شفيق الغبرا.. صوت فلسطين القادم من قلاع الكويت

على أجنحة الأمل الفلسطيني المسافر عبْر آفاق الزمان والمكان، رحل العقل العربي الشهير شفيق ناظم الغبرا. فمن الكويت التي ولد على ثراها نسمةً وتغريبة فلسطينية مهاجرة، حلّق الراحل بعد أن استنفد من عمره أكثر من ستين سنة جريا عبر الكراريس والمنابر الأكاديمية، من أجل إسناد القضية الفلسطينية.

وطوال حياته التي اتسعت لفضاء واسع من العطاء الثقافي، كان شفيق الغبرا حريصا على مقاومة ما يوصف بسرطان التطبيع والتغلغل الصهيوني في الكيان والوعي العربي، وكان صوته فلسطينيا صادحا في منافي المهجر ومدائن الاغتراب.

لكن سرطانا من نوع آخر تمكن من التسلل إلى جسم الغبرا، لينهي رحلته في الحياة، بعد أن تمكن من تركيز أركان وعي ممانع، وثقافة عربية واسعة تعمل بكل جد وبكل طاقات الوعي والمداد والحوار والنقاش على تعرية التطبيع وزيف السلام العربي، وإفلاس الديكتاتوريات العربية الحامية لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي لأرض السلام والزيتون، ومستقر الأسلاف والآباء، ومهبط الملائكة ومحراب الأنبياء.

شلال الهجرة.. بذرة مقاومة من فلسطين تنبت في الكويت

كانت الكويت أول أرض مس ترابها جلد الدكتور شفيق، حيث ولد فيها سنة 1953، وكان الابن الأكبر للدكتور الطبيب المشهور ناظم الغبرا، أحد أبرز الأسماء الفلسطينية المهاجرة إلى الكويت بعد سنوات قليلة من فاجعة النكبة، وتدفق شلال المهاجرين الفلسطينيين إلى أنحاء العالم.

وفي الكويت درس شفيق مع أشقائه الآخرين، قبل أن يتخصص في العلوم السياسية التي درسها في الجامعات الأمريكية، ومن جامعة تكساس بالخصوص نال الدكتوراه في تخصصه الذي برع فيه بعد ذلك، ودرّسه لآلاف الطلاب في جامعة الكويت، وحاضر من خلاله في جامعات ومنتديات عربية وعالمية مختلفة.

يعد شفيق الغبرا أحد مؤسسي الكتيبة الطلابية في لبنان

وقد درّس الدكتور شفيق الغبرا العلوم السياسية وعلوم الإدارة والمنظمات في عدة مؤسسات تعليمية عليا في الكويت، واعتبر لسنوات عديدة أحد أبرز الأعمدة الأكاديمية للتحليل السياسي في منطقة الخليج العربي، لاتساع مدى طلابه، وحضوره الفعال في الإعلام العربي والدولي، وقدرته التحليلية المشهود بها.

وفي الكويت أيضا تولى الرئاسة التنفيذية للجامعة الأمريكية عند تأسيسها من العام 2003 وحتى العام 2006، وكان أحد أبرز الرموز الفكرية في الكويت.

لكن شفيق الغبرا لم يعش في الكويت غربة مهجر، فلم يكن في يرى نفسه إنسانا غريبا على الكويت التي ولد فيها وعاش ودفن، بل كان يرى نفسه إنسانا عربيا جاءت بذرته المقاومة من فلسطين، ونبتت وأزهرت كما ينبت الزيتون، في ثرى أرض الكويت المقاومة.

“حياة غير آمنة”.. مؤرخ الحركة الطلابية في فلسطين

يعتبر الدكتور شفيق الغبرا أحد أهم العقول الكويتية والفلسطينية في قضايا العلوم السياسية وعلم الاستراتيجيات، كما أنه يعتبر ذاكرة مهمة لتاريخ الحركة الطلابية الفلسطينية، حيث كان أبرز رموزها في المهجر، وكان من شخصياتها الناشطة، وخصوصا في التيار الطلابي لمنظمة التحرير الفلسطينية (فتح).

ويمكن اعتباره مؤرخ الحركة الطلابية الفلسطينية المعاصرة، وفي كتابه “حياة غير آمنة.. جيل الأحلام والإخفاقات” الصادر عن دار الساقي في بيروت، يقدم الدكتور شفيق سردا تاريخيا مفصلا عن الحركة الطلابية، كما يقدم فيه سيرة ذاتية مستفيضة تستعرض أبرز محطات حياته، وتبدو روعة الإبداع السردي في التداخل بين الذاتي والموضوعي في ذات سرد التاريخ وإعادة نسج أحلام الشباب وأناشيد الثورة والكفاح.

أوائل نشأة وتدريب الكتيبة الطلابية في لبنان، مكونة من الطلاب الفلسطينيين بالجامعات اللبنانية

ويقدم الدكتور صقر أبو فخر توصيفا لما دونه شفيق عن المشترك النضالي للطلاب الفلسطينيين حين يقول: يعيد شفيق الغبرا إحياء كثير من أسماء الشهداء والمناضلين الذين خاضوا تجربة الكتيبة الطلابية، فيروي حكايات دافئة عن الشهداء حنا ميخائيل (أبو عمر) ومحمد بحيص (أبو حسن) وعبد القادر جرادات (سعد) وعلي أبو طوق ومروان كيالي وجورج عسل وسمير الشيخ وعصمت مراد وباسم سلطان التميمي (حمدي) ونعيم (عبد الحميد الوشاحي) وأمين العنداري (أبو وجيه) ونقولا عبود وجواد أبو الشعر ومحمد شبارو وجودت المصري (أبو الوفا) ودلال المغربي وغيرهم.

ويعيد تذكيرنا بمناضلين كثيرين تناثروا بعد الخروج من لبنان في سنة 1982 أمثال أنيس نقاش وعادل عبد المهدي (الذي صار نائبا لرئيس الحكومة العراقية) وإدي زنانيري ومعين الطاهر ويزيد صايغ وهاني فحص وحسن صالح وسعود المولى ونظير الأوبري (الحلبي الجذور) ومحمود العالول وسامي عبود. ونعمان العويني وهلال رسلان (من جبل العرب في سوريا) ومحجوب عمر (من مصر) وربحي وأدهم وهالة صايغ وسامية عيسى ومحمد صالح الحسيني (من إيران)، إضافة إلى عشرات الأسماء الحركية أو المختصرة التي كانت جميعها تتكوكب في إطار السرية الطلابية.

“ما يقع الآن في العالم العربي عملية مستمرة”.. فيلسوف الربيع

ركز الدكتور شفيق الغبرا على التحولات العربية التي سبقت الربيع العربي، وكان في تحليلاته السياسية المتعددة يقرأ تسارع الأحداث مؤمنا بأنها ستؤدي في النهاية إلى ثورة عربية قد تضيف كثيرا من الجراح التي تعترض طريقها، لكن اهتزازات حبال المشهد السياسي والاجتماعي العربي كانت تفترض دون أي خيار آخر، أن تغرق المنطقة في ثورة وثورة مضادة.

ويرى الدكتور شفيق في حواراته ومنافحاته عن الربيع العربي أنه لا يزال في البداية رغم الانتكاسة التي مُني بها خلال السنوات المنصرمة، بل يرى أكثر من ذلك أن كل أسباب التوهج والاستمرار لا تزال تمد الغضب العربي بدماء فوارة.

يرى الغبرا أن ما يقع في العالم العربي من ربيع عملية مستمرة، ولن تهدأ قبل مرور سنوات طوال

ويذهب الغبرا بوضوح في حوار مع القبس الكويتية إلى القول: هذه القوى المشتتة في المجتمعات العربية تختبر واقع البطالة والفساد وضعف المساءلة وحدّة الاستئثار السياسي. فما زلنا في العالم العربي (في أغلب دوله) في غياب المساءلة السياسية لمن بيده القدرة على جر بلاده والإقليم لما يرى أنه الصواب في كل مسائل الحرب والسلم والاقتصاد والأمن، لكن هذه المرحلة تكشف لنا عن تناقضاتها وقصورها، فالعالم العربي يتغير، وما المشهد الراهن الا تعبير عن عمق المرض وعمق السعي للخلاص منه بلا رؤى واضحة.

وبعكس ما يذهب إليه مؤرخو وفلاسفة الثورة المضادة من سحق الربيع العربي يقول الغبرا: ما يقع الآن في العالم العربي عملية مستمرة، ولن تهدأ قبل مرور سنوات طوال قد تصل لعقد ونصف العقد من الآن، لكنها في النهاية ستغير معظم أشكال الحكم القائم في المنطقة العربية كما عرفناها في العقود الماضية.

“سيزداد احتقانا وخبرة واحترافا”.. قراءة المستقبل

كان شفيق الغبرا يرى أن صمود النظام العربي بدأ يتراجع لفشله في القضايا الكبرى، إذ يقول: الوعاء التاريخي للنظام العربي بتنوعه (جمهوري وملكي) الذي صمد منذ الحرب العالمية الثانية يتراجع أمام ضعف واضح في المقدرة على إنجاز مهام التنمية المرتبطة بالإنسان والصحة والتعليم والحريات والحقوق الأساسية؛ سواء أكانت شخصية أم سياسية أم مدنية، بل نجده كنظام في أغلب الحالات (دون أن أقلل من قيمة الاستثناءات المحدودة) غير قادر على التعامل مع قضية كالبطالة بين الشباب والشابات. إن موجة التغير الجديدة بكل تناقضاتها تتفاعل، وما نراه منذ 2011 يمثل مقدمات، نحن في نهاية البداية، ولم ندخل بعد في قلب المشهد.

كتاب النكبة الذي تحدث فيه شفيق الغبرا عن نشوء الشتات الفلسطيني في الكويت

ويقول في مقال له بالقدس العربي: المواطن العربي الشاب يكتشف كل يوم كيف يختلف العالم المحيط به عن عالمه المليء بالمشكلات، نجده يتعرف كل يوم على قصص جديدة عن الفساد وقصص أخرى عن البطش والسجون، وثالثة عن التآكل الوطني وفشل الدولة في أبسط مشاريعها، وفوق كل شيء يكتشف حجم البطالة التي تحيط بحياته وبأقربائه وأسرته وشارعه بل ومنطقته. ويعي هذا الجيل أن الخطاب الذي قدم له في المدرسة والإعلام لا يتناسب مع واقعه واحتياجاته. لهذا يعيش هذا الجيل تحت واقع الصدمة، لكنه أكثر استعدادا للتعبير عن نفسه لكسر حواجز الخوف والسعي للتمرد.

ويخلص إلى أن هذا الجيل لن يهدأ في المرحلة القادمة، بل “سيزداد احتقانا وخبرة واحترافا”، ويؤكد ذلك قائلا: الحالة العربية حبلى بالمفاجآت، والدول العربية أمام تحديات لم تعرف مثيلا لها في السابق: فإما أن تستمر بسياسات تخلو من العدل والتشارك، مما يؤدي لمزيد من التطرف والغضب، أو أن تبحث عن مشروع جاد يستند لرؤى ديمقراطية وحريات وأنسنة واقتصاد عادل يسمح لها بتمكين هادف لجيل في بداية صعوده أو ثورته وتمرده والتغلب على انتكاساته.

خارطة الوعي المقاوم.. مؤلفات بحجم القضايا العربية الكبرى

أخذت القضية الفلسطينية عمق اهتمام الراحل شفيق الغبرا، وتنوعت مداخل اهتماماته بها، حيث تعددت مؤلفاته عنها فكتب عن الهوية الفلسطينية في المهجر، “الفلسطينيون في الكويت: العائلة وسياسات البقاء”، وكتب أيضا “النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت”.

وكتب عن الصراع العربي الإسرائيلي “إسرائيل والعرب.. من صراع القضايا إلى سلام المصالح”.

هنا في الكويت، ولد شفيق الغبرا، وفيها درس وفيها توفي

ويعتبر كتابه “حياة آمنة.. جيل الأحلام والإخفاقات” سيرة ذاتية له وللقضية الفلسطينية خلال العقود الخمسة المنصرمة.

وبالإضافة إلى ذلك، حلل في كتاب موسع حمل اسم “الولايات المتحدة والخليج: قراءة للمتغيرات الدولية ورؤية للمستقبل” ملامح واقع ومستقبل العلاقة بين واشنطن ودول الخليج العربي.

مقبرة الصليخبات.. مرقد رجل من الكويت وقلم من فلسطين

ودعت الجموع التي أودعت الغبرا ضريحه في مقبرة الصليبخات رجلا من الكويت، وقلما من فلسطين وروحا عربية تواقة إلى الحرية، وتدفقت عبر صفحات التواصل والمواقع رسائل التعزية والتأبين في الراحل، فقد عزى فيه رئيس البرلمان الكويتي، كما عزت السلطة الفلسطينية.

وسطر تلاميذه وأصدقاؤه تأبينات تقطر بالأسى والإكبار لرجل كان يؤمن بالحرية والمقاومة سبيلا أوحد للتحرير والديمقراطية.