“كوينسي”.. السفينة التي ولدت فوقها قصة حبّ من طرف واحد

خاص-الوثائقية

أواخر شهر مارس/آذار 2018، وفي إحدى قاعات البيت الأبيض بالعاصمة الامريكية واشنطن، يجلس الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وأمامه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي ظهر في البداية كطفل فرح بتحقق أمنية طال انتظارها.

يخاطب الرئيس الأمريكي ولي العهد السعودي قائلا: “أعتقد أنه أكبر استثمار بالنسبة إليكم، أي شراء أسهم في شركات أمريكية وخلق فرص شغل هنا.. أعتقد أننا أصبحنا أصدقاء في وقت قصير، فقد كنت في السعودية شهر مايو/أيار الماضي وجلبت مئات المليارات من الدولارات إلى الولايات المتحدة”[1].

في الواقع لم يكن هذا المشهد استثنائيا، بل هو مجرد حلقة في سلسلة من الخطابات والتغريدات التي قام بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مطالبا المملكة العربية السعودية بالدفع مقابل ما توفره لها الولايات المتحدة الامريكية من “حماية” حسب تعبير ترامب.

عاد هذا المشهد إلى أذهان الكثيرين، وقتما اندلعت حرب أسعار النفط بداية 2020، وقبل ذلك عندما نشرت السفارة الامريكية لدى المملكة العربية السعودية، صيف العام 2018، شريطا يتضمن لقطات تنشر لأول مرة، ويظهر فيها كل من الرئيس الأمريكي “فرانكلين روزفلت” والملك عبد العزيز آل سعود، وهما على متن البارجة الأمريكية “كوينسي” التي كانت تبحر في قناة السويس أوائل سنة 1945، باعتبار ذلك اللقاء من الأحداث المؤسسة للعلاقات الأمريكية السعودية، والذي جرى تحديدا يوم 14 فبراير الذي يعتبر “عيدا للحب” في بعض الثقافات[2].

اجتماع روزفيلت في جزيرة القرم الذي حدد مستقل أوروبا قبل وصوله لملاقاة الملك السعودي

 

الحصة الأمريكية من غنائم الحرب

تقول المصادر التاريخية إن الرئيس الأمريكي ” فرانكلين روزفلت”، وهو الخارج بانتصار كبير من حرب كونية طاحنة، بذل كل ما أمكنه من جهد دبلوماسي في ذلك اللقاء لإقناع الملك السعودي بإبرام الاتفاق النفطي-الأمني.

وتفيد هذه المصادر أن الرئيس الأمريكي أخذ بعين الاعتبار ثقافة ملك الدولة الإسلامية الأكثر تشددا وقتها، وتجنّب التدخين أثناء اللقاء، علما أن الاجتماع دام أكثر من خمس ساعات، وكان الرئيس الأمريكي وقتها معروفا بشراهته في التدخين، خاصة أثناء جلسات العمل. بل تزعم بعض المصادر إن روزفلت كان يعتذر من الملك السعودي، ويذهب ليدخن خلسة في أحد المصاعد، ثم يعود لاستئناف الاجتماع[3].

في تفاصيل اللقاء، لا تبدو الأجندة الدبلوماسية مختلفة عن الزمن الحاضر، حيث تعتبر المؤرخة الأمريكية “راشين برونسو”، في كتابها الشهير “أكثر من النفط”، أن المواضيع التي تم تداولها في تلك الجلسة لم تخرج عن النفط ووضع مدينة القدس والاستثمارات العقارية، ولم يخرج الرئيس الأمريكي من ذلك اللقاء، إلا وقد ضمن تدفق النفط السعودي لفائدة أمريكا بسعر تفضيلي، قاطعا الطريق على بريطانيا التي باتت منذ ذلك الحين تراقب خروج النفط العربي من تحت سيطرتها بعد الدخول الأمريكي على الخط[4].

قادما من مؤتمر “يالطا” الشهير، إلى العاصمة المصرية القاهرة عبر رحلة جوية، التحق الرئيس الأمريكي بالمدمرة الامريكية “كوينسي”، وهي تبحر في قناة السويس، المعبر الاستراتيجي في كل من المبادلات التجارية الدولية ولعبة المواجهة الجيوستراتيجية بين كبرى القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.

هناك على ظهر البارجة، استقبل روزفلت مؤسس الدولة السعودية، عبد العزيز ابن عبد الرحمن آل سعود، في لقاء طويل تصدّرت جدول أعماله نقطتان، هما كل من الهجرة اليهودية المكثفة نحو فلسطين، ومحاولات تأسيس دولة خاصة بهم فيها، ومصير الاحتياطيات الضخمة من البترول الرابضة في بطن الأراضي السعودية، وذلك في ما بدا تنزيلا لنتائج مؤتمر يالطا حول تقاسم النفوذ عالميا، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وبريطانيا. ولم يكن الملك السعودي الضيف الوحيد خلال هذه الزيارة، بل استقبل روزفلت على ظهر السفينة أيضا كلا من الملك المصري فاروق، والامبراطور الأثيوبي “هايلي سيلاسي”[5].

الملك عبد العزيز آل سعود يصل إلى المدمرة الأمريكية “كوينسي” حيث صفقة النفط مقابل الحماية

 

مشروع دولة اليهود فوق الطاولة

في الوقت الذي يُجهل فيه لحد الآن ما دار بين الملك عبد العزيز وروزفلت حول موضوع القدس بالتحديد، فإن بعض المصادر تقول إن الرئيس الأمريكي فشل رغم التفوّق الأمريكي الواضح، في انتزاع موافقة الملك السعودي على فكرة إقامة دولة يهودية في فلسطين.

فيما تشير مصادر أخرى، من بينها بعض الأصوات السعودية المعارضة، إلى أن اللقاء شهد إعطاء مؤسسة الدولة السعودية الضوء الأخضر لتأسيس الدولة اليهودية فوق أرض فلسطين، بالنظر إلى المكانة والرمزية اللتين يتمتع بهما خادم الحرمين الشريفين في العالم الإسلامي[6].

وتنسب بعض المصادر إلى الملك السعودي، قوله خلال لقائه مع روزفلت الذي فاتحه بشأن فكرة ترسيم الوجود اليهودي في فلسطين من خلال الاعتراف بدولتهم الآخذة في التشكل، إنه لا يفهم كيف يمكن أن يُطالب العرب بالتكفير عن ذنوب هتلر في حق اليهود، بينما توجد دول أخرى لها قدرة أكبر على مساعدتهم. وتذهب بعض المصادر إلى أن أرشيف الكونغرس الأمريكي، يتضمن حديث روزفلت في تقريره الخاص بهذه الزيارة، عن خمس دقائق ثمينة من الحديث الذي جمعه بالملك السعودي، والتي قال إنه اطلع فيها على ما لم تمكنه عشرات المراسلات من معرفته حول الموقف العربي والإسلامي من مشروع الدولة الجديدة[7].

في حوار أجرته مجلة “لايف” (live) الأمريكية مع العاهل السعودي المؤسس عبد العزيز، متم شهر مايو/أيار 1943، يسأل الصحافي الأمريكي حول الموقف السعودي من فكرة تأسيس دولة يهودية في فلسطين، فكان جواب الملك: “رأيي في مسألة فلسطين لم أعلن عنه حتى الآن للعرب، تحاشيا لأن أضعهم في موقف محرج مع الحلفاء، ولكن بمناسبة زيارتكم لنا وبموجب أننا أصدقاء، أحببت اطلاعكم على ما لدي لأجل بيانه للشعب الأمريكي الصديق، ليفهم الحقيقة”، مضيفا أنه لا يعلم مبررا لمطالب اليهود بتأسيس دولة لهم في فلسطين، “لأن فلسطين كانت من قبل البعثة المحمدية بقرون لبني إسرائيل، وقد تسلط عليهم الرومان في ذلك الوقت وقتلوهم وشتتوا شملهم ولم يبق أثر لحكمهم فيها”[8].

ويضيف الملك عبد العزيز في هذا الحوار، أن العرب انتزعوا فلسطين من الرومان منذ 1300 سنة، وأنها أصبحت منذ ذلك الوقت بيد المسلمين، وهو ما يفيد برأيه أنه ليس لليهود حق في دعواهم، مشيرا إلى أنهم إذا كانوا يريدون مكانا يسكنون فيه فإن بلاد أوروبا وأمريكا أخصب من بلاد فلسطين، “وهذا هو الإنصاف ولا فائدة في إدخال الحلفاء والمسلمين في مشكلة ليس من ورائها طائل”[9].

 

علاقة نشأت في غفلة من بريطانيا

يعود تاريخ بدء العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الامريكية، إلى العام 1940، وظل البلدان منذ ذلك الحين يقيمان تحالفا قويا رغم الاختلافات التاريخية والثقافية والجغرافية الكبيرة بينهما. وتوثّق هذا التحالف أكثر خلال الحرب العالمية الثانية، مع مواجهتهما معا للمد الشيوعي ومراهنة السعوديين بشكل كامل على الاقتصاد الغربي لاستثمار عائداتهم النفطية[10].

فقد كانت بريطانيا أول دولة تعترف بدولة آل سعود التي ضمت شبه الجزيرة العربية كاملة تقريبا، حين وحّدها الملك عبد العزيز تحت سلطته عام 1928. قبل أن يحدث التحول بعد اشتعال الحرب العالمية الثانية، حيث وجد آل سعود في القوة الامريكية بديلا عن البريطانيين، خاصة بعد الأضرار التي خلفها القصف الإيطالي للمنشئات النفطية السعودية خلال الحرب[11].

فقد كانت بريطانيا تسيطر على شبه الجزيرة العربية منذ أن انتزعتها من يد الخلافة العثمانية عام 1918، حيث أصبحت المملكة المتحدة تفرض منذ ذلك الحين على الإمارات القائمة في المنطقة، عدم القيام بأية معاملات تجارية مع الشركات غير البريطانية.

لكن السلوك البريطاني في هذه الفترة، ميّزه سوء تقدير للمخزون النفطي الكامن تحت أراضي شبه الجزيرة العربية، حيث سجلت سابقة أولى في بداية العشرينيات، حين سمح البريطانيون بانطلاق استغلال بئر في منطقة “حصة” السعودية، من طرف شركة أمريكية[12].

وحاول البريطانيون خلال فترة الحرب العالمية الثانية، استرجاع نفوذهم الآخذ في التلاشي في المنطقة العربي لصالح الأمريكيين، حيث قامت المملكة المتحدة بنشر قواتها في العراق لحماية آبار البترول المكتشفة فيه، كما قامت بدحر القوات الألمانية من سوريا، رغم أن هذه الأخيرة كانت تحت الانتداب الفرنسي؛ لكن الأمريكيين لم يكونوا غافلين عن المنطقة، حيث كانت قواتهم تتخذ مواقع لها في السواحل الإيرانية، لدعم القوات السوفياتية في مواجهة ألمانيا[13].

 

علاقة ولدت من صلب البترول

مهّد الرئيس الأمريكي روزفلت، للقائه الشهير بالملك السعودي على ظهر السفينة “كوينسي”، باستثمار التوجس العربي والإيراني من الوجود البريطاني في المنطقة، لجرّ دول المنطقة نحو التقارب مع بلاده، وهوما تجسّد في ما يعرف بمؤتمر طهران الذي جمع الرئيس الأمريكي بنظيره السوفياتي، ستالين، ورئيس الوزراء البريطاني، تشرشل، أواخر شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1943.

كل من روزفلت وتشرشل كانا قد حلّا بالعاصمة الايرانية قادمين من العاصمة المصرية القاهرة، حيث التقيا إلى جانب عدد من الشخصيات العربية والإسلامية، بالرئيس الصيني للتنسيق معه بخصوص الحرب ضد اليابان. وهناك في طهران، اتفق الحلفاء على خطة الإنزال العسكري في أوروبا الغربية، وبدأوا في التخطيط لتقسيم ألمانيا[14].

مباشرة بعد مؤتمر طهران، وعلى إثر عودته إلى العاصمة الامريكية واشنطن، قام الرئيس روزفلت بتوجيه طلبه إلى الكونغرس، لإضافة المملكة العربية السعودية إلى قائمة الدول المستفيدة من القروض التي تقدمها الولايات المتحدة الأمريكية للدول التي تواجه ألمانيا النازية، وذلك إلى جانب إثيوبيا التي كانت تواجه الهجوم الايطالي[15].

في المقابل يعتبر لقاء “كوينسي” مؤسسا للتحالف الأمريكي السعودي، حيث أبرم بين الملك المؤسس للمملكة عبد العزيز آل سعود، والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، العلاقات النفطية بين البلدين، ويمكن تلخيصه في توفير الحماية الأمريكية للسعودية مقابل الحصول على نفطها.

شركة “ستاندار أويل كاليفورنيا” حصلت على عقد مدته 60 عاما يسمح لها بالتنقيب عن النفط شرق السعودية

 

تجديد العهود.. لا نخلف لكم وعدا

جرى توقيع الاتفاقية لتدوم 60 عاما فقط، لكنها جددت في العام 2005 لفترة جديدة من 60 عاما أخرى. وعلى خلفية الاضطرابات التي عرفها سوق النفط مستهل العام 2020، وخاصة بسبب المواجهة التي جرت المملكة العربية السعودية وروسيا حول كيفية التحكم في الأسعار، وهي التطورات التي كشفت استمرار القبضة الأمريكية على القرار السيادي السعودي، من خلال تكريس الارتهان السعودي للمصالح الأمريكية في المجال النفطي.

كان عهد التجارة القائمة على الحرير والتوابل القادمة من الشرق يعيش لحظات أفوله، بينما كانت رائحة النفط تتصاعد من قلب المنطقة العربية، مثيرة شهية القوى الدولية الكبرى. أما سياسيا، فكان العرب يشعرون بلدغات الثنائي الفرنسي-البريطاني، الذي أبان عن حرص كبير على التلاعب بالعرب، بعدما خدّرهم بالوعود المعسولة في فترة تحريضهم ضد الوجود العثماني في المنطقة. هذا ما يفسّر سهولة تموقع العملاق الأمريكي في المنطقة، ومجيء رئيسه بشكل شخصي للقاء قادة المنطقة، وفي مقدمتهم مؤسس الدولة السعودية.

وتسجّل المصادر التاريخية بعض التفاصيل، التي تؤكد الحرص الأمريكي الكبير على إرضاء الملك السعودي، والحصول منه في المقابل على التزام بتخصيص نفطه لتلبية حاجيات الاقتصاد الأمريكي. ومن هذه التفاصيل، أن الملك عبد العزيز صعد إلى السفينة “كوينسي”، ومعه ثمانية من الخرفان الحية، لكونه لا يقبل من الطعام سوى لحم الضأن التي يذبحها مرافقوه بأنفسهم[16].

منذ ذلك الحين، يكاد تاريخ العلاقات الأمريكية السعودية يقتصر على سجلات الشركات النفطية الأمريكية. فمباشرة بعد إعلان ميلاد المملكة العربية السعودية عام 1932، حصلت شركة “ستاندار أويل كاليفورنيا” على عقد مدته 60 عاما يسمح لها بالتنقيب عن النفط في المنطقة الواقعة شرق المملكة، وهو العقد الذي أسفر عن أول اكتشاف قابل للاستغلال سنة 1938، وذلك بعد تأسيس تحالف بين شركة كاليفورنيا وشركة تكساس الأمريكيتين، قبل أن يسفر ذلك عن تأسيس الشركة العربية-الأمريكية (أرامكو) سنة 1944 [17].

كانت تلك مجرد بداية للعهد النفطي السعودي، حيث لم يكن بئر “الدمام7” الذي افتتحه الأمريكيون ذي الطاقة الإنتاجية التي تناهز 1600 برميل في اليوم، سوى بداية رفع الغطاء عن الاحتياطي البترولي الضخم للمملكة العربية السعودية، في وقت كانت الولايات المتحدة الامريكية تقدم على خروجها الكبير من انعزالها التقليدي، لتصبح بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أكبر قوة عالميا.

بدأت إرهاصات التحالف الأمريكي السعودي على أساس نفطي، بإعلان الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت عام 1943، والعالم يعيش ذروة الحرب الكونية الثانية، أن الدفاع عن المملكة العربية السعودية يعتبر مصلحية حيوية بالنسبة لأمريكا، وهو ما تمت ترجمته إلى أول قاعدة عسكرية أمريكية فوق تراب المملكة، أي قاعدة “الظهران” الواقعة إلى الشرق من الأراضي السعودية[18].

الملك السعودي المؤسس على متن المدمرة كوينسي في لقاء تاريخي مع الرئيس الأمريكي روزفلت عام 1945

 

لقاء “كوينسي”.. علاقة الحب

ما جعل العلاقات الأمريكية السعودية تتخذ بعدا استراتيجيا، هو الاتفاق الذي جرى توقيعه على ظهر المدمّرة الامريكية “كوينسي”، التي كان الرئيس الأمريكي على متنها عائدا من مؤتمر “يالطا” الذي انعقد بمناسبة انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث جرت استضافة الملك السعودية على متنها خلال مرورها قبالة سواحل بلاده، لتوقّع اتفاقية “النفط مقابل الحماية”، على أساس امتداد العمل بها لمدة ستين عاما.

كان الرئيس الأمريكي عائدا لتوه من المؤتمر الذي جمعه بكل من رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل ورئيس الاتحاد السوفياتي جوزيف ستالين، والذي انعقد في شبه جزيرة القرم، لرسم معالم النظام العالمي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية[19].

أفضى هذا النظام إلى الحرب الباردة، لكنه منح للولايات المتحدة مكانة مركزية في العلاقات الدولية، بعدما كان تدخلها حاسما في إنهاء الحرب وهزيمة ألمانيا النازية. وهو ما يوضّح السياق الذي جاء فيه اتفاق “كوينسي” الأمريكي السعودي، أي أن أقوى دولة في النظام الجديد تضع يدها على أكبر مخزون نفطي في العالم، مقابل “حماية” المملكة العربية السعودية.

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة شديدة الاهتمام بمنع انتشار ما تصفه بـ”المد الشيوعي” الى الجزيرة العربية، واتبعت استراتيجية تهدف الى احتواء هذا المد، ما أدى إلى تقوية الحلف مع السعودية. كما وعدت ادارة الرئيس الامريكي “هاري ترومان” الذي وصل إلى الحكم بعد الحرب، الملك عبد العزيز بأن الولايات المتحدة ستتكفل بحماية السعودية من النفوذ السوفييتي. وبموجب اتفاقية دفاعية وقعت في عام 1951، أسست الولايات المتحدة بعثة تدريب عسكرية دائمة في السعودية[20].

الملك فيصل بن عبد العزيز في لقاء مع الرئيس الأمريكي ليندون جونسون سنة 1966

 

صمود التحالف رغم المطبات

شهد التحالف الأمريكي السعودي فترة فراغ في بداية حكم الملك سعود بن عبد العزيز، والذي لم يكن متحمسا لمواصلة سياسة مواجهة المد الشيوعي لصالح الأمريكيين. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1955، وردّا على التحالف الذي دعا اليه الرئيس “آيزنهاور” والذي ضم معظم اعداء المملكة في المنطقة، قرر الملك سعود تأييد السياسة المؤيدة للاتحاد السوفيتي التي كان يعتمدها الزعيم المصري جمال عبد الناصر، كما طرد القوات الأمريكية واستبدلها بقوات مصرية. وخلال أزمة السويس والعدوان الثلاثي عام 1956، عاد الملك سعود للتعاون مع الولايات المتحدة بعد أن عارض الرئيس الأمريكي “آيزنهاور” الخطة البريطانية الفرنسية الاسرائيلية لاحتلال قناة السويس[21].

لا تخلو العلاقات الأمريكية السعودية من هزات سياسية رغم الطابع الاستراتيجي للتحالف القائم بين الدولتين. وأهم تلك الهزات التي أصابت هذا الحلف، ترتبط بشكل مباشر بالملف النفطي، حيث قام الملك فيصل بن عبد العزيز، باستعمال الثروة النفطية كسلاح ضد الولايات المتحدة الأمريكية، بسبب دعمها لإسرائيل في حربها ضد الجيوش العربية فيما يعرف بحرب “أكتوبر 1973”.

ففي 17 من شهر أكتوبر من تلك السنة، أعلنت الدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، قرارها وقف الإمدادات النفطية عن القوى الغربية الداعمة لإسرائيل، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. موقف اعتبرته واشنطن خرقا لاتفاقية “كوينسي” التاريخية بين البلدين، ولا يستبعد البعض أن يكون وراء عملية اغتيال الملك فيصل بعد أقل من سنتين، على يد ابن شقيقه، فيصل بن مساعد بن عبد العزيز، الذي كان وقتها يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية[22].

وبعد قيام المملكة العربية السعودية على تأميم القطاع النفطي في نهاية عقد السبعينيات، واندلاع الثورة الإسلامية في إيران مسقطة حكم نظام “الشاه” الذي كان يعتبر من أكبر حلفاء الولايات المتحدة الامريكية في المنطقة، اتخذت المملكة العربية السعودية موقع الحليف الأول لواشنطن في الشرق الأوسط، وعاد النفط ليشغل موقعه المركزي كرقم أساسي يقابله معطى الحماية العسكرية الأمريكية للسعودية في مواجهة التهديد الإيراني[23].

المدمرة كوينسي صاحبة الفضل في ضمان الثروات النفطية السعودية لخزائن أمريكا

 

المدمّرة التي حملت لقاء الصفقة

البارجة “كوينسي” هي واحدة من رموز القوة العسكرية الأمريكية التي جسمت الحرب العالمية الثانية لصالح الحلفاء. كانت تحمل في البداية اسم “يان بول”، قبل أن يصبح اسمها الرسمي هو “يو إس إس كوينسي CA-71”. شاركت هذه البارجة الحربية الأمريكية في عملية الإنزال العسكري الشهيرة التي جرت في سواحل فرنسا لإطلاق الهجوم ضد ألمانيا من الجانب الغربي، وذلك في صيف العام 1944. كما شاركت هذه البارجة العسكرية في عمليات هجومية أخرى إلى جانب الحلفاء[24].

منذ “ميلادها” في أواخر العام 1941، كانت “كوينسي” مخصصة لشن الهجمات ضد الأهداف العسكرية وذلك على بعد مسافات بعيدة. مهمة قامت بها هذه المدمرة بنجاح، سواء في الحرب العالمية الثانية أو في وقت لاحق مع الهجوم الأمريكي على شبه الجزيرة الكورية عام 1953، ويبلغ طولها أكثر من مائتي متر، وقدرتها على الإبحار تتجاوز سرعة 33 عقدة بحرية في الساعة، وطاقة تحمّل تستوعب حتى ألفي رجل فوق ظهرها، وقد قضت “كوينسي” ثلاثة عقود من الخدمة العسكرية في صفوف الجيش الأمريكي، قبل أن تحال على “التقاعد” سنة 1973، ليتم تدميرها في سنة واحدة بعد ذلك.

قبل أن يتم تجديد الاتفاقية ليستمر العمل بها لمدة 60 عاما إضافية، عام 2005، كان اسم “كوينسي” قد تحوّل إلى كلمة مفتاحية لدى جميع الأكاديميين والدبلوماسيين عبر العالم، باعتبارها مدخلا لفك شيفرة أي موضوع يرتبط بكل من سوق النفط العالمي، أو العلاقات الأمريكية السعودية.

ويذهب بعض الدارسين إلى تفسير سر احتفاظ العلاقات الأمريكية السعودية بمتانتها، رغم كل ما عرفته المنطقة العربية من اعتداءات وتدخلات أمريكية وإسرائيلية، هو هذا الاتفاق الذي جرى توقيعه بين الملك عبد العزيز والرئيس “روزفلت”، فوق مياه قناة السويس.

تجديد عقد بيع النفط مقابل الحماية ستين سنة أخرى بين الملك عبد الله وبوش الابن

 

هل دنت نهاية الاتفاق؟

ما حصل بين نهاية 2019 و2020، مع الانهيار الشامل الذي عرفته أسعار النفط عالميا، هو أن تقدير واشنطن لاتفاقها النفطي التاريخي مع المملكة العربية السعودية بات مختلفا، مع تراجع أهمية منطقة الشرق الأوسط في الأجندة الدبلوماسية الأمريكية، مقابل صعود مناطق أخرى تقع في شرق آسيا على الخصوص. كما جاء النفط الصخري الأمريكي ليغيّر نظرة الولايات المتحدة الامريكية للنفط السعودي، حيث لم تعد القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى في العالم معتمدة على هذا النفط بالشكل السابق، وهو ما صرّح به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه[25].

أكثر من ذلك، بات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يبدو كما لو أنه يحرص على تحقيق انفراجة كبرى في العلاقات الامريكية الإيرانية، قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية المرتقبة في أكتوبر 2020، والتقاط ولو صورة مع الرئيس الإيراني محمد روحاني على هامش أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة التي ستنعقد مباشرة قبل تلك الانتخابات، ليبدو في هيئة الرئيس الذي خلّص الأمريكيين من عداء دولة “مارقة” مثل إيران، تماما مثلما أبرم اتفاقا مع حركة طالبان الأفغانية لتخليص الجيش الأمريكي من ورطته الطويلة هناك! فيما يبدو حكام السعودية كما لو أنهم يتعمدون تجاهل كل هذه التحولات ويصرّون على استمرار الرهان الكامل على علاقاتهم بدونالد ترامب[26].

 

المصادر

[1] https://www.youtube.com/watch?v=ftNyZB0GL8c

[2] https://www.youtube.com/watch?v=_2ly11FTwwU&feature=emb_title

[3] shorturl.at/aemK9

[4] shorturl.at/mrNR4

[5] https://www.lorientlejour.com/article/938052/le-jour-ou-roosevelt-et-ibn-saoud-ont-scelle-le-pacte-du-quincy.html

[6] https://www.al-binaa.com/archives/article/2485

[7] https://www.lorientlejour.com/article/938052/le-jour-ou-roosevelt-et-ibn-saoud-ont-scelle-le-pacte-du-quincy.html

[8] https://twitter.com/jldoon/status/1193873553659224064

[9] https://arabic.sputniknews.com/arab_world/20191117104

[10] https://www.bbc.com/arabic/middleeast-40001070

[11] https://www.bbc.com/arabic/middleeast-40001070

[12] https://www.herodote.net/14_fevrier_1945-evenement-19450213.php

[13] https://www.herodote.net/14_fevrier_1945-evenement-19450213.php

[14] https://www.herodote.net/almanach-ID-2263.php

[15] https://www.herodote.net/14_fevrier_1945-evenement-19450213.php

[16] https://www.lorientlejour.com/article/938052/le-jour-ou-roosevelt-et-ibn-saoud-ont-scelle-le-pacte-du-quincy.html

[17] https://www.cfr.org/backgrounder/us-saudi-arabia-relations

[18] http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=549993&r=0

[19] shorturl.at/nLV25

[20] https://www.bbc.com/arabic/middleeast-40001070

[21] https://www.bbc.com/arabic/middleeast-40001070

[22] http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=549993&r=0

[23] https://www.cfr.org/backgrounder/us-saudi-arabia-relations

[24] https://www.lorientlejour.com/article/938052/le-jour-ou-roosevelt-et-ibn-saoud-ont-scelle-le-pacte-du-quincy.html

[25] shorturl.at/buyDM

[26]shorturl.at/kxFU0