قبح ما عاناه جزء من يهود شرق أوروبا  من عنصرية وقتل وحشي في المعتقلات الألمانية في فترة حكم النازيين.

ويرى كثير من النقاد السينمائيين أن “سبيلبرغ” انخرط في موجة الأفلام التي تحارب التمييز العنصري، بسبب أن أصوله اليهودية صنعت عنده عقدة الشتات والمظلومية التي تجاوزت الدفاع الواعي عن قضية معينة، لتصبح دعاية سياسية لصالح اللوبي اليهودي السياسي، وساعده على ذلك اللوبي اليهودي الهوليودي.

جنوب أفريقيا.. صكوك الغفران السينمائية عن جرائم المستعمر

في الواقع شكلت السينما ملاذا لمسح الذنوب التي ارتكبتها المجتمعات بفي حق الأقليات، فبريطانيا مثلا بحثت عن صك الغفران بسبب جرائمها في جنوب أإفريقيا، وأنتج مخرجون بريطانيون أفلاما صوّرت وحشية الفصل العنصري الذي عانت منه جنوب إفريقيا،  ففي العام 2008، أخرج البريطاني “أنتوني فابيان” فيلم “بشرة” (Skin).

يروي الفيلم قصة حقيقية عن “ساندرا لينغ”، وهي فتاة من جنوب أإفريقيا داكنة البشرة، وُلدت في العام 1955 لأبوين من ذوي البشرة الفاتحة، حيث ترسل “ساندرا” إلى مدرسة بيضاء، لتصطدم بنفور أقرانها وأوليائهم منها، ثم تصنف من خلال الدولة على أساس أنها سمراء، و تطرد من المدرسة. وتتسارع الأحداث التي تصور مدى نقمة وعنصرية بيض جنوب إفريقيا.

 

وفي العام 1952، أخرج المخرج البريطاني ذو الأصول النمساوية “زولتان كوردا” فيلم “اابكِ أيها البلد الحبيب” (Cry, The Beloved Coutry). ويروي قصة وزير أسمر البشرة يسافر بحثا عن ابنه المفقود زمن الفصل العنصري في جنوب أإفريقيا، ليشهد على بؤس الشعب بسبب العنصرية،  وهو ما صوّره أيضا المخرج “ستيفن سيلفر” في فيلم “نادي بانغ بانغ” (Bang Bang Club) في العام 2010، وهو مستوحى من قصة حقيقية لأربعة مصورين نشطوا بين العامين 1990-1994، أي قبل سقوط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

بحثت السينما عن صكوك الغفران للجرائم العنصرية التي ارتكبتها الشعوب، لكنها في الوقت ذاته كانت محاولات لطلب الغفران عما اقترفته أفلام كثيرة بحق المختلفين في العرق أو اللون، وهي لم تكن حكرا على السينما الغربية فحسب، بل شارك فيها صانعو الأفلام في أكبر الوجهات.

“ولادة أمة”.. قنبلة انفجرت لتُلهم منظمة عنصرية

في العام  1915، أخرج الأمريكي “ديفيد غريفيث” فيلمه الصامت “ولادة أمة” (The Birth of a Nation)، ولا أحد يعرف إن كان المخرج الأمريكي يعلم بأنه ألقى بقنبلة تفجرت في وجه ذوي البشرة الداكنة حين أصبح ذلك الفيلم ملهم منظمة “كو كلوكس كلان” الوحشية  والمناهضة لذوي البشرة السوداء.

يروي الفيلم قصة عائلتين أمريكيتين خلال الحرب الأهلية الأمريكية، وتقنيا كان فيلما بديعا من ناحية تقنيات التصوير والإخراج والسيناريو، وكان يمكن أن تتباهى به الولايات المتحدة الأمريكية باعتباره أهم الأفلام في تاريخ السينما، غير أن الفيلم كان يقطر بالرسائل العنصرية، حيث دعا صراحة لسيادة العرق الأبيض، كما مجّد منظمة “كو كلاكس كلان” التي ارتكبت جرائم فظيعة بفي حق ذوي البشرة السوداء.

 

لقي الفيلم معارضة كبيرة من السود ومن البيض المدافعين عن حقوق الإنسان، وكتبت بعض الصحف عن الفيلم أنه: “تحريض واضح على القتل، وهو يحتوي على نية واضحة للتفرقة على الأساسا العرقي، كما أنه إهانة لجزء من الشعب”.

اندلعت مظاهرات في مدن أمريكية كثيرة ودعت إلى منع عرض الفيلم، ولكن ما شجع منظمة “كو كلاكس كلان” هو تصريح ضبابي للرئيس “وودرو ويلسون” قال فيه: “إنه بمثابة كتابة عن التاريخ، أسفي الوحيد هو أن كل ذلك حقيقي”، وأصبح ذلك التصريح أحد شعارات المنظمة الإرهابية والتي استعملته من أجل الدعاية.

كانت السينما الأمريكية انعكاسا واضحا لمعتقدات المجتمع آأنذاك، ففي تلك الفترة كان العرق الأبيض في الولايات المتحدة الأمريكية لا يزال يعتقد بعلوه ورفعته عن بقية الأعراق، بما في ذلك السكان الأصليين للبلاد، وبدا ذلك واضحا في فيلم “عربة الخيول” (Stagecoach) الذي أخرجه “جون فورد” في العام 1939، وقدم مخرج الفيلم الهنود الحمر باعتبارهم متوحشين، في حين صنّف ذوي البشرة الفاتحة في قائمة الأخيار.

“الأوسكار بيضاء للغاية”.. احتجاج على خطوات العظيم “مارلون براندو”

الآن وبعد عقود طويلة من إرث مثقل بالعنصرية، ، تحرّك ممثلون وسينمائيون في هوليود في العام 2021، لوضع حد لذلك العار الذي طبع السينما الأمريكية  فجعلها عنصرية في العلن وفي الخفاء، وأطلق عدد كبير منهم وسوم “الأوسكار بيضاء للغاية” (OscarsSoWhite#) على مواقع التواصل الاجتماعي، احتجاجا على ترشيح جوائز الأوسكار التي استندت إلى لون البشرة والعرق.

 

وكانت موجة الاحتجاج تلك قد سبقتها مقاطعة عدد كبير من النجوم ذوي الأصول الأفريقية لحفل توزيع جوائز الأوسكار في العام 2016، وهي حركة تذكرنا بموقف الممثل العظيم “مارلون براندو” الذي بقي في منزله خلال حفل توزيع جوائز الأوسكار في العام 1973، واستغل وصول الحفل لقرابة ثمانين مليون مشاهد، ليبعث رسالته لصانعي الأفلام في هوليود بسبب الصور المسيئة للسكان الأصليين في أفلامها.

فوّض “مارلون براندو” رئيسة منظمة الممثلين ذوي الأصول الهندية، وصعدت منصة التتويج بلباسها التقليدي، وألقت خطابا نيابة عن “براندو” بعد رفضها تسلّم الجائزة، وقالت: أ أنا أمثّل “مارلون براندو” الذي طلب مني أن أقول إنه ممتن لكم لهذه الجائزة، لكنه يرفض تسلّمها بسبب سوء تعامل الصناعة السينمائية مع الهنود الحمر.

والت ديزني.. محاولات الهروب من إرث زاخر بالعنصرية

أنتجت شركة “والت ديزني” أفلاما كثيرة تضمنت عنصرية واضحة، وكان من أوائل تلك الأفلام التي أثارت جدلا فيلم “أغنية الجنوب” (Song of the South) الذي أنتج عام 1946، ووصف بأنه ينشر صورا عنصرية، ويُمجّد مزارع الرق في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية، وتوقف عرض هذا الفيلم، ولم تدرجه منصة ديزني في قائمة أفلامها.

لا يمكن عدّ الأفلام التي أنتجت وكانت تزخر بالرسائل أو المشاهد العنصرية، لكن إلى حد هذا التاريخ لا تزال المنصات -بما في ذلك الأستوديوهات المنتجة للأفلام- تحاول أن تمحو إرثا سينمائيا عنصريا بدأ منذ وقت مبكر. ففي العام 2020 أزالت منصة “أتش بي أو ماكس” (HBO Max) الأمريكية فيلم “ذهب مع الريح” (Gone with the Wind) الذي أخرجه “فيكتور فليمنغ” في العام 1940، وهو أحد أشهر كلاسيكيات السينما، واستجابت الشركة لدعوات حذفه بسبب تمجيده الواضح للعبودية وتبريره للعنصرية.

 

أما شركة والت ديزني (هي من أكبر شركات الإنتاج في العالم) فقد قامت بمراجعات عن أفلام أنتجتها روّجت لرسائل عنصرية، واضطرت إلى تنبيه المشاهدين لبعض أفلامها عن طريق جمل من قبيل “هذا البرنامج يتضمن توصيفات سلبية، أو معاملة سيئة لبعض الشعوب أو الثقافات”.

وشملت تلك التحذيرات مشاهد بعض أفلامها، مثل فيلم “بيتر بان” (Peter Pan) الذي أخرج في العام 1953.

“الشيخ”.. فاتحة أفلام السخرية من الثقافة العربية

لم يكن فيلم “أغنية الجنوب” الوحيد الذي واجهت ديزني انتقادات بسببه، فقد أثار فيلم “علاء الدين” (Aladdin) الصادر في العام 1992 جدلا بسبب تحقير الثقافة العربية، وهو لم يكن الفيلم الوحيد الذي ينشر العنصرية ضد الثقافة العربية والإسلامية، فقبل ذلك بقرابة السبعين عاما، أي في العام 1921 عرض فيلم “الشيخ” (The Sheik)، ثم تلاه فيلم “ابن الشيخ” (the The son Son of of sheikSheik) في العام 1926، وصوّر الفيلمان العرب لصوصا  وقتلة، وظهروا في مواقف مضحكة باعتبارهم أغبياء، كما أظهرتهم أفلام أخرى مثل “لص بغداد” و”مقهى في القاهرة”.

في العام 1997، نشرت صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” مقالا سخرت فيه من السينما التي روجت لصورة العرب، والتي اتبعت الخطوات ذاتها، ليكون الفيلم ناجحا، وهي أن يكون للشخصية التي تجسّد عربيا، لحية، وأن يكون اسمه علي أو مصطفى، وأن يهدد بتفجير أو بعمل إرهابي.

خدم الريف والسمر.. عنصرية فاضحة في السينما المصرية

رغم أن العرب كانوا ضحايا لعنصرية مخرجي أو منتجي الأفلام، فإنهم كانوا بدورهم عنصريين في بعض المرات، فقد نشر المرصد المصري لمناهضة التمييز العنصري في شهر يناير/كانون الثاني من العام 2018 دراسة بعنوان “مشروع تعزيز التعددية ونبذ التمييز العنصري بالإعلام المصري”، وكشفت الدراسة ،عن إحصاءات مفزعة للأفلام المصرية التي بثت رسائل عنصرية، وحسب الدراسة، فإن ستين فيلما مصريا أنتج بين العامين 2007-2017، تضمنت مشاهد ترشح عنصرية وتمييزا ضد ذوي البشرة الداكنة، كما أنها روّجت صورة نمطية للريفيين أو السود الذين غالبا ما يمثلون دور الحارس أو الخادم.

 

في الواقع لم تكن العنصرية في الأفلام المصرية مستحدثة، بل كانت ضاربة في السينما  منذ عصر مبكر في مصر، ففيلم “الآنسة ماما” -الذي قامت ببطولته صباح ومحمد فوزي في العام 1950- قد احتوى حوارا عنصريا تجاه خدم من ذوي البشرة السمراء.

، كما ارتبطت العنصرية والسخرية من ذوي البشرة السوداء أو من لهجة الريفيين في الأفلام المصرية غالبا بالأفلام الكوميدية، ففيلم “صعيدي في الجامعة الأمريكية” مثلا سخر صراحة على لسان بطله محمد هنيدي من إحدى الممثلات السمراوات التي أدت دور فتاة ليل، أما فيلم “أفريكانو” الذي كان بطله أحمد السقا، فاحتوى أيضا على سخرية وعنصرية واضحة من أفارقة بسبب لونهم.

ولم يجد ممثلون مثل محمد سعد في فيلم “اللّي بالي بالك”، وحمادة هلال في فيلم “عيال حبيبة”؛ حرجا في تبنّي حوار يحتوي على خطاب عنصري صادم خلال أدائهما دوريهما في الفيلمين المذكورين. دون أن ننسى صورة الصعيدي في مختلف الأعمال المصرية.

“تقرير ماكينسي”.. فضائح من كواليس عنصرية هوليود

في شهر أغسطس/آب الماضي، قدمت المخرجة الأمريكية ذات الأصول الصينية “كلوي تشاو” تصريحا جريئا  عن عنصرية صناعة السينما في هوليود، وأجابت عن سؤال عن ما إذا كانت صناعة السينما عنصرية قائلة: نعم، بنسبة 100%.

كما أن تقريرا صادما نشرته منظمة “ماكينسي” في شهر آذار/شباط الماضي، كشف عن حجم تلك العنصرية التي أقصت الأمريكيين ذوي البشرة السوداء من صناعة الأفلام. حيث يقول التقرير: يمثل الممثلون السود 11% فقط من الأدوار السينمائية الرائدة، وغالبا ما يوجهون إلى المشاريع المتعلقة بالعرق، والتي تتلقى عادة استثمارات أقل في كل من الإنتاج والترويج.

 

ويضيف التقرير: هناك قيود إبداعية مفروضة على المواهب ذوي البشرة السوداء، سواء في الشاشة أو خارجها، وتصنف هذه المواهب وتوجه إلى المحتوى المرتبط بالعرق، وغالبا ما يلعبون أدوارا نمطية. ببساطة: إن تحويل المواهب من ذوي اللون الداكن  إلى أفلام خاصة بالعرق أو أفلام شبيهة؛ يعني استبعاد هذه المواهب من المشاريع ذات التمويل الأكبر.

اعتمد التقرير على شهادات سرية لذوي البشرة السوداء العاملين في مجال صناعة السينما من ممثلين ومخرجين، وخلص إلى حقائق مقلقة  خلف تلك الكواليس،  وهي أن الممثلين ذوي البشرة السوداء تتاح لهم فرص أقل في مسيرتهم المهنية مقارنة بالممثلين من ذوي البشرة البيضاء، كما أن لهم هامشا خطأ أضيق.

ويضيف التقرير أن السينما والتلفزيون هما أقل القطاعات في الولايات المتحدة الأمريكية تنوعا، مقارنة بقطاع الطاقة والنقل والمالية. ويقول تقرير ماكينسي: إن المواهب الفنية من ذوي البشرة الداكنة، وعلى وجه الخصوص من يقفون خلف الكاميرا؛ هم الأقل تمثيلا في قطاع السينما، فلا تتجاوز نسبة الكتاب والمخرجين والمنتجين السود 6% من الأفلام الأمريكية، وكشفت محادثاتنا مع مهنيين في القطاع أن 92% من منفذي الأفلام هم من البيض.

المخرج الأمريكي “سبايك لي” المعروف بأفلامه عن التمييز العنصري ضد السود

 

لا يجد الممثلون الصاعدون من ذوي البشرة السوداء فرصا سهلة للعب أدوار مهمة في الأفلام، وحسب التقرير، فإن تلك الفرص تتاح لهم مرة كل عامين أو ثلاثة سنوات، وهو ما يعني ضعف الموارد المادية وعدم استقرارها، في حين ينتظر كاتب السيناريو من ذوي البشرة السوداء سنة كاملة في بعض الأحيان قبل الموافقة على قبول قصته.

يستغرب المشاهد أحيانا من فيلم أمريكي كل طاقمه من ذوي البشرة السوداء، لكن قد لا يعلم الجمهور أن كل الطاقم قد اقتنص فرصته في المشاركة في الفيلم بسبب وجود منتج أو مخرج يشاركهم اللون ذاته، ويقول تقرير ماكينسي “تُظهر البيانات أن الأفلام التي يكون فيها منتج أسود (8% فقط من جميع الأفلام المنتجة في الولايات المتحدة) أو مخرج أسود (6% من جميع الأفلام)؛ من المرجح أن يكون لها كاتب أسود. وإذا كان منتج الفيلم أسود ، فمن المرجح أن يكون للفيلم مخرج أسود أيضاً”، كما أنه “في المتوسط تحصل الأفلام التي ينتجها ذوو البشرة الداكنة على ميزانيات إنتاج أقل بنسبة 24% من نظرائهم من غير السود، بينما تحصل الأفلام التي كتبها أو أخرجها أو أنتجها شخص داكن اللون على أموال أقل بنسبة 43%” حسب تقرير ماكينسي.

من هنا نتأكد أن السينما سلاح ذو حدين، وإلى اليوم ما زال حدّ الشر فيه منتصرا على حد الخير.