“فتيات الصين المفقودات”.. رحلة للبحث عن العائلة الأصلية

خاص- الوثائقية

مشاعر حزينة مجبولة بلوعة الفراق وفرحة اللقاء وسؤال محوري يدور في الأذهان، من هما والداي؟ أهما اللذان تبنياني ورعياني وسهرا علي حتى وصلت إلى ما أنا عليه الآن، أم والداي البيولوجيان اللذان لم ألتق بهما إلا بعد عقود؟

ملخص فيلم مؤثر عرضته “الجزيرة الوثائقية” بعنوان “فتيات الصين المفقودات”، ويتناول مأساة جيل من الأطفال الصينيين الذين تخلى آباؤهم عنهم بموجب سياسة الطفل الواحد المثيرة للجدل، ومهمتهم شبه المستحيلة البحث عن آبائهم البيولوجيين.

ففي هذا الفيلم تتضارب المشاعر لدرجة أن الأفراد الذين كانوا يتمنون رؤية الأهل الأصليين يشعرون –بعد لقائهم بهم- أنهم يحنون لمن تبناهم ورباهم، حتى أن ظهورهم بعد عشرات السنين في حياة ذويهم الأصليين سيربك حياتهم، وهذا ما سيظهر من خلال القصص التي تناولها الفيلم.

 

“تنظيم الأسرة”.. سياسة الطفل الواحد في الصين

قبل الخوض في الفيلم الوثائقي لا بد من التعريف بسياسة “الطفل الواحد” التي تسمى في الصين “تنظيم الأسرة”، فقد انتهجتها البلاد منذ 1979 وحتى 2015، وتتلخص في منع إنجاب أكثر من طفل لكل عائلة.

وفي حال إنجاب طفل ثان فإن الحكومة تحرمه من كافة حقوق المواطن، وتجرده من كافة الامتيازات، فلن يتمكن مثلا من الاستفادة من خدمات الدولة كالدراسة والطب ولا يحق له الانتخاب، إلى غير ذلك من الحقوق الأساسية لكل مواطن، ولتفادي هذه العقوبات القاسية اضطر بعض الأهالي إلى الافتراق عن أطفالهم الذي كان جلهم من الإناث.

 

وبعد إسقاط الحكومة الصينية للقانون بداية 2016، قام متطوعون بتنظيم فعاليات تساعد على إعادة لم الشمل والبحث عن أقاربهم.

ويقول “لي يونغوو” منظم إحدى الفعاليات: تراودنا مشاعر مختلطة عندما نجتمع بأشخاص من كافة أنحاء البلاد أتوا للبحث عن أقاربهم، تنظيم هذه الفعاليات أمر مؤلم، هؤلاء خرجوا من مناطقهم بسبب ظروف تاريخية، فالمفقودون قد يكونوا من عائلتي أو أقاربي وجيراني، ولهذا وجبت علي مساعدتهم.

ولـ”يونغوو” قصة حزينة تعود لسنوات ماضية –قبل أن تُسقط الحكومة هذا القانون- دفعته لخوض هذا الغمار القاسي، إذ يروي أنه عام 2001 رأى منشورا لفتاة تبحث عن والديها الأصليين. وتابع: لاحظت أن المكان التي وقع التخلي عنها فيه قريب من بلدتي، فقمت بمساعدتها وعثرت على والديها الأصليين.

وأضاف أن هذا النجاح ألهمه لتوسيع نشاطه التطوعي، وساهم في لم شمل عشرات العائلات حتى الآن.

“شاي فينيشا”.. رحلة البحث الطويلة

يروي الوثائقي قصص عدة حالات من بينها قصة “شاي فينيشا” (41 عاما)، وهي متبناة تبحث عن والديها الأصليين، وتريد أن تعرف كيف يبدوان وأسباب تخليهما عنها وهي طفلة، لذا حضرت الأوراق المطلوبة وأعطت عينة من الحمض النووي لرابطة “جيانغين” التطوعية التي يديرها “يونغوو”.

غير أن “فينيشا” المتحمسة لرؤية والديها الأصليين تقول إنها وعدت والدها الذي تبناها بالاعتناء به حتى آخر يوم بعمره، ومن هنا وقبل حتى معرفتها إن كانت ستجد والديها الأصليين أم لا تفكر ماذا سيحدث لوالدها الذي وجدها في دار لرعاية الأيتام وجاء بها إلى بيته لتربيتها.

ولأنها سنوات طويلة تُركوا فيها أطفالا والبلاد مترامية الأطراف، يمل الكثيرون من الاستمرار في هذه الرحلة الشاقة والمرهقة، و”فينيشا” إحدى هؤلاء، إذ قالت إنها تبحث عن والديها منذ 12 عاما، وأن رحلتها هذه ستكون الأخيرة فإن أخفقت فلن تعيد الكرة.

شاي فينشيا.. في رحلة بحثها عن أمها وأبيها الحقيقيين

 

وخلال رحلة بحثها عن والديها الأصليين في المنطقة التي يُعتقد أنها ولدت فيها، التقت “فينيشا” بأحد الأشخاص كبار السن هناك، وقد تحدث عن أمور مروعة كانت تحصل تلك الفترة.

ويقول إن “الشرطة عينت سيدة لنقل الفتيات الصغيرات إلى دور رعاية الأيتام، وكانت تتقاضى أموالا عن كل طفلة تنقلها، وكل ذلك بسبب سياسة الطفل الواحد، وفي الغالب كان الأهل يتخلون عن الفتيات لأنهم يفضلون إنجاب الذكور، فإن ولدت لهم فتاة يتركونها على أبواب المنشآت الحكومية، بينما كان البعض الآخر يخاف من العقوبات فيتخلى عن طفله الثاني بكل بساطة”.

“ليتني تسولت ولم أتركك ترحلين”.. لقاء بعد ٤٠ عاما

نعود لـ”يونغوو” الذي سيأخذنا في رحلة بحث أخرى مع فتاة تركها والداها عام 1974، وهي “لي جينفن” التي لم تكن مقتنعة بضرورة رؤية والديها الأصليين ولكن صحة والدها الأصلي تتدهور بسرعة، وهو طريح الفراش من سنوات، وأمنيته أن يرى ابنته قبل أن يموت.

ولهذا كانت مهمة “يونغوو” إقناع “جينفن” بالسفر مسافة 9 آلاف كيلومتر لرؤية والديها الأصليين، وبعد أخذ ورد ونقاش اقتنعت “جينفن” وتوجهت رفقة زوجها لرؤية والديها الأصليين، وخلال الرحلة الطويلة، كان والداها بالتبني يتواصلان معها ويحثانها على عدم التأخر والعودة مباشرة لأنهما سيشتاقان لها، وهذا ما كان يقض مضجع “جينفن”.

جينفن.. لقاء بارد مع والديها الأصليين، ينتهي بزيارة لا تتكرر أبدا

 

وصلت “جينفن” حاملة باقة من الزهور إلى منزل ذويها الأصليين، وعلى خلاف المتوقع كان اللقاء باردا مع والدتها وإخوتها رغم بعض الدموع التي ذُرفت، دخلت إلى منزل لا تعرفه، وتسأل من هذه؟ إنه والدها الأصلي طريح الفراش، أمسكت يده ولكنه لم يعرفها، فمرضه جعله في عالم آخر.

تقول الوالدة “بندم”: “ليتني تسولت ولم أتركك ترحلين إلى هذا المكان البعيد”. وتسأل “جينفن” والدتها الأصلية “متى ولدت؟ في أي يوم وساعة؟ صباحا أم مساء؟”.

ما هي إلا ساعات قليلة حتى شعرت “جينفن” أن هذا ليس بيتها، كل شيء غريب هنا “لقد مضت 40 عاما، لا أعرف إذا كنا سنتقبل بعضنا”. يدخل زوجها على الخط ليصف الواقع الذي رآه قائلا: “ليس هناك أي حماس أو ترابط عائلي صلب، الأفضل لنا أن نعود إلى بلدتنا غدا”.

بدت “جينفن” متقبلة لكلام زوجها وبررت العودة السريعة لوالديها بالتبني أنه “لم نمض أي وقت معا، لا ذكريات أو أي شيء يجمعنا، أظن أن وجودي أربك حياتهم”. وبعد هذا الكلام أمضت “جينفن” يومين إضافيين مع والديها الأصليين، ثم عادت لبلدتها ولم تزر والديها الأصليين مجددا.

لمست “جينفن” على أرض الواقع أن لا شيء يربطها بوالديها الأصليين، بينما لا تزال “فينيشا” تصر على إيجادهما والتعرف عليهما وفي قلبها حرقة على والدها بالتبني الذي تركته وحيدا في بلدته.

“لو كنتِ ولدا لما كنت تخليت عنك”.. صراع داخلي بين عالمين

حضرت “فينيشا” فعالية للبحث عن الأقارب عام 2016، محملة بأمل ضئيل أن تسمع خبرا جيدا قبل أن تستسلم، وخلال الفعالية بشرت إحدى المسؤولات عن الفعالية بخبر جيد كانت تنتظره “فينيشا” منذ 12 عاما، “لقد عثرنا على والديك الأصليين”. ردت “فينيشا” بذهول: “هل أنتِ جادة؟”.

اغرورقت عيناها بالدموع وتوجهت برفقة “يونغوو” إلى منزل والديها الأصليين، وتقول في الطريق: تراودني مشاعر مختلطة إذ تركت هذه البلدة منذ أكثر من 30 عاما.. لا يمكنني تخيل كيف سيكون لقائي بوالدي ووالدتي وشقيقي وشقيقتي.

كان اللقاء بين “فينيشا” وعائلتها حارا ومؤثرا وبكى الجميع، وبدأ الوالد يبرر سبب تخليه عن ابنته وأن قانون الطفل الواحد هو الذي دفعه لذلك خوفا من العقوبات، ولكن اللافت في قوله: كنت أتوق للحصول على ابن، لو كنتِ ولدا لما كنت تخليت عنك، لو لم يكن قانون الطفل الواحد صارما لما كنت تركت ترحلين.

أصبح لـ”فينشيا” عائلتان وكثير من الأقارب بعد عثورها على والديها الأصليين

 

وتدخل أختها على الخط لتخفف من وطأة اللقاء وطرح السؤال الأهم الذي كان في جعبة “فينيشا”: لماذا تخليتما عني؟

وتقول الأخت إن “الوالد حاول البحث عنكِ والعثور عليك، نشعر بالحزن طوال الوقت ولا نتوقف عن التفكير بك، هذا الأمر أصبح من الماضي، دعينا لا نعود له ونفتح صفحة جديدة”.

ورغم وجود “فينيشا” وسط عائلتها واستقبالهم لها بحرارة، فإنها لم تنس والدها بالتبني، خاصة بعد وفاة والدتها بالتبني.

وعن الإحساس الذي انتابها خلال تناول العشاء مع والديها الأصليين تقول: رغم أنه شجعني على هذه الخطوة فإنني متأكدة من أن والدي بالتبني حزين، لم أستطع التوقف عن التفكير به، كنت أفكر به هل تناوَل العشاء ومن حضّره له، اشتقت إليه.

عادت “فينيشا” إلى منزل والدها بالتبني، فكانت إعادة لم شملها بوالديها الأصليين كالحلم، وبات “لديها أقارب أكثر، هذا كل شيء، هدأ بالي بعد أن رأيتهم وكيف تسير الحياة معهم”.

أصبحت هذه الفتيات بين نارين، لا يعرفن ماذا يفعلن، فهل تتركن أهلا ربوا وكبروا وتعبوا عليهن، ثم ترحلن إلى الذين تخلوا عنهن لقوة قاهرة ولسبب لا ناقة لهم فيه ولا جمل.