المدن الذكية.. ضرورة ثورية تغير وجه الحضارة البشرية

مراد بابعا

لطالما شكلت مدن المستقبل مجالا رحبا للخيال وقصص الأفلام منذ ثمانينيات القرن الماضي، فقد سعت إلى تخيل شكل حياة الإنسان بعد سنوات من التطور واستعمال التكنولوجيا، إذ نجد فيها الروبوتات تقوم مقام العمال، والسيارات الطائرة وذاتية القيادة تجوب الشوارع، وآليات ذكية للتنظيف وجمع النفايات توفر جوا من النقاء والهواء المصفى الخالي من التلوث.

واليوم، لم تعد هذه الفكرة الخيالية حبيسة الأفلام السينمائية، بل تجسدت بعض عناصرها على أرض الواقع مع ظهور “المدن الذكية” (Smart Cities) التي تعتمد الوسائل التكنولوجية الحديثة للاتصال، لتحسين جودة الخدمات الحضرية، وتقليص التكاليف، والاعتماد على التطور الرقمي من أجل الحفاظ على البيئة.

وقد عرضت قناة الجزيرة الوثائقية سلسلة أفلام عن المدن الذكية من ثماني حلقات سلطت فيها الضوء على تجارب ناجحة للمدن الذكية في العالم، وعلى رأسها سنغافورة، وأمستردام وبرشلونة، وغيرها كمدينة هيغاشيي في اليابان التي أسست على معايير الذكاء من الصفر.

 

ويروي أيضا الفيلم الوثائقي “مدن تحت الاختبار” -الذي عرضته الجزيرة الوثائقية- تجربة المدن الذكية في الهند، التي وعدت الحكومة الهندية بأنها ستحقق النمو السريع والثراء، مطالبة أصحاب الحقول الزراعية بالتخلي عن أراضيهم لصالح هذه المنشآت، مما اضطر بعضهم للانتقال من حياة الريف إلى حياة المدينة.

واستطاعت عدة مدن كبرى في السنوات الأخيرة التحول إلى مدن ذكية، من خلال تطوير وسائل التحكم في حركة المرور ومواقف السيارات، وتأهيل طرق جمع النفايات وتدبير المطارح، وتخفيض استهلاك الطاقة. كما قامت دول عدة بخلق مدن ذكية جديدة بالكامل، توفر منذ البداية جميع المعايير الصديقة للبيئة في البناء، والمعتمدة على الطاقة النظيفة، وتدخل التكنولوجيات الحديثة في كل مناحي الحياة.

فكيف جاءت فكرة هذه المدن الذكية؟ وهل تنجح التجربة أيضا في الدول النامية؟ وما هي مبررات القائمين على بناء هذه المدن رغم تكلفتها الباهظة؟ وهل فعلا تحقق الأهداف المرجوة منها وتساهم في النمو السريع المستدام؟

حل الاستدامة.. رهان إنقاذ الكوكب من هجوم سكان المدن

لا يختلف اثنان على أن إشكال التدهور البيئي هو أكبر تحد يواجه كوكب الأرض في وقتنا الحالي وفي السنوات المقبلة، فهو تحد وجودي للبشرية، ولا بد من التحرك العاجل لوقف النزيف. وهكذا فإن الاهتمام بالمدن الذكية كأحد الحلول المستدامة لإشكالية التغير المناخي لم يعد ترفا أو مجرد تحسين لجودة الحياة، بل هو ضرورة حتمية، خصوصا إذا استحضرنا أن أكثر من نصف سكان العالم يعيشون حاليا في المناطق الحضرية.

وتوفر أيضا هذه المدن الذكية أو الرقمية أو الإيكولوجية، خدمات تعتمد بالأساس على البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتساعد هذه البنيات المتطورة في إدارة خدمات المدينة من إنارة عمومية وشبكات ماء وصرف صحي وسلامة وأمن ومحاربة للجريمة. ويستطيع سكان هذه المدن الولوج إلى جل الخدمات بسهولة عن طريق شبكة الإنترنت التي تمكنهم من الاتصال بمختلف المؤسسات والهيئات في مدينتهم، وقضاء مصالحهم إلكترونيا.

البنية التحتية للمدن الذكية تراعي أهداف التنمية المستدامة

 

ولم تتوقف جهود البحث عن بيئة حضرية صحية وآمنة ومزهرة للعيش منذ أن أعلنت الأمم المتحدة عن أهداف التنمية المستدامة في أفق سنة 2030، فاستعمال التكنولوجيا الحديثة يساهم في اقتصاد الطاقة، والخدمات الإلكترونية عن بعد تقلل التنقلات اليومية، وتشجع على استعمال وسائل النقل الجماعي، مما يساعد على تخفيض نسبة الانبعاثات الملوثة. كما تستغل تقنيات تدوير النفايات وإعادة استعمال المياه، من أجل تقليل الضغط الذي تشكله المناطق الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية على الفرشات المائية، والتنوع البيولوجي.

زحف عمراني ينهك المدن التقليدية.. آفاق المستقبل

تتجه البشرية نحو العيش في المناطق الحضرية بشكل متسارع، وهو ما تؤكده الأمم المتحدة التي تشير إلى أن 54% من سكان العالم يعيشون حاليا في المدن، وسترتفع هذه النسبة بحلول العالم 2050 إلى %68 على الأقل، كما يتوقع البنك الدولي أن يصل عدد المدن التي يزيد عدد سكانها عن 10 ملايين إلى 41 مدينة حول العالم سنة 2030، بعد أن كان عددها 28 مدينة سنة 2014.

وسيشكل هذا التطور السريع تحديا كبيرا على البنيات التحتية للمدن التقليدية التي لن تستطيع الصمود أمام الزحف العمراني الكبير والطلب على الخدمات ووسائل النقل والاتصالات وغيرها، وهو ما حذر منه الخبراء، وعجل بظهور مصطلح المدن الذكية الذي استعمل منذ سنة 1994 في أوروبا، قبل أن ينتشر في باقي دول العالم.

خدمت التكنولوجيا الذكية المدن المتطورة بشكل فعال خلال جائحة كورونا

 

وقد بدأت تتجسد الفكرة تدريجيا في مجموعة من المدن التي اعتمدت نموذج “المدينة الذكية” مثل هلسنكي في فنلندا، قبل أن يغزو النموذج القارات الخمس، وتتبناه أيضا الحواضر العالمية الكبرى مثل لندن ونيويورك وباريس التي تتنافس في ترتيب المدن الأكثر ذكاء حول العالم.

وتمتاز هذه المدن بقدرتها على استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتحسين نوعية الحياة، وكفاءة العمليات والخدمات الحضرية، والقدرة على المنافسة، رغم شساعتها وكثافتها السكانية، فمدينة نيويورك مثلا تحقق نقاطا مهمة في طريقة تدبيرها لاستهلاك المياه، واقتصاد الطاقة الكهربائية، وجمع النفايات. بينما تتميز لندن وباريس باستعمالهما الكبير لوسائل النقل الصديقة للبيئة، وعلى رأسها شبكات المترو الواسعة، وتخطيطهما الحضري وانفتاحهما على العالم. وفي آسيا تمتاز العاصمة اليابانية طوكيو، أكبر مدن العالم من حيث عدد السكان، برأسمالها البشري، ومعدلها المرتفع في إنتاجية العمل.

سنغافورة.. أذكى مدن العالم تثبت عرشها خلال الجائحة

تتربع سنغافورة على عرش المدن الأكثر ذكاء في العالم، وفق “مؤشر المدن الذكية 2021” الذي يصدره “المعهد الدولي للتنمية الإدارية IMD” السويسري وجامعة سنغافورة للتكنولوجيا والتصميم، وتمتاز هذه الدولة “المدينة” في جنوب شرقي آسيا بإدارة شؤونها باستعمال التكنولوجيا الحديثة، فبُناها التحتية تدار بشكل إلكتروني، كالشوارع التي لا تخلو من الحساسات والكاميرات، مما يساعد الحكومة على مراقبة كل شيء.

كما تجمع النفايات بواسطة أنظمة متطورة تعتمد على حاويات ذكية، وتدار آليات الصرف الصحي بشكل رقمي. وتوفر المدينة سيارات ذاتية القيادة تعمل على أرض الواقع كسيارات أجرة. وتتميز “سنغافورة” أيضا بالاستجابة الكبيرة للطلب على السكن، وتتولى الدولة بنفسها بناء المساكن بنسبة تصل إلى 80%.

 

وقد استطاعت مدن متوسطة الحجم -خصوصا في أوروبا وآسيا- احتلال المراتب العشرة الأولى بعد سنغافورة، مثل زيوريخ السويسرية، والعاصمة النرويجية أسلو، والعاصمة التايوانية تايبيه، وذلك لكفاءة العنصر البشري، ومستوى معيشة سكانها المرتفع.

ولعبت جائحة “كوفيد 19” دورا مهما في ترتيب سنة 2021، إذ أثبتت المدن الذكية كفاءة أفضل في توفير الخدمات لقاطنيها خلال فترات الحجر الصحي التام أو الجزئي، بفضل الخدمات الرقمية. وتفوقت هذه المدن في الحد من التواصل المباشر بين السكان، من خلال اعتماد التعليم عن بعد عوض المدارس، والعمل من المنزل دون التوجه للمكاتب، إضافة إلى سهولة التسوق الإلكتروني والدفع السريع والآمن.

دبي وأبو ظبي.. أذكى المدائن العربية تخوض المنافسة العالمية

ليست دول المنطقة العربية بمنأى عن هذا التوجه العالمي، فهناك عدة مدن عربية كبرى أصبحت تتبنى معايير المدن الذكية، وتحتل مراتب متقدمة في هذا المجال، ففي الإمارات تمكنت مدينتا أبوظبي ودبي من تحقيق الصدارة عربيا، وحجز مكانين ضمن أذكى 30 مدينة على مستوى العالم، وفق “مؤشر المدن الذكية” لسنة 2021، وقدم قاطنو أبو بوظبي ودبي تقييما إيجابيا في بحث المعهد السويسري (IMD)، خصوصا في ما يتعلق بتحسين التقنيات الذكية لجودة الحياة، وسلاسة الوصول إلى الخدمات الطبية والثقافية، وتسهيل الأعمال التجارية الجديدة.

دبي.. إحدى أذكى المدن العربية

 

وقفزت في الترتيب أيضا مدينة الرياض في السعودية التي أصبحت في 2021 تحتل المرتبة الثالثة عربيا، والثلاثين عالميا، تليها المدينة المنورة في المرتبة الرابعة. وخارج منطقة الخليج العربي نجد العاصمة المغربية الرباط التي حققت المركز الخامس عربيا، بينما فشلت الدار البيضاء في تحقيق ترتيب جيد، رغم رهان المسؤولين عليها لتصبح المدينة الأذكى في المغرب.

أما المرتبة السادسة عربيا فتحتلها العاصمة المصرية القاهرة، رغم كثافتها السكانية العالية التي تبقى أكبر عائق أمام تحسين الخدمات وجودة الحياة، وتسعى مصر الآن إلى توسيع استثماراتها في المدن الذكية من خلال إنشاء 13 مدينة ذكية جديدة، من بينها العاصمة الإدارية التي تعول عليها لتصبح مركزا للمال والأعمال، واستقطاب حوالي 7 ملايين نسمة في المرحلة الأولى من المشروع.

عالم الذكاء.. حين تمد التكنولوجيا يدها لمساعدة الإنسان

بغض النظر عن المشاكل التي ما زالت تتخبط فيها بعض مدن العالم، وحتى الذكية منها، فإن الدراسات تجمع على أن التوجه الحالي نحو المدن الذكية هو أول ملامح التحول نحو مدن المستقبل، فلا يمكن أن نتصور مدننا الحالية صامدة في وجه التطور الرقمي الرهيب، وانتشار إنترنت الأشياء والعالم الافتراضي.

وتلعب الهواتف الذكية دورا محوريا في هذا التحول، فمسؤولو المدن يعتمدون على انتشار هذه الأجهزة لتطوير خدمات المدن، والتواصل المباشر مع المواطنين، وإرسال جميع المعلومات المرتبطة بحالة المرور وأماكن الازدحام، وأداء جميع الفواتير والرسوم الضريبية، بالإضافة إلى الحصول على الإرشادات في حالة وقوع فيضانات أو زلازل أو انتشار للأوبئة.

 

 

وقد لعبت هذه الهواتف الذكية دورا حاسما خلال جائحة كوفيد 19، وساعدت المسؤولين في تطويق الفيروس المسبب للمرض، وساعدت بعد ذلك في تحديد الملقحين من غيرهم بواسطة رمز QR الذي يعرض على شاشة الهاتف قبل الولوج إلى عدد من المؤسسات والمراكز التجارية وغيرها.

وستتولى أيضا تقنيات الذكاء الاصطناعي إدارة مدن المستقبل، فقدرتها الكبيرة والسريعة على تحليل البيانات تساعد الحكومات المحلية على اتخاذ أنسب القرارات لتحسين حياة السكان في شتى المجالات، فإشارات المرور مثلا عندما تدار بتقنيات الذكاء الاصطناعي، تقلل من وقت التنقل بما يتراوح بين 10 إلى 50% مقارنة بالأنظمة التقليدية.

كما أن الإنسان لن يكون قادرا على معالجة وتحليل جميع الصور التي تلتقطها كاميرات المراقبة المنتشرة في كل مكان، وستتولى ذلك في المقابل تقنيات الذكاء الاصطناعي. وأظهرت أيضا هذه التقنيات الذكية كفاءتها في إدارة شبكات الطاقة والمياه، والكشف عن أي خلل أو تسرب بسرعة ودقة عالية.

سباق الاستثمار بين الإنسان والتكنولوجيا.. مراعاة الأولويات

لا شك أن التوجه الحالي نحو الاستثمار في المدن الذكية، سيخلق لنا عالمين يسيران بسرعة متفاوتة، فنجد المدن المتطورة التي توفر لقاطنيها كل سبل الراحة والأمان والتقدم، وهناك مدن أخرى تتخبط في مشاكل لا تعد ولا تحصى، فأحيانا لا تكفي الأموال لخلق الظروف المثلى لتطوير المدن الذكية، إذا لم تستعمل تلك الأموال والاستثمارات بطريقة ناجعة تراعي سياق كل مدينة والتحديات التي تواجهها، فلا يمكن مثلا الاستثمار في وسائل النقل الحديثة والمتطورة، دون وجود بيئة صحية للعيش والتعلم والعمل.

ويتطلب هذا التدرج بالاستثمار في التكنولوجيا مراعاة أولويات ساكني المدن، والإنصات لمتطلباتهم قبل الإقدام على أي مشاريع، فحجم الإنفاق على تكنولوجيا المدن الذكية في العالم سيبلغ 135 مليار دولار مع نهاية 2021، بعد أن كان هذا الرقم لا يتجاوز 80 مليار دولار سنة 2016، بحسب شركة الاستشارات “أي دي سي” للبيانات الدولية. ويتوقع أيضا أن ينمو حجم السوق الإجمالي لتقنيات المدن الذكية العالمي ليصل إلى 1.7 ترليون دولار بحلول العام 2023.

 

ويشير هذا التوجه إلى أن الأنظمة التكنولوجية ستصبح في المستقبل معيارا للمدن الذكية، على حساب الجانب الاجتماعي، وهو ما ستكون له انعكاسات على طريقة العيش في هذه المدن التي ستصبح مفرطة في النظام نتيجة المراقبة المكثفة بالكاميرات وأجهزة الاستشعار، وموغلة في الاستهلاك لسهولة اقتناء السلع عبر الإنترنت والأداء عن بعد، وهذه الأمور لا تحقق دائما القيمة لمن يعيش ويعمل في المدينة الذكية. فمحاولات الحد من التدهور البيئي والضغط السكاني من قبل صناع السياسات الحضرية، لا يجب أن تكون على حساب الحياة الاجتماعية للسكان، التي تعتبر الميزة الأساسية للجنس البشري.