عباس 36.. حكاية عائلة أرستقراطية فرّقتها نكبة 1948

في حي عباس الأرستقراطي في مدينة حيفا، كانت تسكن عائلة أبو غيدا وعاشت ردحا من الزمن ترفل في العز والحظوة وتنعم بالوصل ولمّ الشمل ولم تفكر يوما في الهوان وغدر الأيام. لكن النكبة فرقت شمل العائلة، وأصبحت مشردة في نحو 17 دولة في مشارق الأرض ومغاربها.

حكايات المشردين الفلسطينيين بفعل عوامل الحرب والاحتلال كثيرة ومتنوعة. وفي مدينة حيفا وقراها لا تزال الأيام تحفظ أطلالا ورسوما تستدعي كل من له علاقة ووجدان أن يقف ويبكي من ذكرى الأحبة والأهل والمنازل.

وفي فيلم بعنوان “عباس 36” (اسم الشارع الذي يقع فيه المنزل) سلطت الجزيرة الوثائقية الضوء على أحد المنازل التي لا تزال موجودة بذاتها وأهلها، رغم أن من بناه وشيّده لا يملك منه إلا ذكريات سلفت أو أحلام باستعادته ولو بالشراء.

أدت نكبة 1948 إلى طرد 750 ألفا من المواطنين الفلسطينيين وتحويلهم إلى لاجئين ومشردين، وأقيم على أرضهم كيان مغتصب يسمى حاليا إسرائيل.

وقد عمل الاحتلال الإسرائيلي على تدمير 500 قرية وتخريبها بالكامل. وتعتبر مدينة حيفا والقرى التابعة لها من أكثر المدن الفلسطينية التي عرفت الدمار والخراب.

شهدت قرية الطنطورة مجازر إنسانية تشيب لهولها الولدان، حيث دفن الناس أحياء وطمست أطلال القرية بالكامل.

وفي ثلاثينيات القرن الماضي كان حي “عباس” من أرقى أحياء المدينة، ويروي مدير البني التحتية ببلدية حيفا المهندس وليد كركبي أن حي عباس كان حي الأرستقراطيين الفلسطينيين يسكنه كل من تحسنت ظروفهم المالية، وقد بُني منذ 1930.

كانت حيفا قبل النكبة عامرة بالعرب، إذ بلغ عددهم يومها 73 ألف نسمة. لكنهم الآن لا يتجاوزون 4 آلاف. وكانت مساكن العرب ذات سمة حضارية عريقة تعكس أصالتهم وتترجم عمقهم في الأرض وتعاملهم مع بيئتها.

لذلك عمد المحتل إلى طمس أثر الإنسان العربي من خلال إزالة جميع المعالم العربية وكل ما يشير إلى مكانته وأقدميته في تلك الربوع. ويقول المهندس كركبي “لم تكن النكبة إنسانية وسياسية فقط، بل كانت نكبة عمران ونكبة معالم، فقد أزيلت المباني العربية. لقد كانت النكبة في كل شيء”.

عباس 36.. منازل شاهدة

تخلّص الغاصبون من إرث العرب الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم فهدموا كل شيء عن قصد. وما لم تصله أيادي التخريب من المنازل التي هجرها أهلها يُحال بموجب القانون الإسرائيلي (أملاك الغائبين) إلى أملاك دولة المحتل.

وقد كان حي الطبقة الأرستقراطية في حيفا صالحا للبقاء بفعل جماله المعماري. ومن المنازل التي أراد لها القدر أن تبقى حتى يومنا هذا منزل عائلة أبو غيدا “عباس 36” المكون من طابقين بالإضافة للطابق الأرضي. وما زالت بلدية حيفا تحتفظ بأوراق بناء العائلة له.

والآن لا يقطن في مدينة حيفا أي فرد من العائلة، فقد شرّدتهم الحرب إلى عدة دول. فمنهم من يقيم في الدوحة والكويت، ومنهم من توطن في لندن وأميركا والنمسا، ومنهم من يسكن الشام.

فؤاد أبو غيدا المقيم في لندن حاليا يروي للوثائقية قصة خروجه من بيته في مدينة حيفا عام 1948

وبعد تشريد عائلة أبو غيدا في أربعينيات القرن الماضي أصبح منزلها في أملاك المحتل اليهودي، فتم بيعه لأسرة من يهود النمسا، لتبيعه بدورها لأسرة عربية أخرى تدعي عائلة رافع.

وقد تحدث للجزيرة عدد من أفراد عائلة أبو غيدا ومنهم اللاعب فؤاد أبو غيدا الذي كان نجما مشهورا في صفوف الأهلي المصري في ستينيات القرن الماضي والمقيم اليوم في لندن.

حق يأبى النسيان

ويروي أبو غيدا للجزيرة الوثائقية قصة خروجه من بيته مع أمه بمدينة حيفا. ورغم أن عمره حينها كان تسع سنوات فإنه ما زال يتذكر كيف أخذت أمه ما في خزنتها وأقنعت الأبناء أنهم ذاهبون في رحلة سياحة للشام ولفترة لن تطول.

“باسمة أبو غيدا” هي الأخرى لا تزال تذكر وقت تشريد أهلها وكيف بكى “فؤاد” من ذلك المنظر الرهيب.

وزار فؤاد أبو غيدا منزله في 15 مايو/أيار 2010 ليقام له احتفال من سكان الحي بمناسبة عودته. وتقطن في المنزل حاليا عائلة عربية ربّت أولادها على أن أهل المنزل الأصليين شردهم الاحتلال.

منزل عائلة أبو غيدا الذي يحمل اسم رقم 36 في أحد الأحياء الأرستقراطية في مدينة حيفا

علي رافع الذي يسكن في عباس 36 يبدو مهتما بتاريخ العوائل التي شُردت وهجّرت من فلسطين.

وبعد نكبة 1948 أطلقت رئيسة الوزراء الإسرائيلية حينها غولدا مائير مقولتها الشهيرة “غدا يموت الكبار وينسى الصغار”، لكن علي رافع وغيره من الأجداد الذين لا يزالون في أرضهم يعملون على نقيض ذلك، إذ يلقّنون الجيل الناشئ تاريخ وطنهم وكيف طُرد إخوانهم واحتلت أراضيهم.

تجدد حلم العودة

رغم مرور سبعة عقود على النكبة فإن الجاليات الفلسطينية ما زالت متعلقة بوطنها وتحلم بالعودة له. ولا يزال حب الأرض يُطبق على وجدان الفلسطينيين، فلا منازل لهم إلا ديار الإسراء والمعراج وما حولها من الأرض المباركة.

ويبحث المهجّرون عن كل ما يربطهم بأرضهم وديارهم كما هو الحال بالنسبة للسيدة دينا أبو غيدا وابنتيها، حيث تؤكد في فيلم الجزيرة الوثائقي أنها لا أرض لها غير فلسطين.

ورغم أنها وابنتيها مواطنات أمريكيات فإنهن من دون فلسطين يعتبرن أنفسهن ضائعات. وتحرص دينا على زيارة فلسطين وحيفا حيث يقع منزل أهلها وكلها أمل في أن تجد من يبيعها شقة أو موطئ قدم في ذلك المنزل الذي تجد فيه إنقاذها من الضياع.

وتؤكد السيدة دينا أن التهجير القسري الذي لقيه الفلسطينيون من النكبة حتى الآن يبدو أنه لا حل له في الأمد القريب بفعل سياسة دونالد ترامب الذي نقل سفارة بلده من تل أبيب إلى القدس المحتلة، وتضيف “ترامب مهما فعل فإن الكل يعرف أن فلسطين للفلسطينيين”.

وبعد مرور أكثر من مائة عام على وعد بلفور المشؤوم، خرج الفلسطينيون في لندن في مظاهرات حاشدة شاركهم فيها عدد من البريطانيين مطالبين بالاعتذار للشعب الفلسطيني وتعويضه عما لحقه من ضرر التهجير بفعل ذلك القرار الجائر.

ورغم جهود الطمس والتهويد فإن حي عباس في حيفا لا يزال صامدا يسرد تاريخ أمة ومعاناتها، ويعيد للواجهة قصص المآسي والضياع.

وقد نكأت قصة المنزل جروحا ما زالت تنزف منها قلوب الملايين من الناس، حيث يرون في وضع إخوتهم تجسيدا لمعنى الظلم والقهر ولا يستطيعون أن يغنُوا عنهم من المحتل شيئا.

بيد أن الفلسطينيين المهجّرين لم يصابوا يوما بالإحباط، ويعيشون على أمل الرجوع، ويشعرون أن ساعة العودة للوطن لا بد أن تحين وأن الأجيال القادمة لن تنسى رغم حجم المعاناة وبُعد الأرض وطول الزمن.