حرائق فرنسا.. جيش الإطفاء في مواجهة موسم الخريف الجاف

خاص-الوثائقية

شاحنات وطائرات ومئات الرجال يجيئون ويذهبون. ولكن الخطر لم يحدث بعد، فهذه مجرد استعدادات في منطقة بروفونس الفرنسية الأكثر جفافا وتعرضا للشمس في فصل الصيف. يوما بعد يوم يتعرض توازن هذه التضاريس الخلابة للخطر بسبب الحرائق، سواء كانت طبيعية أو مفتعلة. وقد وضع رجال الإطفاء نظاما متطورا لمحاربة النيران، ووضعت سيارات الإطفاء في كل منطقة حساسة، والفرق مستعدة للتصرف بمجرد حلول الصيف.

 

على مدى عشر سنوات لم تحدث فعليا أي حرائق كبيرة، لكنها الآن عادت للاشتعال، وقبل ثلاثة أشهر من اندلاعها يخرج رجال الإطفاء من الشتاء الطويل ويبدؤون بالتدريب المكثف برا وبحرا وجوا.

تحكي سلسلة “في قلب الخطر” التي تبثها الجزيرة الوثائقية قصة مكافحة حرائق الغابات، وهذه الحلقة التي تحمل عنوان “البداية” تسلط الضوء على تدريبات تقوم بها طواقم الإطفاء استعدادا لموسم الصيف المشتعل.

الحرائق الوهمية.. تدريبات ما قبل الكارثة

بـ300 رجل إطفاء و50 تدخلا يوميا، تعتبر محطة آكس آنبروفانس الأكبر في الدائرة، وهي تستعد في هذا الصباح لأول اختبار ميداني شامل، وبافتراض حريق بالتلال الشمالية الشرقية في آكس، فيجب على المقدم “آليان فونتيرز” أن يحدد وضع رجاله وآلياته في هذه المغامرة ذات الأبعاد الحقيقية، في تلّ مغطى بأشجار الصنوبر الحلبي ومحاط بمنازل ذات أشجار.

يجب أخذ الحالة الجوية بعين الاعتبار، فالرياح الشمالية تهب بسرعة 30 ميل/ساعة، لقد شبَّ حريق (وهمي) للتو في فينيل، وعلى الفور تحركت المركبات الخفيفة وشاحنات الحريق المناسبة لجميع التضاريس، وطاقم مدرّب على التضاريس الوعرة والمنحدرة بقيادة “فابريس موسيه”.

تبلغ حمولة أكبر شاحنة إطفاء إلى 3500 غالون ماء

 

انتشر الحريق على شكل مخروط، وابتعدت النيران عن نقطة البداية مبتلعة المواد القابلة للاشتعال وصار أكبر فأكبر، لهذا يحرص الرجال على إطفاء الحرائق في بدايتها لتخفيف الضرر. وقد أنشئ مركز متنقل للتحكم بالعملية، وهنا يأتي صوت “موسيه”: أبقوا السكان محتجزين، لن نقوم بالإخلاء.

تتحرك أكبر شاحنة للإطفاء، تصل حمولتها إلى 3500 غالون ماء، ولكنها ستواجه معاناة بسبب وعورة الطريق، وعند وصول المنطقة يعتذر مسؤول السيارات الكبيرة أنها لن تستطيع السير في هذه الطرق الضيقة الوعرة، ويتوجب عليها الالتفاف إلى منطقة مرتفعة لمواجهة جبهة الحريق.

بو.. حريق غير متوقع في بداية الربيع

ها هي ذي مشكلة أخرى تواجه الفريق، فلقد انقطع الاتصال بين الجناح الأيمن والجناح الأيسر على جانبي الحريق، ولم تباشر بعد أي شاحنة بإطلاق الماء على الحريق المتخيَّل، ولكن يبدو أن الخيال قد أصبح حقيقة الآن، فهنالك بلاغٌ عن حريق حقيقي في المنطقة، ولذا توقفت عملية المحاكاة، وتوجه الجميع إلى جبال سامبو، فقد انتشر الحريق في أكثر من اتجاه لأن الرياح تتغير.

توجد منطقة العمليات في وادٍ منحدر يحاذي الجبال الحرجية، وهنالك منزل يحتوي على أغصان جافة، لقد احترقت 3000 قدم مربعة في أقل من ساعة، حيث نشأت المشكلة من وجود رياح شرقية قوية تؤجج الحريق، والتلّ شديد الانحدار يعوق وصول الشاحنات، ولذا وصل رجال الحريق راجلين، يحملون الخراطيم والمضخات على ظهورهم.

تستطيع طائرات الإطفاء عمل مناورة في البحر لملء خزاناتها

 

يبلغ طول بعض الخراطيم 5000 قدم، وتُغطّى بها مناطق واسعة قلّما تتمتع بها الدوائر الأخرى، إنها حيلة فعالة لكن تطبيقها يستغرق وقتا. ولذا طلب “فونتير” تدخُّل طائرة “كانادير” لمكافحة الحرائق، وذلك لتوفير وقت الرجال على الأرض.

تلقّى الطيّاران “بيير” و”جان مارك” النداء في قاعدة “مارينيان” الجوية، فاستقلا طائرتهما وقاما بتعبئتها بالماء من بركة “بير” المجاورة، وتوجها إلى منطقة الحريق في أوريول، وكان لتدخّل الطائرة دور في إيقاف الحريق بالرغم من الرياح والمطبات الهوائية التي أعاقت دقة التصويب.

كان الحريق بدأ بالتهام الأشياء حول المنزل، ولكنْ تمكن الفريق من الجو والأرض من إطفاء الحريق، كان الوقت بداية الربيع وهو وقتٌ لم يعتدْ عليه الطاقم، وقد شبّ الحريق من منزل على أحد التلال، واشتعلت خمسة أفدنة من غابات الصنوبر، كانت الأضرار طفيفة، وكان الرجال قد أُخِذوا على حين غرة، لكن الدعم الجوي خفف من حدة المفاجأة.

مثبطات الحرائق.. ترسانة السلاح الجوي المتطورة

ليست طائرة “كانادير” هي الوحيدة لدى الفرقة، بل تساندها الجيب الجوية “إس2 تراكر” (S2F Tracker)، وهي طائرة حربية بحرية، استخدمتها القوات الأمريكية في الخمسينات لتعقب الغواصات والهبوط على حاملات الطائرات، وقد أعيد تأهيلها بخزانات تتسع لـ3.5 طن من مثبطات الحرائق ومحرك بقوة 1500 حصان وخزانات إضافية للوقود.

خلال الصيف تحلق طائرة التعقب في دوريات جوية جاهزة للتدخل فوق منطقة بروفانس، في مناوبات تستمر لساعتين ونصف، وتكون هي الأولى في منطقة الحريق لحظة حدوثه، وتفرغ حمولتها من مثبطات الحريق وتعود للتزود من قاعدة جوية متخصصة، ومثبط الحرائق هو خليط من الماء والطين والفوسفات وأوكسيد الحديد، وتُرشّ على الغطاء النباتي على شكل قمع قبل وصول الحريق إليه.

طائرات الإطفاء ترش المواد المثبطة للحرائق على شكل مخروط يمنع تقدم النيران

 

تضم القوات الجوية أيضا “داش8” وهي طائرة متوسطة المدى تحمل 60 شخصا في الإسعافات الأولية أو 10 أطنان من مثبطات الحريق، وهي تجوب الأجواء وتكبح الحرائق.

وقبل موسم الجفاف يتدرب الطيارون بشكل مكثف، مثل الفريق الأرضي الذي ينفذ برامج محاكاة الحرائق، وفي مدرسة الإطفاء نموذج محاكاة كبير لحريق غابة، بوضع غازٍ يشعل النار بالأشجار المعدنية المزيفة.

“أحب هذه الأجواء”.. متطوعون في مواجهة النيران

هذه “ليا” ذات الـ26 ربيعا، وهي متدربة جديدة في فريق الإطفاء. يتضمن تدريب اليوم سحب خرطوم ثقيل لإطفاء النيران على ارتفاع 65 قدما، ومهمة “ليا” أنها الفرد الثاني الذي يحمل الخرطوم خلف الفرد الرئيسي الذي يحمل الفوهة ويوجهها إلى مصدر النار، لتندفع المياه بسرعة 125 لترا/دقيقة. تقول “ليا”: الأمر لا يخلو من الصعوبة، والمشاعر مختلطة، ولكنني أحب هذه الأجواء.

النار تزداد اشتعالا والخرطوم يقصر عن المسافة المطلوبة، وتسرع “ليا” لإحضار ملحق للخرطوم، إنها تحمل على كتفيها وزن 30 كغم بالإضافة لزيها الذي يبلغ 10 كغم. لقد أُطفئ الحريق وتمت العملية بنجاح. تبدو “ليا” مرهقة، ولكن مناوبتها في محطة الإطفاء ستبدأ الآن في مركز خدمات الطوارئ في قرية “لوين”، وفيها عدد من متطوعي الإطفاء، وبالقرب منها منطقة صناعية.

المكان هادئ ليلا، يعمل ستة أشخاص بالليل وعشرة بالنهار، وقد يصل إلى 14 شخصا في حال وجود حريق في الغابة. تجيب “ليا” على نداءات الاستغاثة وتتابع سير سيارات الإطفاء والإسعاف التي تنطلق في عمليات التدخل.

“ليا” إحدى المتدربات وهاويات مكافحة الحرائق

 

وتقول الشابة “ليا”: جربت عمل الإطفاء كمتطوعة، قد يعجبني الأمر وأتقدم لامتحان لأصبح ضابطة إطفاء، البيئة محددة هنا، يعجبني التسلسل الوظيفي والأدوار المحددة، لا شيء متروك للفوضى.

تنقسم الحياة اليومية إلى نشاطات متتالية ثابتة، تحية العلم وتوزيع المهام والتدريب الرياضي، وفجأة يأتي نداء يقطع تدريباتهم، ويغادر الفريق المناوب لأداء مهمة في البلدة، بينما يستمر الآخرون في التدريب، مدة 20 دقيقة بين كل عمليتيْ تدخل.

تعمل “ليا” في مجال التسويق بينما يعمل زميلها “سباستيان” كمراقب جوي، ويقضيان أيام فراغهما في مركز لوين للطوارئ. لم يتعرضا بعد لحريق حقيقي كبير، ولكن “ليا” متلهفة لهذه الفرصة، وتعوّل على هذا الموسم لتزداد خبرتها كإطفائية، ولكن ما زال أمام المتدربين وقت طويل ليتقنوا الأعمال التي سيقومون بها عندما يتعرضون لاختبار حقيقي، بما يضمن المحافظة على البيئة وأرواح الناس.

من فوائد التدريب.. الوقوف على الأخطاء

القاعدة أنه كلما زادت درجات الحرارة زاد الضغط على الضباط ورجال الإطفاء. في هذه الليلة امتلأت محطة روك دانتيرو للإطفاء بالضباط ليتلقوا معلومات كاملة حول تدريب شامل على نموذج لحريق حرجي. يقول “جان بيير سكيلاري” رئيس الفريق الخاص في وحدة حرائق الغابات: كان والدي رجل إطفاء في أوباني، وكنت أقضي معه وقتا طويلا في عمله، وحين بلغت 16 عاما سجّلت كإطفائي متطوع.

ما زال “سكيلاري” قلقا، فالقوات ليست مستعدة، حتى لو كان الأمر مجرد محاكاة، فقد واجه الإطفائيون كثيرا من المشاكل في التلال اليوم، 40 إطفائيا في 3 مجموعات، وسيارات إطفاء ومركبات خفيفة، ومروحية وطائرة تعقب لإطفاء حريق وهمي، وقد قسّم الرئيس التمرين بشكل ممنهج كما في عملية التدخل الحقيقية، ووزّعت القوات في الميدان، ونُسق كل شيء من مركز العمليات المتنقل.

مركز “جرانبويش” للتحكم ومراقبة الحرائق على ارتفاع 2500 قدم على جبال إيتوال

 

لم يجر كل شيء على ما يرام، فقد كان البث الإذاعي على التل سيئا، وكان الاتصال بين الأفراد ضعيفا، ولكن أيا ما كانت المصاعب فقد كان التمرين جيدا في توجيه الطائرات لإفراغ حمولتها في المكان المناسب. ثم اجتمع “سكيلاري” مع الطاقم لمراجعة الأخطاء ومحاولة تصحيحها.

يؤمن “سكيلاري” بوجود الفريق في الموقع ومواجهة الخطر عن قرب، والتدريب الرياضي الشاق للبقاء على أهبة الاستعداد.

تنتشر مراكز التحكم على التلال في بوشديرون، وأهمها مركز جرانبويش بارتفاع 2500 قدم على جبال إيتوال، من هناك يستطيع “يانيك فورنو” مراقبة المنطقة كلها، حيث دأب منذ 20 عاما على قضاء أربعة أشهر الصيف سنويا هنا، لوحده أو مع عائلته. وهو يقول: لا تزال لدي صور عن حرائق في هذه المنطقة منذ 1944، يومها لم تكن المنازل كثيرة، أما اليوم فعلينا عزل المنازل عن المناطق الحرجية.

دقة التصويب.. تدريبات الجو لتوفير المال والوقت

منذ 2005 زودت المراكز بكاميرات مراقبة ترصد أي حرائق، وبفضلها تمكن طاقم الإطفاء من مراقبة الحرائق بمجرد تلقيهم تقريرا عنها من مراكز المراقبة، وهي تعمل على مدار العام.

قبل 3 أسابيع من بداية موسم حرائق الغابات تعود الفرق البرية والجوية لوضعية المكافحة بعد صيف هادئ. حلّق الطيار “إريك غادو” لأكثر من 8 آلاف ساعة، ولكنها المرة الأولى التي ينضم فيها لموسم في بوشديرون، وهو اليوم يشارك في تمرين على دقة الرمي، ويساعده الطيار “فيليب ديلكي” لتأمين الاتصالات ومساعدة الطيار في باقي الأمور التقنية وضخ المياه.

وعلى الأرض يقود “دينيه بارجيس” تدريب اليوم، ويتضمن رش الماء من المروحية على غطاء بلاستيكي (يمثل حريقا) بين برميلين مثبتين على مسافة عدة أمتار بينهما، الهدف من التمرين هو الدقة في إفراغ حمولة الماء على أطراف الحريق الافتراضي، والهدف الآخر هو إعادة الكرَّة بمعدل عشرين مرة في الساعة الواحدة.

تدريبات مكثفة على عملية إلقاء الماء فوق النيران

 

في المرة الأولى أخطأ المساعد في الرمي، وأفرغ الماء على بُعد 14 مترا من الهدف، وتتكرر المحاولة عدة مرات حتى يستعيد الطياران مهارتهما التي افتقداها خلال أشهر الشتاء الطويل. بالنسبة لـ”بارجيس” فإنه يريد الدقة الكاملة في إصابة الهدف، وذلك لتوفير كمية الماء المهدرة، وللسيطرة على الحريق من التمدد وتوفير الوقود.

استخدمت في التمرين المروحية الخفيفة “بي3 إس” (B3S-350)، فهي سهلة التحكم، ومزودة بأدوات لمكافحة النيران، ويمكنها سحب 300 غالون ماء بواسطة مضخة تتدلى من الخلف، ويمكن ملء الخزان خلال دقيقة ونصف على الأكثر، ويمكن رش الماء منها بدقة وسلاسة، أما الطائرة الأخرى فتستخدم للحمولات الثقيلة بفضل العقفة المثبتة أسفلها.

تزويد الطائرات بماء البحر.. اختبارات المهارات

سنمضي بقية اليوم في مدرسة الإطفاء، حيث يتقدم المبتدئون والقدماء لاختبارات سنوية للتحقق من مستوى مهاراتهم. يزداد التوتر مع اقتراب الصيف، وقبل أن يقلعوا ثانية يجتمعون لتدارس المعلومات. ينبغي التنسيق بين الطائرات في حال اختلاف أنواعها، وتكون الأولوية لقاذفات المياه، ويجب كذلك مراعاة منطقة الحريق ومدى وعورتها.

ينطلق الفريق الآن لتطبيق عملي على مجموعة من التلال تطل على مارسيليا والبحر المتوسط، يقود “بيير شيشا” طائرة كاندير، ويساعده طيار متدرب، بينما يقوم “فيليب” بتوجيههما من الأرض. يمكن أن تحمل الكاندير 6 أطنان من الماء، وتتزود وهي طافية كالقارب على سطح البحيرة، وهي مزودة بمحركات قوية، وتطير على ارتفاعات منخفضة، وترش الماء بدقة وفاعلية.

تدريبات ومناورات لتعبئة خزانات طائرات الإطفاء من البحر

 

في التمرين القادم سوف تتزود الطائرات من البحر، حيث المعيقات من الأمواج والرياح والقوارب، ويحاول بارجيس إخلاء المنطقة وتحذير القوارب لترك مساحة للطائرات من أجل التزود بالماء. يتفهم بحّارو القوارب الأمر ويغادرون دون اعتراض، وأخيرا ظهرت سبع طائرات “كاندير” تحلّق في رقصة باليه متناسقة.

عودة الصيف الحار المشتعل.. نهاية موسم التدريب

تستطيع خمس طائرات رش أكثر من 8 آلاف غالون ماء في بضع دقائق، وهذا يساهم كثيرا في إطفاء الحريق، لا يهم إن كان الماء عذبا أو مالحا، فالمهم هو إطفاء الحريق.

سيتوقف التمرين عند هذا الحد، فقد هبت رياح بسرعة 30 ميل/ساعة، مما أسفر عن ارتفاع الموج، وهذا قد يعوق عملية التزود بالماء.

انتهت عملية المحاكاة، وبهذا انتهى موسم التدريب رسميا، ليبدأ موسم حرائق الغابات، في التدريب قد يواجه الطيارون أخطارا غير متوقعة، ولكن هذا ليس كل شيء، فالصيف يحمل معه الحرارة الشديدة، والغابات المحترقة، فهل سيبقى رجال الإطفاء أقوياء بما يكفي لمكافحة هذه الحرائق المدمرة؟