تلمسان.. مدينة الأولياء وعاصمة ممالك المغرب الأوسط القديم

خاص-الوثائقية

تلمسان هي مدينة عريقة تقع في شمال غرب الجزائر، وهي ذات طبيعة أخّاذة وجمال فريد، ولها تاريخ قديم، وقد ازدهرت كعاصمة لممالك المغرب الأوسط لقرون عديدة، وذلك إبان أكثر من حقبة تاريخية مثل فترة حكم الزيانيين والمرينيين والمرابطين، وتأثرت كثيرا بالحضارة الأندلسية الإسلامية، وما تزال تحتفظ بالكثير من إرثها الثقافي والمعماري الأندلسي.

سوف تصحبنا فيروز ودان، وهي مرشدة سياحية وباحثة في تاريخ تلمسان، ومعها مجموعة من الشبان الجزائريين، في رحلة بالحافلة السياحية الخاصة للوقوف على المعالم التاريخية والأماكن التراثية وبعض اللوحات الثقافية في مدينة تلمسان العريقة، وسوف توثِّق وقائع هذه الرحلة في فيلم تعرضه قناة الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة حلقات “قلب مدينة” تحت عنوان “تلمسان الجزائر”.

 

تلمسان.. قبلة العاشقين وحاضرة المغرب الأوسط

هذه المدينة التي كتب عنها كل من زارها من الأدباء والشعراء والمؤرخين، ما تزال محط أنظار الزائرين، وقبلة العاشقين من أنحاء الجزائر والمغرب العربي الكبير، بل والسائحين من مختلف دول العالم؛ فتاريخها عريق وهواؤها عليل وطبيعتها فاتنة جميلة، وأهلها على قدر كبير من الطيبة والكرم والترحيب بالضيف.

كانت تلمسان تسمى قديماً “أغادير”، وهي لفظة أمازيغية تعني الينبوع الجاف، وقال بعضهم إن أغادير مشتقة من كلمة “الجدار” العربية، وهي إشارة إلى الجدار الذي ورد في قصة النبي موسى مع العبد الصالح في سورة الكهف. وما تزال “أغادير” اسما لحيّ كبير من أحياء مدينة تلمسان هذه الأيام.

تتوجه المجموعة السياحية بعد ذلك إلى مطبخ شهير في المدينة، حيث ستكون في انتظارهم الطباخة سارة العزون التي تقدم لهم مجموعة من أشهى الأطباق والطواجن التلمسانية. وفي الجولة أيضا سوف نلتقي مع الفنانة التلمسانية مريم بن علّال، لتشدو بصوتها الشجي مجموعة من الألحان الأندلسية التلمسانية.

السيد عبد الصمد كراوتي أحد الدرّازين (النساجين) المعدودين الباقين عبر أجيال تلمسان

 

الدرّاز.. أنامل من ذهب ترسم الحنبل

وستكون لهم محطة استراحة مع العم عبدالصمد “الدرّاز”، في سوق النسّاجين، حيث يحدثهم عن هذه المهنة التراثية القديمة، والتي ورثها عن آبائه وأجداده، وسوف يحدثهم عن صناعة “الحنبل” و”البورابح” وأشباهها من المنسوجات، وسوف يصف لهم تمسكه بهذه المهنة وإصراره على الحفاظ عليها من الاندثار، على الرغم من أن الكثيرين من أصحابها قد تركوها.

يذكر السيد عبد الصمد كراوتي أن عدد الدرّازين في تلمسان كان يفوق ألف درّاز، لم يبق منهم اليوم سوى عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وكانت منتوجاتهم تباع في العاصمة وفي كافة الولايات الجزائرية. ويذكر رفيق عمره أنه كان يجلب رسومات بعض المباني الرمزية في تلمسان وينسجها بطريقة احترافية على الحنبل ما يذهل الزبائن من دقة الصنعة وجمال النقش.

ويقول عبد الصمد: “إن “الحنبل” كان يعد من المكونات الأساسية في جهاز العروس، حتى أنها لا تخرج من بيت أهلها بدونه، ولكن مع الأسف فقد اختفت هذه العادات من مراسم الأعراس هذه الأيام”.

قصي زاوي مصور وباحث في تراث تلمسان، يحتفظ بالمدينة في ذاكرة حوالي نصف مليون صورة

 

أرشيف تلمسان البصري.. جسور تربط الحاضر بالماضي

يحاول المصور والباحث في تراث تلمسان الدكتور قصي زاوي أن يحتفظ بالمدينة في ذاكرة الأجيال القادمة من خلال مئات آلاف الصور التي التقطها بكاميرته، وغيرها من الصور الكثيرة التي حصل عليها من مجموعات أرشيف مختلفة في فترة الاستعمار الفرنسي للمدينة.

يحدثنا قصي عن صورة التقطت لمنطقة القلعة في عام 1854، من على هضبة “لالسي”، وهي تطل على منظر عام للمدينة يستطيع الناظر من خلالها أن يرى حجم التطور العمراني الهائل الذي طرأ على المدينة منذ ذلك التاريخ. يظهر في الصورة المسجد الكبير وبعض ثكنات الجيش الفرنسي المحتل، وأسوار تلمسان القديمة.

يحتوي أرشيف الدكتور قصي على ما مجموعه نصف مليون صورة ذات جودة عالية، إضافة إلى مجموعة من الكتب القيمة التي تحكي تاريخ تلمسان، ويرصد من خلال الصورة القديمة ومثيلاتها من الصور الحديثة مراحل الترميم التي مرت بها بعض المعالم التاريخية في المدينة مثل بوابة الخميس وجامع سيدي الحلوي من العهد الماريني، وهي صور نادرة تم التقاطها عام 1860.

والدكتور قصي مثل غيره من شبان تلمسان الحريصين على تراثها ومقدراتها، فهو يحتفظ بالصور كأرشيف لكل الجزائريين، ويحرص على عدم ضياع هذه الصور، فكل صورة تضيع عبارة عن جسرٍ من التاريخ يتهدم بين الماضي والحاضر.

تلمسان تشتهر بحلوى الكعك، الذي يقدم في كل المناسبات الدينية والاجتماعية والأعراس

 

فرّان تلمسان.. رائحة الكعك الذكية العابرة للقرون

ستكون للمجموعة فرصة نادرة ليعرِّجوا على “فرّان” أحد الأحياء العتيقة في تلمسان، ويتحدث صاحب المخبز يحيى سلاهمي عن طقوس التلمسانيين في أنواع الخبز التي يفضلونها في الوجبات المختلفة، وأنهم ما زالوا يفضلون التوجه إلى الأفران التقليدية لتحضير الخبز وصناعة الكعك التلمساني الأصيل الذي لا تخلو منه أي مناسبة دينية أو اجتماعية.

يقول السلاهمي وعمره الآن 73 عاما: قضيت أكثر من 60 عاما في هذه المهنة، وعاصرت الاحتلال الفرنسي وبواكير ثورة التحرير وأعراس الاستقلال، وكنت وما زلت أخبز لأبناء تلمسان.

تشتهر تلمسان بحلوى الكعك الذي يقدم في كل المناسبات الدينية والاجتماعية والأعراس، وبالأخص في رمضان وعيد الفطر، ويقال إن أهل تلمسان أثناء حصار المرينيين الذي دام ثماني سنوات كانوا يقتاتون على الكعك الذي يصنعونه محليا، ويخزّنونه إلى مدد طويلة تتراوح بين أربع إلى خمس سنوات.

وتحرص الأمهات حتى وقتنا الحاضر على إعداد الكعك وتعليم بناتهن طريقة تحضيره، ويحلو مذاقه الشهي مع تقديم القهوة في ليالي السمر، ويقترن حضور الكعك بحضور البهجة والفرح الذي يعم الكبار والصغار على حد سواء.

تلّة العُبّادحيث ضريح سيدي بومدين، ويقال إن مقام النبي شعيب موجود على هذه الربوة

 

تلة العُبّاد.. معراج صلوات الأولياء إلى السماء

هناك على ربوة مطلة على المدينة، تتناثر عليها أضرحة الصالحين، ويسمونها تلّة العُبّاد، ومنها ضريح سيدي بومدين، ويقال إن مقاما للنبي شعيب موجود على هذه الربوة، ومن هنا قد يكون جاء لقب بومدين، وقد كان العابدون يختارون الأماكن العالية طلبا للصفاء الروحي بعيدا عن ضوضاء المدينة.

ثم يتوجه الفوج السياحي إلى مغارة بني عاد”، وهي مغارة طبيعية عجيبة لم تعبث بها يد إنسان، وتتميز بالرواسب الكلسية “الصاعدة والنازلة”، وقد كانت أشكال هذه الرسوبيات ملهمة لكثير من الفنانين العالمين في لوحاتهم ومنحوتاتهم. ويقال إن أجود أنواع الرخام العالمي يستخرج من هذه المغارة وما جاورها من أراضي تلمسان، وقد جرى استخدامه في الكثير من المباني العالمية الشهيرة.

يوجد في تلمسان عدد من الجمعيات الثقافية التي تهتم بالحفاظ على الموروث الثقافي التلمساني وإحياء تراث المدينة العريق، فهناك الرسامون الذين يرسمون طرقات المدينة القديمة وأزقتها، وهناك الملحنّون الذين يحافظون على موسيقاها الأندلسية القديمة، والمعماريون الذين يسعون إلى ترميم المباني القديمة والحفاظ عليها من الهدم.

مدينة ندرومة مشهورة بالطاجين التلمساني ذي المذاق الرائع

 

ندرومة.. أخت تلمسان الكبرى

مدينة ندرومة هي مدينة في ضواحي تلمسان لها تقاليدها الخاصة، وقد مر عليها العديد من الحضارات، وتقول كتب التاريخ إنها تأسست قبل تلمسان، وقد قصدتها الطبّاخة سارة العزون من أجل الحصول على الأواني الفخارية المصنوعة من الطين الصلصالي، فهذه المنطقة مشهورة بهذه الصنعة التقليدية المتوارثة، وتستخدم هذه الأواني في إعداد الطواجن والشوربات التلمسانية المشهورة.

حان الآن موعد الغداء، حيث ستتوجه حافلة السياح إلى منطقة الكيفان، لتستقبلهم مضيفتهم سارة العزون في مطعمها العائلي الذي يتخذ من منزل المرحوم عمر الخيام مقراً له، وتحرص سارة على تقديم الأطباق التلمسانية التقليدية كالحريرة والطواجن بأنواعها، إضافة إلى البوراك والبسطيلة.

وها هو الفريق الآن بعد رحلة طويلة في أرجاء المدينة وضواحيها، يستمتع بالمقبلات الشهية من شربة الحريرة إلى البوراك، بينما تنهمك سارة ومساعدوها في تقديم أنواع الطواجن الشهية على المائدة، فمن طاجين الزيتون إلى طاجين المحمَّر إلى طواجن الكبدة والكفتة الشهية.

غناء على الطراز الأندلسي القديم، ترافقها آلات العزف التقليدية

 

وجبة غداء وأنغام أندلسية.. غذاء الجسد والروح

تعكف مريم بن علال على إخراج أغنية أندلسية من اللون “الحوزي” تتغنى من خلالها بتراث تلمسان وتاريخها الجهادي في الصراع مع المحتل، وسوف ترى من خلال هذه الأغنية مدينتها الحبيبة بعينيّ طائر الحمام (القمريّ) وهو يحلق عاليا في أجواء تلمسان. وجاء لفظ “الحوزي” من الأصل العربي “الحوزة” وهي ترمز إلى المجاهدين الذين يتمركزون على الأسوار ويدافعون عن حوزة المدينة وأهلها ودينها.

وتصطبغ مظاهر الثقافة التلمسانية باللون الديني الإسلامي غالبا، فبالإضافة إلى أن المدينة كانت عاصمة لممالك إسلامية متعددة، وإلى كونها انعكاسا لحضارة الأندلس على الحافة الأخرى من البحر المتوسط، فإن كثرة العبّاد والزهاد فيها وأضرحة الأولياء والصالحين من أعيان الطرق الصوفية العديدة قد أعطى للمدينة ثوبا دينيا باهيا.

وبعد الاستمتاع بوجبة غداء دسمة ولذيذة، سيكون موعد المجموعة مع الفنانة مريم علال التي أعدت لهم أغنية من الطراز الأندلسي القديم، وترافقها آلات العزف التقليدية، وعلى تلك الأنغام الشذية يتناول الحاضرون الكعك التلمساني.