القيروان رابعة الثلاث.. سحر من تبر وتراب

مدينة عبقة بتاريخها ساحرة بجمالها وبيوتها ومساجدها ومزاراتها وأسواقها وأزقتها، تنتشر في فضاءاتها حميمية وروحانية، كانت مصدر إشعاع علمي وحضاري ودعوي لبلاد الغرب الإسلامي.

في كل زاوية من زواياها قدسية فهي مدينة الثلاثمئة مسجد، وهي رابعة الثلاثة أي بعد مكة والمدينة وبيت المقدس، وهي أول مدينة إسلامية بنيت في المغرب العربي في سنة 50 الهجرية.

هذا الفيلم الذي تبثه الجزيرة الوثائقية يأخذنا لاستكشاف أزقتها وقصصها وتراثها المعماري عبر قصص ترويها شخصيات من المدينة.

“إنك تمشي فوق الماء”.. تجليات قيروانية

يقول ساكنها الشاعر والفنان التشكيلي خالد ميلاد في مدحها، في قصيدة تحمل عنوان “تجليات قيروانية”:

انظر في قفا الدروب

من باب القدة حتى الأنصاري

من زقاق القرمطي إلى خلوة سحنون

يصعد من كل ليلة صباح

من سفر التاريخ

يسقط فوق رؤوس الخلق

أسرارا وحروفا أزلية

يغازل أروقة، لا تزهو فيها

غير بيوتات هرمة

ومزارات بيض مثل الثلج

تزهو في خضر الرايات

دنيا من ألق وغوايات

وزوايا وتكايا وسرايا

قال: ذي مدن للشعر وللشعراء

طر.. لا تحزن

إنك تمشي فوق الماء

إنك من قفصة تأتي

من قرطاجة إلى القيروان

مسجد الأنصاري.. جهاد من أجل الحضارة الإسلامية

يمتلك الفنان والشاعر خالد ميلاد بيتا في القيروان عمره ينيف على 1400 عام، وهو من أوائل البيوت التي بنيت في المدينة، وهو ملاصق لمسجد الأنصاري الذي يعتبر أقدم بناء بناه المسلمون في تونس، ويضم مدفنا للمجاهدين الأوائل في الفتح الإسلامي، وقد جرت العادة عند نساء القيروان أن تُطلى جدران المسجد بالحناء للتبرك، لذا أطلق عليه اسم “المحنّية” أيضا.

مسجد الأنصاري في القيروان عمره ينيف على 1400 عام

وللمسجد أبعاد صوفية ففيه يتهجدون وفيه يختلون، ويؤمه أكبر القراء وحفظة القرآن، وتقوم العائلات بإحضار الحلويات والقهوة للمصلين، ولقد سمي هذا الحي بحي الأنصار، ويطلق عليه كذلك اسم حومة الشرفاء، أي الأنصار لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقول صفوان بن ميلاد إنه كان يقوم على تراتيل جده قبيل الفجر ممتزجا بصوت غزل صوف من غرفة جدته، وهما بداية علاقته بالفن.

ويضيف: هذه هي حياة الإنسان، جهاد متواصل من أجل حضارة إسلامية ومن أجل القيروان، فيدُ النقّاش والتشكيلي تمتد لأبعد ما يكون متجاوزة الورق.

في الصباح يخرج صفوان إلى الشوارع والساحات ليرسم لوحاته هناك، حيث تتلون مباني مدينة القيروان باللونين الأبيض والأزرق وكأنها سماء ممتدة على الأرض.

سور القيروان العظيم.. معالم المدينة التاريخية

من أهم معالم القيروان سورها الضخم، إلا أن بعض أجزائه تعرضت للهدم في الحرب الثانية، حين قام الألمان باستخدام الآجر لبناء مدرج لطائراتهم العسكرية، فقد كان السور أضعاف حجمه الحالي، وكان سبب بنائه أن المدينة كثيرا ما تعرضت للغزو، فبناه أهل المدينة للدفاع عن أنفسهم، ويفصل السور المدينة القديمة عن محيطها الطبيعي، وتضم المدينة المقبرة والأسواق كسوق النحاسين، وهو آخر سوق للنحاس المطروق في العالم.

سور القيروان العظيم يحيط بالمدينة القديمة

ومن أشهر معالم القيروان الفسقيات، وهي أهم معلم هيدروليكي في العالم الإسلامي، وقد بنيت في عهد الأغالبة في القرن الثالث الهجري، وهي عبارة عن أحواض مائية ضخمة لتجميع وتوزيع المياه عبر شبكات المدينة، لتوفير الري والمياه اللازمة للقيروان.

وقد دارت حولها حكايات وأساطير، ويروي إحدى تلك الحكايات الفنان والتاجر طارق العلاني، ومفادها أن فتاة أرادت أن تستخرج كنز الفسقية فكان عليها ذبح خروف وغزل صوفه وتحضير طبق الكسكسي، وتأتي في منتصف الليل فينفتح لها قلب الفسقية ويخرج الكنز.

مدينة المساجد الثلاثمئة.. أبواب الجنة الثمانية

للقيروان ثمانية أبواب، أهمها باب الجلادين نسبة إلى الجلود التي كانت تدبغ هناك، وباب تونس الذي كانت تقام عليه عروض الفرجة، وهنا تجد الحكواتيين ومروضي الثعابين، لكن الصورة تغيرت اليوم مع احتفاظ المدينة بطابع خاص جميل، فهي ملهمة للكثيرين، وفيها حميمية يتعايش الناس فيها بود وألفة وأمان.

في المدينة كثير من المساجد، تقسم إلى ثلاثة أقسام الجامع الذي تقام فيه صلاة الجمعة، والمسجد الذي يوجد فيه الصحن، وبيت الصلاة لا يوجد فيه صحن، وهي مدينة ذات طابع روحي حيث يرفع الآذان في كل جنباتها.

القيروان مدينة الـ300 جامع

كما أن لبيوت القيروان القديمة تقسيمات، فعند دخول الدار تجد الزريبة ثم السقيفة ثم صحن الدار والمجالس، وتحت المجالس دهاليز ومكان لتخزين الطعام من الشعير والقمح والزيتون والحطب، بالإضافة إلى البئر، أي أن البيت يتحقق فيه اكتفاء ذاتي يدل على أصالة وعراقة التقاليد.

يقول خالد ميلاد: حالي كحال الطبيب أحمد بن الجزار القيرواني، أنا آنس بالمدينة ولا أغادرها، فقد كان ابن الجزار يقول: من أنسب الأدوية تلك التي تشتق من أعشاب موطنك أيها المريض.

سوق المعاش.. بين بابين من أبواب المدينة

أما سوق القيروان فيمتد من باب تونس إلى باب الجزارين، ويفصل بين حومة الجامع وحومة الشرفاء، وهو عبارة عن مجموعة من الأسواق مثل سوق القماش والزراعية والبلاغجية (سوق النعال) والحج أمين والنقاطين والجلادين وغيرها.

ويسمى هذا السوق الكبير بسوق المعاش، وكان هناك مراقب يراقب السوق وكل من يعمل بسوق القيروان يخضع لتلك المراقبة، وكان هذا ما يسمى بالحسبة، وهذا جزء من الحسبة ولكل حسبة شيخها، أي لكل صنعة أمين خاص بها.

سوق القيروان يفصل بين حومة الجامع وحومة الشرفاء وهو مجموعة من الأسواق

وفي المدينة جامع الفال الذي كانت ترمي فيه الناس الفأل، أما محل الحانوتي فهو المكان الذي تباع فيه التحف القديمة.

ويقول طارق العلاني وهو صاحب أحد المحلات، إن في محله أوراقا خاصة بعائلته لا يستطيع بيعها، مثل تلك الخاصة بالقضاء والقانون.

ويضيف: كان هناك قانون بالقيروان أنه إذا تزوج أحد بامرأة قيروانية، فلا يحق له الزواج بأخرى وتحرم عليه النساء.

مسجد عقبة بن نافع.. جامع أقدم من المدينة

عند حومة الجامع الكبير تبدأ الصورة بمشهدية صامتة، ثم تدب الحركة لتملأ المكان، ويقول التونسيون إن الجامع أقدم من مدينتها، وهذا كناية عن علاقة الجامع بالمدينة، لأن المدينة العربية في المضمون الإسلامي تخضع لهندسة معمارية ونسق تقليدي، حيث أنها تبدأ من الجامع الكبير الذي بناه عقبة بن نافع، ثم يتدرج البناء إلى فضاءات أوسع نحو انتشار الأسواق.

جامع عقبة بن نافع بني قبل بناء القيروان

كانت دار الإمارة ملاصقة للجامع الكبير الذي يحوي مكتبة ضخمة تكدست آلاف الكتب على رفوفها، وبالقرب منها يوجد سوق النقاطين (النسخ والكتابة) يليه سوق الحبر والصباغة والألوان، ومنها تتفرع أسواق النساجين والفراعين وغيرها، ولقد كان للحرف العربي مكانته، فبه تزخرف الألبسة والأسلحة، وهذا يدلل على أن القيروان كانت منارة للعلم والعلماء.

ويعد الجامع الكبير من أكبر المساجد في الغرب الإسلامي، ومن حيث الشكل الخارجي يشبه الحصن بضخامته واتساعه وهندسته وجدرانه السميكة والمرتفعة والدعامات الضخمة، وهذا يعكس الروح الإسلامية في التعاضد والتماسك، وهي الروح التي أسست للقيم والمبادئ والمعرفة.

أما الصومعة أو المنارة فهي غاية في الروعة والإبهار، حتى أن الرسام السويسري “بول كلي” عندما رآها صاح وقال “اليوم أصبحت رساما”، لفرط إعجابه مما أحس به من شموخ وعظمة.

عاصمة المغرب.. لوحة تتلاقح فيها الفنون

تذكر بعض الروايات أن عقبة بن نافع عندما اختار موقع القيروان كانت غابة تسكنها الوحوش، فأمرها أن تغادر المكان ففزعت الوحوش وغادرت.

لم تزل القيروان عاصمة المغرب الإسلامي ثقافيا وسياسيا وعلميا لخمسة قرون، وأثرت بالحرف العربي، ففي البداية احتضنت الخط الكوفي القادم من العراق، وطورت ما يسمى بالخط الكوفي القيرواني، ويسمى أيضا بالمولد أو الريحاني نسبة لليونته وجماله والأشكال النباتية التي كانت تزينه، وقد ظهر هذا الخط جليا في زخرفة جامع عقبة بن نافع، كما أنه شهد على تطور المعمار والفقه فالجامع هو المورد والمستودع الأول وهو الأصل.

بعض شواهد القبور القديمة مزخرفة بنقوش قيروانية

أما منبر جامع عقبة بن نافع فقد كان آية في الروعة، ويضم 300 لوحة نقشت بطريقة مذهلة جمعت بين الخط الكوفي والزخارف النباتية مع الخط القيرواني الذي تدخله تفريعات الزخرفة والزركشة، فتلاقحت الفنون بصورة جميلة خلقت هذا الخليط المتناثر من الحروف وقد ألهمت الكثير من الفنانين التشكيليين.

ومن أبرز المعالم في المدينة مقبرة قريش التي حوت شواهد قبورها أمثلة بديعة على روعة الخط القيرواني الذي اهتم به أهل القيروان وبذلوا الوقت والجهد والمال في كتابته على الشواهد، وتلك الشواهد موجودة الآن في متحف رقادة، ويرى زهير الشهبي محافظ المتحف الوطني للفن الإسلامي أن الشواهد نقشت بطريقة فيها الكثير من الابتكار كما أنها تدل على حالة ازدهار كان يعيشها القيروانيون.

“وتلك الأيام نداولها”.. تاريخ ممتد من الازدهار

امتدت فترة تأسيس القيروان من سنة 50 الهجرية ولغاية 184، وجاء بعد تلك المرحلة الأغالبة، إذ شهدت المدينة في زمنهم الازدهار والتطور المعماري، ومن بعد الأغالبة جاءت الفترة الفاطمية ثم الفترة الزيرية، وهنا كان التطور الكبير في الهندسة المعمارية والعلوم، ومن أعلام تلك المرحلة الطبيب ابن الجزار.

أما الكتابة فقد كانت عنوانا للحضارة في المدينة، وظهرت في العملة والخزف وأدوات الفلك والعلوم والمخطوطات والكتب التي أبدع القيروانيون في كاتبتها وزينتها، ومن تلك الأمثلة المصحف الأزرق المكتوب على الجلود، وقد كتب بماء الذهب واستخدمت الصبغات الطبيعية المستخرجة من نبتة النيلة في طلائه، وهذا هو فن صناعة الكتب، كما برعوا في خلط الأحبار المنتمي لعلم الكيمياء.

لوحة للطبيب ابن الجزار القيرواني وهو يجري عملية جراحية لمريض

اختزلت القيروان الحرف العربي ونما بها لجماليته، وحمل النصوص بعد أن خط به الشعر والزجل، وقد تميزت الموسيقى القيروانية بالعذوبة والخصوصية والتفرد، إذ يقول الموسيقى حاتم دربال: انفردت القيروان بالموسيقى على مستوى الطبوع والنغمات، مثل طبوع العزيبي والمقام العرضاوي القيرواني.

كانت القيروان عاصمة تونس وحاضنة للثقافة الموسيقية، فمر بها زرياب والموصلي، فأثرت بالأندلس وتأثرت بها، فالبعد الفني الأندلسي كان حاضرا، وهناك مقام الذيب الذي أتقنه الشيخ علي البراق، ومن القصائد التي غنت بالعزيبي قصيدة يا صاحب الجاه.

كل هذا الجمال الذي تحتضنه أكناف المدينة العتيقة من معمار وفن وحياة وجامع وتاريخ وموسيقى هو سحر من تبر وتراب.