ليبيا.. آلام مخاض مغادرة قرن من العزلة

لا يعود عزل وتغييب ليبيا عن أولويات الأجندة الدولية والإقليمية إلى ثورات الربيع العربي فقط، بل إن هذا الخروج من المشهد بدأ منذ قاد العقيد الراحل معمر القذافي ورفاقه ثورة أطاحت بالملكية سنة 1969، حيث اكتفت ليبيا بأدوار محدودة في العمق الأفريقي، وغابت عن المشهدين العربي والمتوسطي.

فمنذ 53 عاما صارت ليبيا ذات المساحة القارية والثروة الهائلة والموقع الإستراتيجي خارج الحسابات الجيوستراتيجية الإقليمية والدولية، حيث التقت قبضة القذافي الدكتاتورية مع ظروف الحرب الباردة ثم النظام العالمي الجديد بعد سقوط جدار برلين، ليحوّل كل ذلك ليبيا إلى قاعة انتظار مترامية الأطراف.

 

المعاهدة الليبية التركية الجديدة التي أبرمت مؤخرا وأفسحت المجال أمام انتقال قوات ومعدات عسكرية تركية إلى السواحل الليبية من أجل وقف الزحف الدموي لقوات المشير خليفة حفتر المدعوم من محور دول الثورات المضادة، أدت إلى إحياء الدور والأهمية الاستراتيجيين لليبيا، تماما مثلما كانت قبل قرن من الزمان في قلب الصراعات بين القوى الاستعمارية الأوروبية التي انتهت باندلاع الحرب العالمية الأولى.

منطقة اقتصادية خالصة.. كسر مزدوج للحصار

جاء اتفاق إنشاء منطقة اقتصادية خالصة للتجارة مع ليبيا استجابة متأخرة ومباشرة لاستبعاد تركيا من منتدى شرق المتوسط ​​للغاز الذي يتخذ من القاهرة مقرا له، وهو هيكل طاقة إقليمي يضم مصر وإسرائيل واليونان وقبرص الرومية، ويهدف إلى السيطرة على إنتاج الغاز في شرق البحر المتوسط.

ومن بين ما مهّد لهذا الاتفاق -ويفسِّر في الوقت نفسه التصعيد المصري ضده- اكتشاف حقل غاز “ظهر” قبالة سواحل مصر عام 2015، من قبل شركة “إيني” الإيطالية العملاقة. اكتشاف جعل مصر تنتقل من مجرد الاكتفاء المحلي من الغاز إلى تطوير هدف استراتيجي لاستخدام مصانع الغاز الطبيعي المُسال الحالية لتحويل القاهرة إلى مركز إقليمي لصادرات الغاز من شرق البحر المتوسط ​​إلى أوروبا.

من هنا نشأت الخلافات المصرية التركية حول تحديد المياه الإقليمية في شرق المتوسط، فتركيا لا تعترف بالمنطقة الاقتصادية الخالصة المقبولة دوليا لجزر إيجة اليونانية، وإنما تعترف بالمنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص التي تستفيد منها الدولة القبرصية التركية غير المعترف بها دوليا، إلى جانب قبرص الرومية، الوصي القانوني على الجزيرة بأكملها.

وفي الوقت الذي تجد فيه مصر دعما لموقفها من جانب حلفائها في الخليج وإسرائيل، فإن اليونان ومعها قبرص تجدان دعما في الاتحاد الأوروبي، مما جعل تركيا بين فكي الكماشة وأرغمها على الخروج المباشرة بقوتها العسكرية لكسر العزلة التي تحاك ضدها.

إعادة ترسيم الحدود بين تركيا وليبيا زاد من عدد المتصارعين على الثروات في البحر المتوسط

ويتزامن هذا الصراع الاستراتيجي مع الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط، مما يخلّف فراغات تملأها قوى أخرى مثل روسيا والإمارات العربية المتحدة وإيران وتركيا، مع تشكّل تحالفات جديدة ترمي في قسم كبير منها إلى محاصرة النفوذ التركي في المنطقة، خاصة عبر مربع الغاز في شرق المتوسط الذي يتشكل بين مصر وإسرائيل واليونان والجزء الموالي لها من قبرص.

ويُعتبر الاتفاق الموقع حديثا بين ليبيا وتركيا، نقطة تحوّل إستراتيجي في أوضاع المنطقة، باعتباره يُخرج كلا من تركيا وحكومة فايز السراج في طرابلس من وضع العزلة الذي يُفرض عليهما، فالاتفاق البحري بين الدولتين يجعل خط أنبوب الغاز المصري-الإسرائيلي يمرّ بمياه إقليمية لتركيا أو ليبيا، المرتبطتين في الوقت نفسه باتفاق دفاع مشترك.

الكعكة الليبية.. كل يغني على ليلاه

ليبيا هي دولة تمتد على مساحة تساوي ثلاثة أضعاف مساحة فرنسا، ولها كثافة سكانية تقل بنحو عشر مرات عن ساكنة هذه الدولة الأوروبية. سكان وإن كانوا قلة من حيث العدد، إلا أنهم يعتبرون الأغنى في أفريقيا -نظريا- وفي الرتبة الثامنة عالميا، باحتساب حصة الفرد الليبي من عائدات النفط.

وتُعتبر ثلاث دول كبرى هي أولى المعنيين بمصالحها المباشرة داخل ليبيا، وهي إيطاليا وفرنسا وروسيا. لكن المسؤولين الإيطاليين وخاصة منهم مسؤولي الاستخبارات، يعتبرون ليبيا مجالا حصريا لهم، نظرا لماضيهم الاستعماري في ليبيا ولقربهم من سواحلها. ويفسّر هذا الوضع التقارب الحاصل بين فرنسا وروسيا في الملف الليبي، والتقائهما في دعم قوات الفريق المتقاعد خليفة حفتر، كما تنسقان أنشطة شركتي “توتال” الفرنسية و”روسنيف” الروسية العاملتين في ليبيا.

أما الحضور والنفوذ التركيان في ليبيا فلم يُستحدثا مع الاتفاق الأخير، بل تُعتبر مدينة مصراتة الاستراتيجية معقلا تاريخيا للحضور التركي، ويتمثل هذا الحضور في ساكنة تنحدر من أصول شركسية، انتقلت إلى مصراتة في النصف الثاني من القرن الـ19 هربا من الجيش الروسي، حيث توزعوا بين مناطق في كل من سوريا ولبنان ومصر وليبيا.

تسارع إحياء هذه الروابط التاريخية بعد إعلان حفتر زحفه على طرابلس بدءا من مستهل أبريل/نيسان 2019، حينها تغيّر موقع كل من تركيا الأردوغانية ومصر السيسية، خاصة بعدما خطت تركيا خطوة إضافية في دعمها لحكومة السرّاج، وتدخلها بشكل عسكري حاسم لمنع الاختلال التام لميزان القوى الميدانية لصالح حفتر.

فبعد أسابيع من الحصار الخانق الذي فرضته قوات اللواء المتقاعد على العاصمة الليبية طرابلس، قامت تركيا يوم 18 مايو/أيار 2019 بإرسال شحنة من الأسلحة إلى قوات الحكومة الليبية في طرابلس. وهي خطوة لم يُسمع صداها في أي من العواصم الدولية بقدر ما تردّد في القاهرة من تحذيرات من انعكاسات ذلك على الأمن القومي المصري.

وتتجسد المصالح التركية في ليبيا -علاوة على الصراع الاستراتيجي ضد خصومها- في حق الملاحة البحرية المدنية والعسكرية، وأساسا في المخزون الكبير من النفط والغاز في مياه هذه المنطقة غير البعيدة من السواحل الليبية.

معاهدة لوزان.. قصة الاستعمار الإيطالي

دام الحكم العثماني في ليبيا 360 عاما، تخللتها فترة من الاستقلال الذاتي تشمل قسما من القرن الـ18 وبداية القرن الـ19، حين كانت ليبيا تحت حكم الأسرة “القرمنالية” التركية. ومنذ عودة الحكم العثماني عام 1835، تناوب على حكم ليبيا 33 واليا، حيث كان عدم استقرار الولاة دافعا لهم للجشع في جمع الأموال وعدم الاهتمام بإصلاح الأوضاع المحلية.

وبقدر ما سهّل تدهور الأوضاع المحلية عملية التسلل الاستعماري الإيطالي في ليبيا، فإن المقاومة الليبية للتدخل الاستعماري كانت على تنسيق وتحالف مع السلطة العثمانية، وهو عكس ما فعله المشرق العربي، خاصة بعد سقوط كل من الجزائر وتونس تحت سيطرة فرنسا، ومصر تحت الاستعمار البريطاني.

ومما أخر احتلال ليبيا من طرف إيطاليا أن الدولة العثمانية سارعت إلى إرسال نحو 10 آلاف من جنودها لحمايتها بعد سقوط الجزائر، لكن هذا المجهود العسكري بقي محدودا ومنحصرا في حامية طرابلس.

العثمانيون يسحبون جيوشهم من ليبيا عملا بمعاهدة لوزان سنة 1912

لقد كان الاحتلال الإيطالي لليبيا من نتائج تقاسم القوى الاستعمارية لأراضي الإمبراطورية العثمانية لحظة دنو سقوطها بداية القرن الـ20. وينبغي فهم السيطرة الإيطالية على ليبيا من خلال استحضار تزامنها مع السيطرة البريطانية على كل من مصر والسودان، والسيطرة الفرنسية على المغرب العربي.

فقد أظهرت إيطاليا منذ أواخر القرن الـ19 أنها الأقدر من حيث الحضور البشري والاستراتيجي على احتلال ليبيا، وخاصة منها منطقتي طرابلس وبرقة. وبعد مفاوضات طويلة مع القوى الأوروبية الأخرى، جرت اتفاقات سرية بينها وبين ألمانيا في 1887 وفرنسا في 1900، والنمسا والمجر وبريطانيا وإسبانيا في 1902، ثم إسبانيا في 1909.

حصلت إيطاليا في نهاية الأمر على تنازل من الدولة العثمانية على ممتلكاتها في ليبيا، ليس بناء على معارك عسكرية، بل نظرا لاعتبارات خاصة بالضغوط الأوروبية المتزايدة على العثمانيين، واستشعار هؤلاء ضعفهم الداخلي الذي لا يسمح لهم بخوض مواجهات عسكرية كبيرة.

وبتوقيع العثمانيين والإيطاليين لمعاهدة لوزان يوم 18 أكتوبر/تشرين الأول 1912، سحب العثمانيون جيشهم وأبلغوا إيطاليا أن السلطان منح لطرابلس استقلالها لتقرر مصيرها بنفسها، ثم سارعت إيطاليا إلى مطالبة الأوروبيين بالاعتراف بحيازتها لطرابلس وبرقة، فيما اعتبر السنوسيون أن الخطوة تعني استقلال ليبيا وليس خضوعها لإيطاليا، حيث قاد أحمد الشريف السنوسي معارضة السيطرة الإيطالية على ليبيا لتندلع حرب المقاومة، خاصة وأن السلطات العثمانية فوّضت له أمر ليبيا بعد منحها الاستقلال.

عمر المختار والرضا.. مقاومة عسكرية وسياسية

واجهت إيطاليا بعد هذا التنازل العثماني مقاومة ليبية شرسة، خلّدتها كتب ووثائق التاريخ، لكنها انتهت بقمعها بشكل وحشي من جانب إيطاليا، رغم مواصلة العثمانيين وقوى إسلامية أخرى دعم المقاومة بشكل غير معلن، ورغم العلاقات الودية التي كانت تجمع السنوسيين أيضا ببريطانيا المهيمنة على مصر المجاورة.

وتعود بداية علاقة السنوسيين ببريطانيا إلى العام 1909، حين اصطدم المد التبشيري الفرنسي القادم من تشاد وجنوب الجزائر، مع العمل الدعوي الإسلامي الذي تقوم به الزاوية السنوسية، وأصيب العمل الإسلامي بنكسة كبيرة بسبب القوة العسكرية الفرنسية، وصادف ذلك أن مات والد إدريس السنوسي الذي سيصبح ملكا لليبيا، وتولى رئاسة الحركة السنوسية ابن عمه أحمد الشريف السنوسي نيابة عن إدريس الذي كان في الـ12 من عمره.

استنجد أحمد السنوسي وقتها بالخلافة العثمانية فلم يجد منها دعما كافيا، بالنظر إلى الظروف الصعبة التي كانت تعيشها بدورها، فلم يجد غير البريطانيين المسيطرين عمليا على مصر لطلب النجدة ووقف الزحف العسكري والتبشيري الفرنسي، فتدخلت بريطانيا وحملت فرنسا على الانسحاب من واحة “الكفرة” التي قامت باحتلالها. هنا يقال إن إدريس السنوسي تأثر بالموقف البريطاني وبقي حاملا لهذا الجميل بقية حياته، وهو ما سيفسر ما يعتبره البعض ولاء لبريطانيا لاحقا.

عمر المختار قاد جهادا ضد المحتل الإيطالي، فوقع أسيرا ومن ثم تم إعدامه

فبعد انسحاب الأتراك من الجبهة الليبية عام 1912 واستبسال المقاومة المحلية بدعم إسلامي كبير ودخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا، عاد الجيش العثماني ليحط رحاله على السواحل الليبية، وحاول دفع المقاومين الليبيين نحو مهاجمة القوات البريطانية في مصر، وهو ما رفضه السنوسيون معتبرين أن أولويتهم هي دفع الاحتلال الإيطالي عن بلادهم.

توالت الضغوط العثمانية لاحقا على أحمد الشريف السنوسي، واتخذت بُعدا إسلاميا جعل من شبه المستحيل الإصرار على رفض الدخول في حرب مع البريطانيين، وهو ما واجهته بريطانيا بحزم واستنفار كبيرين، خوفا من تحول الهجوم السنوسي بتفويض من الخليفة العثماني إلى ثورة إسلامية محلية داخل مصر، وفي لحظة الهزيمة واستشعار الخطأ، سلّم أحمد السنوسي قيادة الحركة لابن عمه إدريس، الذي سيصبح ملكا لليبيا بعد استقلالها وقد حاول إصلاح العلاقات مع بريطانيا من جديد، فتوصل إلى صلح معهم أوقف بموجبه الحرب في مصر، وأعاد الضباط الأتراك إلى بلادهم.

بعد وصول “موسيليني” إلى الحكم في إيطاليا سنة 1922، استشعر إدريس السنوسي الخطر على نفسه، حيث تبدلت السياسة الإيطالية تجاه ليبيا، فقرر اختيار منفاه في مصر، مفوضا قيادة الحركة لأخيه الرضا، والقيادة العسكرية لعمر المختار.

لكن السلطات الإيطالية واصلت هجومها، وقبضت على الرضا وقامت بنفيه، كما حلّت برلمان برقا، وصار عمر المختار قائدا لأعمال المقاومة ميدانيا، فيما بقي إدريس مقيما في مصر متابعا للأحداث، إلى أن التقت مصالح الوطنيين الليبيين مع المصالح البريطانية بتنامي الأحداث التي أدت إلى الصدام بين المعسكرين البريطاني والإيطالي، وظهور بوادر الحرب العالمية الثانية التي ستلتحق فيها إيطاليا بالمعسكر المضاد لبريطانيا، ليتم تشكيل قوات عسكرية للمقاومة انطلاقا من الأراضي المصرية بقيادة إدريس السنوسي، وهو التطوّر الذي كرّسه دخول إيطاليا في الحرب العالمية الثانية جنبا إلى جنب مع ألمانيا في مواجهة بريطانيا وفرنسا المحيطتين بليبيا.

منعطف الحرب العالمية الثانية.. عودة الملكية الليبية

هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية واحتلال الجيوش البريطانية والفرنسية لليبيا بمعونة القوات الليبية في المنفى بمصر سنة 1943، خلق نتائج غير مقصودة تتعلق بمستقبل ليبيا. لكن المنتصرين الأربعة، أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وفرنسا وبريطانيا، لم يتمكنوا من الاتفاق سنة 1945 حول مصير ليبيا، مما أدى إلى نقل الملف الليبي إلى الأمم المتحدة عام 1949.

الملك إدريس السنوسي تحالف مع بريطانيا وعاد إلى الملكية في ليبيا

ونظرا لاعتبارات استراتيجية تتعلق بحسابات الحرب الباردة، قاد استقلال ليبيا إلى نشوء تحالف بين بريطانيا والقيادة السنوسية في المنطقة الشرقية من ليبيا بزعامة إدريس السنوسي، وتم هذا التحالف على حساب القيادات الحضرية لإقليم طرابلس، التي كانت تدافع عن نظام سياسي موحد في ليبيا.

كان من بين المقترحات التي طرحت وقتها، جعل منطقة فزان تحت الحماية الفرنسية، وبقية التراب الليبي تحت وصاية بريطانيا، لكن المقترح واجه رفضا من جانب الاتحاد السوفياتي والكتلة العربية والآسيوية داخل الأمم المتحدة، لتقرر الجمعية العامة للأمم المتحدة الانتصار لخيار دولة ليبية مستقلة، وأشرفت الأمم المتحدة على مرافقة الليبيين في مشاورات وضع دستور واختيار شكل النظام السياسي، ليتوّج ذلك المسار بإعلان استقلال ليبيا في ديسمبر/كانون الأول 1951، مع انتصار التوجّه الرامي إلى إقامة ملكية موالية للغرب خلافا للمد القومي المنتشر في المشرق العربي.

ليبيا حاضنة الثورات.. استقلال بخلفية بريطانية أمريكية

لقد نظر التحالف البريطاني الأمريكي منذ البداية إلى ليبيا كدولة موالية يمكنها لعب أدوار استراتيجية من خلال القواعد العسكرية التي يمكن إقامتها فوق أراضيها. كان مجموع سكان ليبيا وقتها لا يتجاوز مليون نسمة، ثلاثة أرباعهم في إقليم طرابلس، مما يفسّر المخاوف شبه الدائمة للأقاليم الأخرى من سيطرة طرابلس في حال قيام أي نظام سياسي موحد، وهو ما رجح كفة النظام الاتحادي تحت التاج الملكي، مع جعل مدينتي طرابلس وبنغازي عاصمتين للبلاد، بالتناوب السنوي بينهما، ولتولد ليبيا الحديثة كمملكة اتحادية بعاصمتين وثلاث حكومات محلية، في كل من طرابلس وبرقة وفزان.

واجهت هذه الدولة الفتية منذ البداية مشكلة فقرها الكبير وانعدام الإمكانيات، سواء منها المادية أو البشرية. دفع هذا الوضع ليبيا إلى تأجير قاعدة عسكرية لصالح بريطانيا مقابل مساعدات اقتصادية وتدريب عسكري، ثم تلا ذلك اتفاق مماثل مع الولايات المتحدة لإقامة قاعدة عسكرية مقابل المساعدات، وهو الوضع الذي سيفسّر سرعة تنامي المعارضة الشعبية ضد الملكية الليبية، في سياق عرف توالي الثورات ومدّا قوميا في المنطقة العربية.

 

تموقع لم يمنع ليبيا المستقلة من دعم الشعوب العربية في معاركها الوجودية؛ فقد ركز الملك إدريس جهوده المادية والمعنوية لدعم ثورة الجزائر منذ اندلاعها في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1954 ضد المستعمر الفرنسي.

عُدّت ليبيا قاعدة خلفية ولوجستية للثورة الجزائرية، حيث كان فيها مستودعات الأسلحة ومراكز التدريب وشبكات التسليح، إضافة إلى أنها وفّرت إقامة خاصة لقادة جبهة التحرير وأمّنت تنقلاتهم. كما أن استعمال الأراضي الليبية لنقل الأسلحة من المشرق كان يتم تحت رقابة الحكومة الليبية وبتغطية منها، وذلك بأمر من الملك إدريس السنوسي نفسه.

وضمن حلقات برنامج “شاهد على العصر” يتحدث محمد المقريف أول رئيس للمؤتمر الوطني العام بليبيا، عن مواقف الملك غير المسبوقة تجاه دعم القضية الفلسطينية حتى إنه وُصف بالممول الأول لها، حيث كان الملك قد تبرع عام 1967 بخمسين مليون دولار لصالح القضية الفلسطينية، كما دعم دول المواجهة بما فيها مصر التي كان يرأسها جمال عبد الناصر رغم أنه كان يناصب الملك السنوسي العداء.

من أفقر دول العالم إلى أغناها

كانت الملكية السنوسية بعد حصول ليبيا على استقلالها واقعة تحت سيطرة نخبة من شيوخ القبائل والأعيان الحضريين ذوي الذهنية الأبوية. هذه النخبة هي التي تولت صياغة الدستور وسيطرت على مفاصل الدولة واستغلت مواقعها لتحقيق الثراء وإفادة الأتباع والمقربين، خاصة بعد اكتشاف النفط عام 1959.

حاولت الملكية رغم ذلك إطلاق برنامج تحديثي لأنظمة التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، لكنها لم تسمح ببروز معارضة منظمة وعلنية في صفوف الجيل الأصغر من الليبيين الذين تعلموا في المدارس العصرية.

وكان للثروة النفطية مفعول سحري على الدولة الليبية الناشئة، حيث انتقلت بشكل شبه فوري مع مطلع الستينيات من إحدى أفقر دول العالم إلى أغناها، من حيث الدخل السنوي الفردي الذي انتقل من 35 دولارا في 1951 إلى 2000 دولار عام 1967.

اكتشاف حقل غاز “ظهر” قبالة سواحل مصر عام 2015 يؤجج الصراع في المتوسط

فعلاوة على وفرة النفط المكتشف في ليبيا، فإنها تتميّز بموقعها الجغرافي القريب من أوروبا، مما يسهل التصدير، إلى جانب جودة الثروة الطبيعية المكتشفة، فأصبحت ليبيا بذلك ذات أهمية استراتيجية مضاعفة، أي عسكرية ونفطية في الوقت نفسه.

وتحت تأثير المفعول السريع الذي أحدثه اكتشاف النفط في ليبيا، وبروز الحاجة الملحة لنظام سياسي موحد، جرى تعديل الدستور الليبي في 1963 لينقل ليبيا من النظام الاتحادي إلى النظام الموحد، لكن ذلك لم يمنع تنامي المعارضة للنظام الملكي الرافض للانفتاح السياسي داخليا، والعاجز عن مواكبة التطورات الإقليمية خارجيا، حيث كان المد القومي ينتشر والقضية الفلسطينية تسيطر على الوجدان العربي المشترك، وهو ما يفسّر كيف أن النخبة العسكرية كانت القوة المنظمة الوحيدة القادرة على إزاحة النظام القائم بفعل غياب طبقة سياسية. كما أن المجتمع الليبي بطبيعته معادٍ للاستعمار ومؤيد للحركات التحرر الوطني ومؤمن بالعروبة والإسلام.

حقبة القذافي.. عزلة وتخبط

إن نظام القذافي الذي سيطر على ليبيا بين 1969 و2011 احتفظ لروما -رغم طابعه الثوري ورغم الماضي الاستعماري لإيطاليا في ليبيا- بمصالح حيوية داخل ترابه حققت التعايش بين البلدين المتقابلين في ضفتي المتوسط.

فشركة “إيني” النفطية الإيطالية دخلت ليبيا عام 1959، ومن خلالها كانت أوروبا لحظة سقوط القذافي تستورد 80% من البترول الليبي؛ 32% منه تستغله إيطاليا نفسها، وهو ما يعني استقلالا إستراتيجيا على مستوى الطاقة.

 

كما لعبت ليبيا بزعامة القذافي رغم عزلتها الدولية، دورا معقدا في أطراف العالم العربي الجنوبية، وتحديدا في دارفور وتشاد، وقد اعتمدت في مرحلة أولى على القوة العسكرية لتحقيق طموحاتها الجيوسياسية، ثم تبنّت فيما بعد إستراتيجية تجمع بين التنمية الاقتصادية والنفوذ السياسي، وجنّد الزعيم الليبي القذافي فيلقا من عناصر سودانية وليبية وتشادية بمساهمة زعيم الدروز اللبناني وليد جنبلاط، إذ كان يطمح هذا الأخير أيضا إلى تعريب أهالي دارفور.

كما حاولت ليبيا في هذه الفترة الظهور كقوة إقليمية مسؤولة وضرورية للتوسط وفض النزاعات القائمة بين تشاد وأفريقيا الوسطى، لتصبح بذلك شريكا حيويا لا غنى عنه في المفاوضات بين أفريقيا وأوروبا. كما سعت طرابلس إلى بسط نفوذها على كل القوى الفاعلة في الساحل إذ حاولت استغلال الطوارق والأهالي المعادين للحكومة المركزية في مالي والنيجر باستقبال شخصيات مثيرة للجدل على أراضيها.

فرص ما بعد الربيع العربي.. التجاذبات الإقليمية

عقب الانهيار الذي ضرب ليبيا بفعل تدخل حلف شمال الأطلسي سنة 2011، خسرت إيطاليا قسما كبيرا من إمداداتها النفطية، في مقابل حصول شركة “توتال” الفرنسية على موطئ قدم شرعنه المجلس الوطني الانتقالي الذي تولى تسيير ليبيا، بإعلانه تخصيص 35% من العقود المستقبلية للشرطة الفرنسية.

في عمق هذا الصراع الفرنسي الإيطالي، يوجد صراع إستراتيجي بين مجالي النفوذ في كل من البحر المتوسط ومنطقة الساحل والصحراء الأفريقية. الأولى تهم إيطاليا بالدرجة الأولى وتعتبر ليبيا خط دفاعها الأول ضد التهديدات الإرهابية والإجرامية وموجات الهجرة غير النظامية، بينما تصرّ فرنسا على توسيع مجال نفوذها على الساحل والصحراء في الحدود الجنوبية لليبيا نحو السواحل المتوسطية.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يجتمع مع حكومة فايز السراج الليبية كجزء من التحالفات الإقليمية التركية الليبية

ويعتبر كثير من المراقبون أن ليبيا كانت نقطة التحول في التعاطي الدولي مع ثورات الربيع العربي، حيث شكّل تدخّل حلف شمال الأطلسي “ناتو” لإسقاط حكم العقيد معمّر القذافي خطوة غادرة من جانب الغرب في نظر روسيا، وهو ما يفسّر التدخّل الحاسم في سوريا من جانب موسكو. ورغم أن موسكو حرصت على استمرار موقفها المحايد من الانقسام الداخلي في ليبيا، فإنها كانت في الكواليس دائما تربطها علاقات وثيقة مع معسكر خليفة حفتر.

حنق روسي ظل حاضرا رغم مرور السنين، وقفز إلى الواجهة من جديد بعيد انطلاق هجوم حفتر على طرابلس في أبريل/نيسان 2019، حيث لم يتردد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في تحميل حلف شمال الأطلسي مسؤولية استمرار الصراع داخل ليبيا، بعيد وصوله إلى مصر في زيارة رسمية.

أما أمريكا التي كانت في قيادة هجوم حلف شمال الأطلسي ضد قوات القذافي عام 2011، فسرعان ما انسحبت من الساحة الليبية بعد مقتل السفير الأمريكي في هجوم استهدف القنصلية الأمريكية في بنغازي، وباتت واشنطن تفوّض تدبير الملف لأصدقائها الأوروبيين.