حارس الذاكرة.. المُهمة الصعبة لحماية حق العودة

مهمته أن يجمع بعض شتات الشعب الفلسطيني بأرضه التي اغتصبت عام 1948، يعيد للمكان ذاكرته بالرغم من عقود مضت على تهجير الفلسطينين واقتلاعهم من أرضهم عنوة.

“لمّ الشتات ولو رمزيا” شعار يحمله الباحث المقدسي طارق البكري، فهو حارس للذاكرة نعايش في جعبته الكثير من قصص الشتات وقصص علاقة الفلسطينيين بتثبيت حقهم في أرضهم رغم بعدهم عنها.

تبقى فلسطين حلما يكبر في صدر كل فلسطيني والحنين للعودة حق لا يسقط بالتقادم، فهو شوق يحمل كل فلسطيني للعودة إلى الجذور للأرض للكينونة.
لم تفقد الهوية رغم شتات الملايين عن أرضهم، أجيال وُلدت وعاشت خارج فلسطين لكن حب الوطن والأرض مغروس فيهم منذ الطفولة، ولا يزال بعضهم يحملون مفاتيح بيوتهم و”كواشين” الأرض التي تثبت حق الملكية، بعضهم يحمل خريطة لبيته، والبعض الآخر صورة في جيبه، وكثيرون يحملون ذاكرة خُطّت في عقولهم.
في هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية، وبثّته تحت عنوان “حارس الذاكرة” يقوم المهندس الشاب طارق البكري باصطحاب عدد من اللاجئين الفلسطينيين من الضفة الغربية أو من الشتات، لزيارة قُراهم التي رحّلهم عنها الاحتلال الإسرائيلي عام 1948.

في بيت نبالا عِشق أبدي

يوثق الفيلم عددا من قصص العائدين إلى ديارهم التي ارتبطوا بها كأنهم جزء من جسد واحد. السيدة حليمة الطاعنة بالسن، رسمت السّنون خطوطا على مُحياها، بجسدها النحيل الذي أحنته ثقل الأيام.
كانت تتحدث عن قريتها بيت نبالا بفرح طفولي وشوق وحماسة، كلماتها البسيطة نقلت مشاعر فيّاضة عن التعلق بالمكان، تقطع السيارة المسافات بين قرى فلسطينية، على جنبات الطريق كان الربيع يكسو المكان بحُلى خضراء لتزيد الجمال جمالا.
تحمل حليمة في جيبها أكياسا بلاستيكية، فهي ستملأها من تراب أرض أبيها في القرية، فهذا تقليد دارج يقوم به أي فلسطيني يتمكن من زيارة أرضه ووطنه.
تصل السيارة لبيت نبالا التي أصبح اسمها “بيت نحميا” بالعبرية كجزء من مخطط لطمس هوية المكان، تخرج حليمة من السيارة كطفلة صغيرة تبدأ بإلتقاط أزهار برية كالحنّون والأقحوان، وتشير لزيتونات زرَعها والدها، وتقول بملء فمها هذه أرض أبي وأجدادي، هنا تعبوا وكدّوا لزراعة تلك الأشجار.

الحاجة حليمة .. تجمع أعشابا وأزهارا من أرض آبائها في قرية بيت نبالا لتزرعها في حديقة بيتها في المهجر

تستنشق حليمة رائحة الأرض التي تصفها بأنها كالمسك، تجلس وتتحدث عن يوم خروجهم من القرية، حيث خرجوا في أول يوم من أيام رمضان المبارك، إنها سَردية موجعة يرويها الكثير من الفسطينيين الذي ذاقوا عذابات تلك الأيام.
حملت حليمة بعض قطع الخبز مع حبات الزيتون وبعض ثمار البندورة للتمكن من تناول وجبة على أرضها، بقي أبناء تلك الأرض أوفياء لها حتى بوجباتهم، فهي رمزيات تدل على من أين أتوا؟ فهم فلاحون بسطاء يأكلون من الأرض ويعيشون لأجلها.
تعبّىء حليمة أكياسها بحفنات من تراب، وتعود لبيتها وتزرع بعض شتول النعناع لتبقى تذكرها برائحة بلدتها بيت نبالا كلما تناولت الشاي مع عائلتها وأحبابها.

من السويد إلى الغابسية

يقوم طارق باستقبال السيدة فاديا وأطفالها الستة، فقد هجرت لمخيم عين الحلوة في لبنان، بعد ذلك حصلت على الجنسية السويدية، التي مكنتها من زيارة أرضها.
بدى التأثر واضحا على فاديا التي لم تتمكن من صدّ دموعها أثناء رحلتها بالسيارة لقريتها الغابسية، وها هي تُقبّل صورة لوالدها تحملها بيدها، وتقول “رحمة الله عليك يا والدي لقد متّ بالغربة”.

السيدة فاديا.. مغتربة فلسطينية في السويد تزور قريتها الغابسية في عمق فلسطين

كأي أم فلسطينية، تُحدّث فاديا أولادها دائما عن فلسطين وعن قريتهم الغابسية تحديدا، وتوصيهم دائما بأن لا ينسوا ذلك الاسم، في المقابل يعبر الأطفال بعفوية عن حبهم  لفلسطين وفخرهم بأنهم جاءوا من هنا من تلك الأرض، يحمل أحد سكان القرية خارطة تثبت أن هذه البقعة من الأرض تعود لوالد فاديا.

في عكا قاهرة نابليون

أما ماهر الفلسطيني، من عكا تلك المدينة الحصينة قاهرة نابليون بأسوارها وبحرها وزقاقها وبيوتها الحجرية الجميلة، في جيبه يحمل خريطة رسمها عمّه البالغ من العمر 96 عاما لبيت جده وأعمامه، ويحمل صورة بالأبيض والأسود لبيت حجري كبير.
وُلد ماهر في مخيم اليرموك قرب العاصمة السورية دمشق، وقد طلب من مضيفه طارق البكري أن يبحث له عن البيت، فلديه الكثير من المعلومات عنه، كان مشدودا طوال الطريق، فليس سهلا على الإنسان أن يعود لبيته بعد تلك السنين، والأصعب من ذلك أن يكتفي بالوقوف على أسواره دون أن يُسمح له بالدخول، فقد احتله غرباء.

قلعة عكا.. صمود مهما طال عمر الاحتلال

وقف ماهر بجانب الصور تغلبه الدموع، يقول نعم هو بيتنا لكن الحديقة اجتُزت وتحولّت لمبان سكنية، أما البيت العائد لآل شمّه، فتقول السيدة أم إيهاب وهي إحدى الجارات، إنه بعد خروجهم منه سكنه يهود في البداية، ثم باعوه للحكومة الإسرائيلية وأصبح ملكا لوزارة المعارف الإسرائيلية التي حولته لحضانة أطفال. وتكمل أم إيهاب القصة وتتحدث عن كيف أنهم كانوا صغارا وهربوا في الحرب لبيت جدّها من هذا الحي، الذي استولى عليه المحتل.

أما زينة التي كانت تتواصل مع ماهر، فهي من عكا أيضا، وقد أصرّت على طارق أن يبحث لها عن بيتها، فقد هاجر والدها مع عائلته وهي في عمر ست سنوات إلى مخيم  برج البراجنة في لبنان، بعد ذلك انتقلوا إلى كندا.
كانت من الجيل الثالث لعائلتها في المهجر، لم تكن تمتلك أية معلومات سوى بعض الذاكرة عند والدها، لكن إصرارها وشوقها حملاها إلى عكا، أتت زينة برفقة زوجها، لقد كانت مأخوذة بالكامل عندما دخلت مدينتها، مشاعر مختلطة بين الحب والحزن والفرح والغضب، هي الأولى من عائلتها الكبيرة تدخل عكا بعد الخروج منها.

زينة لاجئة بين لبنان وكندا تعود لتُزف زفة تراثية في حارات مدينة عكا بفلسطين

زينة تشعر بأن قلبها سيتوقف من تلك المشاعر المتداخلة، وهي تحاول الاتصال بوالدها الذي لم يكن يعلم بقدومها، تقول له انظر يا أبي، أنا أمام جامع الجزّار، وخلفي سجن عكا، فيصفها والدها بالبطلة.
بعد ذلك ترتدي زينة عباءة تعود لجدتها أهدتها لها والدتها، وطلبت زينة أن تّزف في حارة الرّمل وزقاقها بعرس تقليدي وأغان فلكلورية، ها قد تحقق حلمها، فعندما تزوجت في أستراليا لم تجد فرقة شعبية لإحياء العرس، وقد تعرفت على أقاربها الذين احتضنوها.
بعد أربعة أشهر من قدومها الأول، تعود زينة مرة أخرى لكن هذه المرة برفقة والدها، ينتظرهم طارق عند المعبر، وبعد طول انتظار تخرج زينه وأبوها وزوجها ليتوجهوا جميعا إلى مدينة عكا.

سبعون عاما من الاغتراب

بعد أكثر من سبعين عاما يعود الأب إلى عكا، تغلبه دموعه ويبدأ بالبكاء، فرائحة الأماكن لها ذاكرة، لقد كان طفلا عندما هاجر عند دخول المحتل لعكا.
يتذكر الأب البحر، لقد كان بيته في زقاق عكا، ساحة البيت والبركة وشجرة الياسمين حيث كان يلعب، يقول “كان والدي يتوقع عودتنا بعد ستة أشهر، هذا ما توقعه الكثير من الفلسطينيين، لكن الخيبات تتالت”.

ماهر.. ابن مخيم اليرموك في سوريا يُحدّث أبناءه عن بيته وذكرياته في مدينة عكا

هناك التقي الرجل بأقربائه وتعرف على بيته الذي أصبح الطابق السفلي منه كجزء من السوق، والطابق الثاني من البيت كان مهجورا، لكن الأب فرح بما يرى، كل ذلك كان يعبّر عن جمال مدينة عكا وعن أمنياته بالرجوع والاستقرار فيها.
تجول الأب في عكا، وتفاجأ أنه وجد الكثير من أقاربه الذين لم يكن يعلم بوجودهم، تقول زينه إن الناس هنا يشبهونها وإنها جزء من المكان كالحجارة، لقد كانت متأثرة وبكت كثيرا، هي لا تريد العودة إلى المهجر، وترفض هذا المصير.
تقول زينة إنها تستطيع العيش في أي مكان بجوازها الكندي، لكن عكا لا تستطيع المكوث فيها إلا كسائحة، وتتسأل بمرارة لماذا يا جدي تركت عكا فأنا أريد البقاء هنا؟

على مشارف القدس

أم محمد سيدة أخرى من قرية لفتا قرب القدس، يساعدها طارق بالوصول إلى قريتها، وعند دخولها القرية تبدأ بتقبيل أسوارها وأحجارها وترابها، وتصطحب أم محمد بناتها وتبدأ تشرح عن قريتها، استطاعت أن تتعرف على بيت زوجها الذي كان مهجورا قبل ثلاثين عاما، أما الآن فسيكنه إسرائيليون.
كان المكان جميلا بخضرته والأبنية الحجرية القديمة، تقول ام محمد هذه الأروقه بُنيت باليد، وكانت تعرف حدود الأراضي والقرى بأشجار الصبر التي تزرع على الحدود.

كثيرة هي بيوت الفلسطينيين التي لا تزال قائمة في أماكنها لكن سكانها يهود مغتصبون

أمنيات ودعوات وصلوات تسكن أفئدة الفلسطينيين وتنطق بها ألسنتهم ليعودوا لأرضهم التي لا يعدلها شيء، فقضيّتهم هي الأعدل لشعب بسيط أعزل شُتّت من بلاده، لكنه رغم ذلك مؤمن بقضيّته وحقّه ووعد السماء.