صناعة التجميل.. كيف تحوّل الهوس العالمي بالمظاهر إلى تجارة؟

 مراد بابعا

أمام الهوس العالمي بالمظهر والشكل الخارجي، استطاعت عمليات التجميل ومستحضرات العناية بالجلد والبشرة اكتساح الأسواق وباتت صناعة تدر ذهبا، ونشاطا يتعاطاه آلاف الأشخاص حول العالم.

وتكفي مشاهدة الوثائقي “أنا والمرآة.. هوس اللبنانيات بعمليات التجميل” الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية، لمعرفة مدى إقبال النساء في لبنان -مثلا- على عمليات التجميل كيفما كان وسطهن الاجتماعي أو مستواهن التعليمي.

ونجد أن لبنان ليس استثناء بين الدول العربية، فالإقبال على التجميل سواء من خلال العمليات الجراحية أو الحقن أو المستحضرات الطبية أصبح توجها وأسلوب حياة لدى الكثيرين، بل إنه لم يعد يقتصر على النساء فقط، إذ أصبح الرجال أيضا زبائن لمراكز التجميل ومحلات بيع مستحضرات العناية بالجلد والبشرة.

ويقدر وزن هذه الصناعة على المستوى العالمي بمليارات الدولارات، ويتوقع أن يواصل انتعاشته في السنوات المقبلة، خصوصا أمام التأثير المتزايد لمواقع التواصل الاجتماعي، والدور الكبير الذي أصبحت تلعبه الصورة في الحياة اليومية، وانعكاسها على تفكير الأفراد واستقرارهم النفسي.

وتختلف الدوافع وراء الخضوع للتجميل، فقد يكون بهدف تقليد المشاهير والحصول على الشكل المثالي الذي تسوقه وسائل التواصل الاجتماعي، أو من أجل إنقاص الوزن والحد من تداعيات التقدم في السن، أو فقط بغية معالجة بعد العاهات الجسدية.

فما هو الحجم الحقيقي لصناعة التجميل في العالم، وكيف ازداد الهوس بالمظهر والشكل الخارجي في السنوات الأخيرة، وهل تُغير فعلا هذه الممارسة حياة الأشخاص أم أنها تنقلب إلى معاناة صحية ونفسية؟

“بزنس” بالمليارات

أصبحت صناعة التجميل تسجل أرقاما فلكية في السنوات الأخيرة، وقدر حجم صناعة مستحضرات العناية بالبشرة حول العالم بـ180 مليار دولار السنة الماضية (2018)، فيما يصعب تحديد رقم محدد لعائدات عمليات التجميل.

لكن آخر الأرقام التي كشفت عنها الجمعية العالمية لجراحة التجميل (ISAPS) تتحدث عن أكثر من 23 مليونا و600 ألف عملية تدخّل تجميلي في العالم، من بينها نحو 10 ملايين و400 ألف عملية تجميل جراحية، بارتفاع قُدر بـ8% مقارنة بـ2015، وهو ما يعني إقبالا متزايدا على هذا النوع من العمليات الذي أصبح يجتذب مختلف شرائح المجتمع.

وتتصدر الولايات المتحدة قائمة الدول التي تجري عمليات التجميل في العالم بأزيد من 4 ملايين و200 ألف تدخّل تجميلي في السنة بنسبة 18%، متبوعة بالبرازيل بـ10.7%، ثم اليابان وإيطاليا والمكسيك.

أما في الدول العربية، فيعتبر لبنان الرائد عربيا في عمليات التجميل وأحد أهم مراكز السياحة العلاجية في الوطن العربي، إذ تجرى فيه شهريا ما بين 120 و150 عملية تجميل، وتشكل عائداتها 15% من إجمالي الإنفاق السياحي السنوي في البلاد.

وتحتل المملكة العربية السعودية الصدارة من حيث الإقبال المتزايد على هذا النوع من العمليات في السنوات الأخيرة، وأجريت في المملكة 94 ألف عملية تجميل خلال العام 2016 حسب أرقام الجمعية العالمية لجراحة التجميل (ISAPS). كما تعتبر المرأة السعودية الأكثر إنفاقا على مستحضرات التجميل بين دول الخليج، وقدرت مؤسسة “يورومونيتور الدواية” (Euromonitor International) حجم إنفاق السعوديات على كافة أنواع مستحضرات التجميل بـ1.5 مليار دولار سنويا.

وتعتبر مصر أكثر الدول العربية التي يتوفر فيها جراحون متخصصون في التجميل بنحو 400 جراح متخصص، كما تمتاز بانخفاض أسعار العمليات بحوالي 50 إلى 60% عن متوسط السعر العالمي.

أما الكويت فهي من أكثر الدول العربية التي يُقبل فيها الرجال على عمليات التجميل، بنحو 30% من مجموع جراحات التجميل في هذا البلد.

الرجال أيضا يتجملون

أًصبح الرجال أيضا ينفقون أكثر فأكثر من أجل الاعتناء بشكلهم الخارجي، فبالإضافة إلى مستحضرات العناية بالبشرة والشعر والعطور، بدأت عمليات التجميل تغزو صفوف الجنس الخشن تدريجيا، خصوصا تلك المتعلقة بشفط الدهون ونحت البطن وتقويم الأنف.

وكشفت الجمعية الأمريكية لجراحي التجميل أن عدد العمليات التي أجريت في العالم السنة الماضية (2018) على الرجال قدرت بمليون و300 ألف عملية.

وفي الولايات المتحدة أُجريت على الأقل 200 ألف عملية جراحية للتجميل، على رأسها عمليات تجميل الأنف بنحو 52 ألف عملية، ثم عمليات تجميل جفون العيون، وعمليات شفط الدهون وتقليص حجم الثدي متبوعة بعمليات زرع الشعر.

وفي بريطانيا كشفت دراسة حديثها أجرتها مؤسسة “بي بي سي” بأن نحو 50% من الرجال بين سن 18 و30 عاما “قد يفكرون” في الخضوع لجراحة تجميل. كما ازدهرت في بريطانيا تجارة المواد التجميلية خلال السنوات الأخيرة، فقد صرح رجل من أصل 20 أنهم يستخدمون مستحضرات التجميل بانتظام.

وهذا التوجه هو السائد أيضا في الدول العربية، كما أكد ذلك موقع “تجميلي دوت كوم” الأردني الذي أجرى دراسة في الدول العربية، جاء فيها أن الرجال في السعودية هم الأكثر إقبالا على التجميل خلال عام 2018، يليهم رجال مصر، ثم الإمارات والمغرب.

وأوضحت الدراسة أن الإقبال أكثر بين الرجال العرب يكون على زراعة الشعر ثم تجميل الأنف وشفط الدهون وتصغير المعدة وزراعة الأسنان، وتجرى في السعودية نحو ثلث عمليات التجميل على الرجال، فيما ترتفع هذه النسبة إلى 40% في الإمارات.

وفي المغرب قدرت الجمعية المغربية للتقويم والتجميل إقبال الرجال على عمليات التجميل بنحو 25% من إجمالي عمليات التجميل في البلاد.

وعن أسباب ارتفاع الإقبال على التجميل، فإنه أيضا مرتبط –كما هو الحال بالنسبة للنساء- بالتغيرات التي يشهدها المجتمع، والميل نحو الحصول على الشكل المثالي الذي تسوّق له بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.

تجميل حلال!

يرتبط التجميل الحلال أساسا باستعمال كريمات العناية بالبشرة ومستحضرات التجميل التي لا تحتوي على أي من مكونات لحم الخنزير أو الكحول بالأساس، والتي تحرم الشريعة تناولها أو استهلاكها.

وأصبحت الشركات العالمية تركز على هذا الجانب لتسويق منتجاتها، على اعتبار أن سوق المنتجات الحلال يهم ملياري مسلم حول العالم، ويُتوقع أن يصل إنفاقهم السنوي على منتجات التجميل الحلال إلى أزيد من 54 مليار دولار بحلول 2022 وفق تقرير صادر عن مكتب الدارسات “السوق إنسايت إنترناشيونال” (Market Insight International).

وسيواصل هذا السوق تطوره في السنوات المقبلة بحسب العديد من التقارير، آخرها صدر في المملكة العربية السعودية التي تعتبر أحد أكبر أسواق التجميل الحلال في العالم، وتوقع نموا بأكثر من 15% خلال السنوات الخمس القادمة.

أما بالنسبة للعمليات الجراحية، فهناك انقسام بين الجراحة التجميلية الضرورية والجراحة التحسينية، وأغلب علماء الدين يجيزون النوع الأول، ويحرمون الثاني على اعتبار أنه تغيير لخلق الله وتحقيق لأهواء النفس وشهواتها. لكن التداخل بين ما هو ضروري وتحسيني يفتح المجال أمام العديد من التأويلات التي تُستغل لتبرير الإقدام على عمليات التجميل.

وتنتشر في العديد من الدول العربية والإسلامية مراكز التجميل الخاصة التي أصبحت قبلة للراغبات والراغبين في الحصول على مظهر جديد، وأصبحت بعض الدول والمدن وِجهات مفضلة لهذا النوع من “السياحة العلاجية”.

وِجهات مفضلة

اكتسبت العديد من الدول العربية شهرة واسعة في “السياحة العلاجية” وإجراء عمليات التجميل، ونجد أن لبنان شكلت لسنوات مقصدا مفضلا للباحثين عن أفضل جراحيي التجميل، نتيجة خبرتهم في هذا المجال، والصورة التي تسوّقها بشكل كبير الفنانات اللبنانيات الرائدات في إجراء عمليات تجميلية.

كما أصبحت الإمارات والسعودية في السنوات الأخيرة تشهد إقبالا متزايدا من طرف الراغبين في تحسين مظهرهم الخارجي عبر التجميل الجراحي، خصوصا عمليات شفط الدهون، وشد الوجه وزراعة الشعر.

وفي نطاق الدول المسلمة نجد أن إيران صُنفت ضمن أفضل 10 أماكن في العالم لإجراء عمليات التجميل في عام 2018، وتعتبر العاصمة الإيرانية طهران عاصمة عمليات تجميل الأنف الأرخص والأنجح على مستوى العالم.

كما نجد تركيا على رأس دول منطقة الشرق الأوسط من حيث الإقبال على عمليات التجميل وخصوصا زراعة الشعر، وتتحدث الإحصائيات عن إجراء نحو 1.2 مليون عملية تجميلية سنة 2017.

أما أفضل وجهة للسياحة التجميلية عالميا فهي البرازيل المشهورة بعمليات نحت الجسم، تليها إيطاليا معقل عمليات حقن “الفيلر” و”البوتكس” على مستوى العالم، وتصنف الولايات المتحدة في المركز الثالث، وتشتهر في مجال عمليات تجميل العين والجفون والحواجب بالإضافة إلى عمليات تجميل الأمهات بعد الحمل والولادة.

مواقع التواصل.. فنانو الميك أب

أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي وجهة لمن يريد التعرف على آخر الصيحات والتقنيات المتوفرة في المجال، وأضحت العديد من مراكز التجميل حول العالم تستعين بـ”مؤثري مواقع التواصل الاجتماعي” – وهم أشخاص يحظون بآلاف المتابعين على قنواتهم سواء على يوتيوب أو إنستغرام أو فيسبوك- للوصول بسرعة وبسهولة إلى زبناء جدد.

وحتى شركات مواد التجميل و”الميك أب” لم تعد تستغنِ عن هؤلاء “المؤثرين” أو كما يسمون أنفسهم “فنانو الميك أب” (make-up artists) في حملاتها الترويجية، وتنفق من أجل ذلك ميزانيات كبيرة تفوق أحيانا ميزانيات الإعلان “التقليدي”.

وفي بريطانيا توصلت دراسة لمعهد “نوفيلد” إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي تمارس ضغوطا على الشباب تدفع بهم إلى إجراء عمليات التجميل للحصول على الوجه المثالي دون بقع أو تجاعيد، وطالبت هذه الدراسة الحكومة بالتدخل لحماية الأشخاص –خصوصا الأطفال- من تطبيقات التلاعب بمظهر الوجه والتي يمكن أن تكون حافزا للإقدام على جراحات تجميلية في المستقبل.

ونبّه باحثون إلى أن التطبيقات التي تتيح للمستخدمين تحسين مظهرهم، قد تؤدي إلى نزعة خطيرة بين الشباب، فيستعلمون هيئتهم المعدلة الرشيقة بشكل كبير في العالم الافتراضي، ويخفون واقعهم الحقيقي.

كما أن هوس التقاط صور “السلفي” ومشاركتها في مختلف المنصات الاجتماعية، جعلت الاعتناء بمظهر الوجه ونضارته أولوية خصوصا لدى بعض المراهقات والشابات، مما يفسر الإقبال الكبير على استعمال مواد التجميل المختلفة، وحتى الخضوع لعمليات شد الوجه، والتخلص من الدهون الزائدة غير المرغوب فيها المحيطة بمنطقة الذقن والرقبة.

نحو 50% من الرجال بين سن 18 و30 عاما "قد يفكرون" في الخضوع لجراحة تجميل
نحو 50% من الرجال بين سن 18 و30 عاما “قد يفكرون” في الخضوع لجراحة تجميل

للجمال ضريبة

بالإضافة إلى الكلفة المادية المرتفعة سواء لمستحضرات التجميل المختلفة، أو للتدخلات الجراحية التي تدر في المقابل أرباحا طائلة على المشتغلين في هذا المجال، فإن الانعكاسات الصحية والنفسية تبقى أكثر ضررا على حياة الأفراد.

فالمضاعفات الصحية المرتبطة باستعمال مستحضرات التجميل غالبا ما تنعكس على الجلد، نتيجة امتصاصه للمواد الكيميائية التي تدخل في تركيبة هذه المستحضرات، مما يجعله مع مرور الوقت يفقد نضارته الطبيعية وتبدأ التجاعيد في الظهور، وهو ما يدفع البعض إلى زيادة كمية المساحيق لإخفاء تلك العيوب، وهذا بدوره يعرض البشرة أكثر لأمراض الحساسية والطفح الجلدي الذي قد يتطور إلى السرطان.

أما التدخلات الجراحية فأخطارها متعددة، وترتبط أولا بأخطار أي عملية جراحية نتيجة استعمال التخدير الكلي أو الموضعي حسب نوع العملية، واحتمال حصول نوبات قلبية نتيجة ارتفاع الضغط الدموي، خصوصا أثناء عمليات شفط الدهون بسبب السمنة المفرطة التي يعاني منها المقدمون على هذا النوع من التدخلات الجراحية. بالإضافة إلى الألم الذي يصاحب عمليات حقن “البوتكس” و”الفيلر” وغيرها، والاضطرار في حالات كثيرة لتكرار العملية.

والأًصعب من كل هذا، الآثار النفسية المدمرة التي يخلفها عدم الحصول على الشكل المرغوب فيه في نهاية المطاف، أو ظهور بعض آثار الجراحة والتي قد تتطور إلى تشوهات مؤقتة أو دائمة، مما يُدخل البعض في موجات غضب هستيرية أو اكتئاب يصعب الخروج منه.