بعلبك مدينة الشمس والأساطير.. حضارة نجت من طوفان نوح

مدينة عريقة ضاربة في عمق التاريخ، عرفت الحضارة منذ آلاف السنين، وتوالت عليها حقب وحضارات متنوعة، مما جعلها من أهم المدن السياحية والتاريخية في المشرق العربي.

إنها مدينة الشمس بعلبك التي رويت حولها الأساطير، وتميزت بآثارها ومعابدها القديمة وهياكلها الضخمة التي لا نظير لها.

في هذا الفيلم الذي تبثه الجزيرة الوثائقية نقترب أكثر من هذه المدينة الواقعة في قلب لبنان وفي سهل بقاعه، لنتعرف عليها أكثر، ولتفتح لنا أبوبها كنوزا تاريخية.

“أَتَدْعُونَ بَـعْـلاً”.. مدينة النبي إلياس عليه السلام

تأتي تسمية المدينة وفقا لكثير من المؤرخين من كلمتي بعل وبك، وبعل هو إله السوريين والكنعانيين، وبك تعني مدينة، أي أنها “مدينة بعل”.

يقول المؤرخ الدكتور حسن نصر الله إن بعلا ورد ذكره في القرآن الكريم في سورة الصافات، عندما كان نبي الله إلياس يمنعهم من عبادته، وقال لهم بحسب النص القرآني: “أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ”.

موقع مدينة بعلبك على الخريطة اللبنانية

وقد كثرت الأساطير عن الطريقة التي بنيت بها المدينة، وهذا يرجع لضخامة الأحجار التي استخدمت في بناء هياكلها، إذ يعتقد كثيرون أن بعلبك أول مدينة شيدت في الكون، ووفقا للرحالة بنجامين الطليطلي فقد “شيدها الشيطان أشموداي لقابيل بن آدم حين قتل أخاه، فقد أصابه وقتها الارتعاش، فشيدها له حتى لا يدركه الموت”، وأيد نظريته الأب هنري اليسوعي، وقال إن اسم أسموداي بالسين.

مدينة الشمس.. عشرة آلاف سنة من التعمير البشري

في الفترة الواقعة ما بين القرن السابع عشر والتاسع عشر ظهر العديد من اللوحات التي رسمت فيها مدينة بعلبك، وكانت لها شهرة واسعة في أوروبا وخاصة بين الطبقات الأرستقراطية.

يرتكز اكتشاف التاريخ القديم على الآثار الباقية من أدوات وقواقع ونقوش وعملات وغيرها، ومن خلال الأحافير في هذه المدينة التاريخية تبين أنها أقدم بكثير من العهد الروماني. ويقول الدليل السياحي شيربل صليبا إن معبد “هيليوبولس” أو إله الشمس يعود للفترة الإغريقية، وقد أطلق على بعلبك أيضا مدينة “هيليوبولس” أي مدينة الشمس.

مدينة بعلبك الأثرية.. عمرتها الأمم خلال عشرة آلاف سنة

وقد ظهرت تحت المعبد بقايا لمعبد أقدم، وهناك أيضا بقايا للفترة الكنعانية وما قبلها، أي أن الآثار الموجودة تدل على أن المدينة سُكنت وعُمرت قبل 10 آلاف سنة، كما يرى المؤرخ الدكتور حسن نصر الله أن الآثار في مغائر بعلبك ترجع للعصر الذراني أي قبل 6 آلاف سنة، وهذه الآثار عبارة عن أدوات مثل المناشير والمكاشط والسكاكين.

بعلبك القديمة.. هدية “يوليوس قيصر” لابنته

بعلبك القديمة ضمن السور الذي يحيط بها هي مدينة زاخرة بالآثار والفسيفساء، ولا يوجد محطّ قدم فيها إلا وفيه آثار قديمة، ويرجع السبب في توالي الحضارات على بعلبك لموقعها الحيوي في طريق القوافل ولكثرة المياه والينابيع فيها وخصوبة أرضها.

“يوليوس قيصر” أهدى المدينة لابنته “جوليا دومنا” وسُميت وقتها “هيليوبولس”

كانت بعلبك في المرحلة الرومانية مستعمرة، وكان سكانها يتمتعون بحقوق السكان في روما وعليهم نفس الواجبات، وأعطي لهم الحق في بناء المعابد، وقد أهدى “يوليوس قيصر” المدينة لابنته “جوليا دومنا” وسُميت وقتها “هيليوبولس جوليا دومنا كولني”، وقد صكت عملة تحت هذا الاسم.

في ذلك الوقت قرروا بناء معبد فوق معبد إغريقي، واستخدموا مهندسين ونحاتين محليين، وكان النحاتون يستوحون تماثيلهم من صور عشيقاتهم وينحتونها بالصخر على شكل آلهة أو أنصاف آلهة، لذا فقد تنوعت تلك التماثيل ولم تشبه بعضها.

مدينة المعابد.. عجائب الزمان العابرة للحضارات

توجد في بعلبك ثلاثة معابد تعد من عجائب الزمن القديم، وهي معبد “جوبيتر” أو المعبد الكبير، وهو معبد ضخم يحوي بهوا سداسي الشكل بتأثيرات شرقية واضحة، لكن لم يبق من المعبد سوى ستة أعمدة كورنثية (نسبة إلى مدينة كورنث اليونانية)، وعلى الرغم من تأثرهم بالحضارة الرومانية فإنهم استطاعوا ابتكار طرق لقطع الحجارة الضخمة ونقلها، فقد استخدموا في معبد “جوبيتر” 24 حجرا عظيم الحجم يزن كل واحد منهم 400 طن، بالإضافة لثلاثة قطع من الحجارة العملاقة التي تزن 800 طن، وهي قطع ضخمة جدا، لكنهم استطاعوا نقلها.

بنيت بعلبك من حجارة ضخمة يعتقد المؤخون أن حيوانات تفوق حجم الفيلة كانت تنقلها

نتيجة لذلك فقد كثرت الأساطير عن كيفية بناء بعلبك، ويقول العالم الروسي “لغرست”: إن بُناة بعلبك هم جماعات هبطت من الفضاء وبنوا الهياكل، وعلموا الإنسان كيفية البناء.

واعتقد البعض أن بعلبك شيدت قبل الطوفان، ودليلهم على ذلك أن تلك الجلاميد الصخرية التي بنيت منها الهياكل ومن بينها حجر الحُبلى كانت تنقل بواسطة البهمود، وهو نوع من الديناصورات يكبر حجمه حجم الفيل عشر مرات، إذ نقلت هذه الحجارة بواسطة هذا الحيوان، لكنه نفق بعد الطوفان لأن نوحا عليه السلام لم يستطع حمله على السفينة.

أما المعبد الثاني فهو معبد “باخوس” وهو من أكثر المعابد التي بقيت آثارا إلى يومنا هذا، كما أنه أكبر حجما من “البارثينون” في أثينا.

والمعبد الأخير هو معبد “فينوس المستدير”، وهي كوكب الزهرة أو آلهة الحب والجمال، ويأتي تصميمه غاية في الروعة والتفرد، وعلى الرغم من ضخامته فإنه لا يساوي نصف البهو في معبد جوبتير.

فاتنة إمبراطور ألمانيا.. أروع ما ترك الإنسان القديم

أما شهادة بعض المؤرخين وعلماء الآثار عن آثار بعلبك فهي أنها “ليست الأكروبوليس في أثينا ولا الكولوسيوم في إيطاليا، بل هي أروع ما ترك الإنسان القديم على سطح الغبراء، ليس لهم من الروعة ما لهياكل بعلبك من روعة ولا أستثني أهرامات مصر”.

وفي عهد قسطنطين تمتعت المدينة بسلطات دينية، وقد حول المعبد إلى كنيسة، أما في العصر الإسلامي فقد تحولت المعابد إلى قلعة ومركز عسكري.

بعلبك.. مدينة الجمال والمعابد

وقد رفع جنود المسلمين بعض الحجارة التي في وسط الحجارة الضخمة ليحفروا خندقا مائيا للدفاع عن القلعة، ورغم ضخامة تلك الحجارة فلا توجد بينها فراغات، حتى أن مياه الخندق لم تخترقها، وقد بنى المسلمون فيها سورا ضخما وحافظوا على العمارة الإسلامية وبنوا القناطر ومسجدا في الوسط بأعمدة مربعة الشكل، وتحوي المدينة على العديد من الآثار الإسلامية.

وتعتبر بعلبك محمية من الغزاة فهي بعيدة من البحر تحميها سلسلة جبال لبنان الغربية من غزاة البحر، وجبال لبنان الشرقية من غزاة الصحراء، لذا بقيت مدينة مزدهرة، ولم تتعرض للنهب أو السلب.

غيرت زيارة إمبراطور ألمانيا فيلهلم الثاني عام 1889 مجرى تاريخ بعلبك، فقد انبهر بجمالها وقرر ترميمها، وعند مجيئه أضيئت له عشرة آلاف فانوس في مرج رأس العين ونصبت له الخيام لعدة أيام، وعندما غادر المدينة أرسل بعثة ألمانية عام 1890 وقامت بالحفر والتنقيب مدة أربع سنوات، وقد أزالوا خلالها الرمال التي كانت بداخل المعابد واستخرجوا الكثير من الكنوز والتماثيل الذهبية والبرونزية والفضية، واستخدموا مئات العمال في ذلك.

“أجيء إليك كطفل”.. إلهام الشعر والموسيقى

يصف الشاعر والرسام محي الدين الجبي حبه لمدينته بعلبك، بقوله:

أجيء إليك كطفل أضاع تفاصيل أيامه في الزوايا الظليلة
أجيء إليك وقد أرهقتني خطايا وأعباء عمري الطويلة

ويقول أيضا:

على أسوارها زمني يموت
وتنحني الساعات فوق خرابها ورماد أحلامي

وقد غنى لها الفنانون اللبنانيون وعلى رأسهم فيروز حين قالت:

يا قلبي لا تتعب قلبك
بحبك على طول بحبك
بتروح كثير وبتغيب كثير
وبترجع عدراج بعلبلك

يا قلبي لا تتعب قلبك

ومن معالم بعلبك الطبيعية البارزة “مُغر الطحين”، وسميت بهذا الاسم لأنها كلسية ذات لون أبيض تشبه دقيق القمح، وقد حبا الله المدينة برأس العين وهي مرجة تتدفق من خلالها المياه، وتعتبر مقصدا للمتنزهين ومرتع الطفولة للكثيرين من أهلها.

أما محطة القطار في بعلبك فكانت توصل المدينة بأوروبا، مرورا بحمص وحلب كما أنها تصلها بالشام وبغداد وصولا للحجاز، وكان الناس يتنقلون بعربات الخيول داخل المدينة.

رقص السيوف.. دبكة الفارس الفلاح

تمتاز بعلبك بأعراسها ودبكتها ورقصات السيوف التي لا يتقنها غير أهلها، ويقول الفنان علي حليحل: تتميز بعلبك بتراثها الغنائي القديم الممتد لخمسة قرون، مثل أناشيد العرائس، أما بيئة الدبكة فهي الربابة والمجوز، وأما الدبكة العربية فجاءت من العراضات وهي أقدم الرقصات كعرض السيف.

دبكة السيوف البعلبكية أشهر دبكات الأعراس

كان الناس يمتزجون خلال أداء الدبكة ويقلد بعضهم بعضا بالحركات كالنقلات الجميلة والشمخة بالكتف والرأس، وتشبه الدبكة البعلبكية حركات الفروسية، وتجمع بين حركات الفلاحين وحركات الخيالة، وحركات مواسم الحصاد مثل حركة البداوي، وعلى الدبّيك (الراقص) أن يتقمص روح الماضي وعراقته.

كما خرّجت المدينة كثيرا من الشعراء والأدباء والعلماء والفقهاء، ويرى المؤرخ الدكتور حسن نصر الله أن هذا يدل على استمرارية الحضارة فيها وبقائها.

شبح الحرب الأهلية.. تعويذة بعلبك التي مسختها

مدينة بعلبك الحديثة بسيطة، فهي مكونة من ثلاثة أحياء: حي الريش والبرّانية والغفرة، وقد كانت في الماضي أحياء متواشجة وكان السوق يجمعها وبين أهلها علاقات طيبة، فلم يفرقهم اختلاف الدين.

ولم تشهد المدينة قبل الستينات حركة عمرانية ذات بال، وكانت الأرض تزرع بأشجار الحور والجوز، كما تزرع مساحة كبيرة بالقمح والشعير، أما البيوت فقد بنيت من الطين، وكانت تطلى في الأعياد باللونين الأبيض والأزرق.

بعلبك.. المدينة المطلة على جبل الشيخ وامتداد سكاني كبير يحيط بالآثار

قضت الحرب الأهلية في لبنان على كل شيء، وكانت تلك مصيبة بعلبك، حينها خرج الناس عن القانون ونزعوا للفوضى، وتفرقوا وهجر كثير منهم مدينة بعلبك، وبدأ البناء العشوائي الذي خطف من المدينة وجهها الجميل.

يقول الفنان محي الدين الجبي: بدأت الرسم وأنا ابن ست سنوات، وكان يشكل حيط الطين وتشققاته وتموجاته مصدر إلهام لي، كذلك خشب البيوت والأسطح والعليات والدروب والطرقات، كانت تلك البيوت عشقي ومصدر أماني من المدنية القادمة التي لم أستطع مواكبتها، وجاء البناء العشوائي وأضاع جماليات المكان.

مهرجان بعلبك الدولي.. عودة إلى أيام كوكب الشرق

بدأت فكرة المهرجانات في مدينة بعلبك مع الانتداب الفرنسي وكانت بشكل غير رسمي وبعد استقلال لبنان ظهر أول مهرجان في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي على أدراج بعلبك، ومنذ ذلك الوقت أصبحت مقصدا لمحبي الموسيقى والفن بأشكاله المتعددة، ويقام فيها مهرجان بعلبك الدولي وهو من أهم المهرجانات في العالم.

وقد شكلت المهرجانات جزءا من ذاكرة أهل المدينة الذين كانوا يحضرون العروض التحضيرية ويحفظون الأغاني قبل عرضها، ويتذكرون عمالقة الغناء عندما حضروا لتلك المدينة العريقة كسيدة الغناء العربي أم كلثوم، حينها وضعت السماعات في كل أرجاء المدينة في شوارعها وساحاتها ومقاهيها.

وقد كان صوتها يصدح حتى الساعات الأولى من الفجر، مذكرا أهل المدينة بتلك الأيام الجميلة الصافية ولياليها الطربية الساحرة عساها تعود.