“نقد الخطاب الديني”.. معركة الدفاع عن الثوابت المقدسة

حسن العدم

منتصف 1992 تحت قبة جامعة القاهرة العريقة تقدم الدكتور نصر حامد أبو زيد ببحث مثير للجدل لينال عليه رتبة أستاذ، ولم يكن يعلم -أو لعله كان يعلم يقينا- أن هذا البحث سيثير زوبعة لا تهدأ من الاتهام والتكفير والأخذ والرد والجرأة على ثوابت الدين والتطرف إلى درجة العنف في الدفاع عن حياض الشريعة.

 

وقد أفردت قناة الجزيرة الفضائية حلقة من برنامج “خارج النص” لمناقشة كتاب “نقد الخطاب الديني” لمؤلفه نصر حامد أبو زيد، واستضافت ثلة من الباحثين لمناقشة هذا البحث المثير للجدل، سواء منهم من يؤيد طرحه أو من يعارضه.

فرقة الجوالة.. بدايات في أكناف الإخوان المسلمين

يقول الدكتور أحمد سالم أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة طنطا متحدثا عن نصر حامد: بدأ نصر حامد حياته عضوا في فرقة الجوالة التابعة للإخوان المسلمين، وقد قابل بالفعل الإمام الهضيبي في الخمسينيات، وكان لأزمة 1964 بين الثورة والإخوان ودخول أبو زيد كلية الآداب أكبر الأثر في التحول النوعي في حياته السياسية وطريقة تفكيره.

نال أبو زيد درجة الماجستير والدكتوراه أيضا عن أبحاث قدمها عن ابن عربي وفلسفته الدينية وفكره الصوفي الجريء، وكان لهذه الأبحاث أثر كبير في إعادة تشكيل المنهج الفكري عنده.

ويرتكز كتاب “نقد الخطاب الديني” على ثلاثة أقسام رئيسية:

–         الفصل الأول يركز على صياغة الخطاب الديني المعاصر، ويحلل طريقة أصحاب هذا الخطاب في الصياغة ومنطلقاتهم الفكرية.

–         الفصل الثاني يتناول فيه التراث الديني ومحاولات تأويله.

–         الفصل الثالث يناقش القراءة المعاصرة للنصوص الدينية، بحيث يرتكز في قراءته الخاصة على منهج لغوي بحت.

قضايا التشنيع على الفكر الإسلامي.. خلاف داخل اللجنة

في الأعراف الأكاديمية يحصل الباحث على الترقيات العلمية من خلال ترتيبات معدة سلفا، وقد انتهج الباحث أبو زيد هذه الخطوات في تقديم بحثه “نقد الخطاب الديني” إلى لجنة أكاديمية متخصصة مكونة من ثلاثة من كبار العلماء، وهم: عبد الصبور شاهين ومحمد عوني عبد الرؤوف ومحمود مكي.

أساتذة الجامعة الذي حكموا رسالة الدكتوراه التي تقدم بها نصر أبو زيد لجامعة القاهرة

 

وقد أشاد عوني ومكي بالمنهج العلمي الذي اتبعه الباحث في تعاطيه مع موضوع البحث، بينما عارضه بشدة الدكتور عبد الصبور شاهين في القضايا التي تناولها، من قبيل البحث في الغيبيات والدفاع عن سلمان رشدي والتجني على الصحابة وغير ذلك من قضايا التشنيع على الفكر الإسلامي عموما، من خلال مهاجمة حمَلة هذا الفكر قديما وحديثا.

“يتحدث عن القرآن كنتاج للبيئة العربية”.. جرأة التناول

يرى المدافعون عن فكر أبو زيد، من أمثال الدكتور حلمي عبد الوهاب الباحث في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية، وكذلك الدكتور أحمد سالم؛ أنه تناول هذا الموضوع من زوايا لم يجرؤ أحد من قبله على الخوض فيها، وبذل جهدا جبارا في تفكيك رموز الخطاب الديني، ونقضها وأثبت عوارها على حد تعبيرهم.

يرى د. محمد عمارة أن كتاب “أبو زيد” يتناول الإسلاميات وأبجديات الدين، فلا يمكن مناقشته بمعزل عن أدوات قياس الفكر الإسلامي

 

بينما يرى المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة رأيا مغايرا، حيث قال إن هذا البحث يتناول الإسلاميات وأبجديات الدين، فكيف تريدوننا أن نناقشه بمعزل عن أدوات قياس الفكر الإسلامي؟ إنه يتحدث عن القرآن كنتاج للبيئة العربية مثله مثل الشعر الجاهلي، فكيف يصح أن نناقش هذا البحث باستخدام أدوات لبحثٍ تجريبي في علم أرضي؟ إنه بحث عبثي مثل كل أبحاث أبو زيد السابقة، جاء ليهدم الأسس التي بني عليها الفكر الإسلامي، وليس بحثا موضوعيا يحتمل النقاش الأكاديمي.

“إنه نوع من العبث غير المعقول”.. اتهام الجميع بالتطرف

يرتكز أبو زيد في بحثه على أن الخطاب الديني عند المسلمين لا يحتمل القسمة بين متطرف ومعتدل، ويرى أن الخلاف بينهما نسبي وليس مطلقا، أي أن الفريقين يتساويان عنده في النهايات والثوابت التي يتمترسون وراءها، بحيث لا يقبلون فيها نقاشا ولا مساومة.

وقد تختلف المدرستان -حسب رأي أبو زيد- فقط في الجهة المنوط بها تطبيق الأحكام، أي أن المتطرف لا يتورع عن تطبيق الحد بنفسه، بينما يحيل المعتدل التطبيق إلى ولي الأمر، ولكنهما يتفقان على المبدأ. “إنه نوع من العبث غير المعقول أن تساوي بين التيارات الفكرية والاجتهادية بين المسلمين على مر العصور” كما يقول الدكتور عمارة.

قضت المحكمة الشرعية بالتفريق الشرعي بين نصر أبو زيد وزوجته ابتهال كونه عدّ مرتدا عن الدين الإسلامي

 

ويرى الدكتور كمال حبيب الباحث في الجماعات الإسلامية أن خلط نصر أبو زيد بين المعتدل والمتطرف، يرجع إلى نظرته الرافضة للإطار الذي يجمعهما، وهو إطار العقيدة والشريعة الإسلامية، فهو يرى خطأ هذا الإطار من أصله، وبالتالي فهو يعفي نفسه من التفريق بين من هم داخل هذا الإطار.

“آيات شيطانية”.. مراوغة حول فكرة وجود الله

ينفذ أبو زيد من خلال فتوى الخميني بإهدار دم سلمان رشدي عن كتابه “آيات شيطانية” إلى اتهام كل المسلمين بالتطرف والتكفير على اختلاف مشاربهم، ولو أنه اكتفى بانتقاد حكم الإعدام لوجد له مناصرين كثيرين من المسلمين، ولكنه اختار أن يدافع عن رشدي في آياته الشيطانية وعن حريته فيما يكتب ويقول، وهو ما لا يقبله أي مسلم عنده ذرة من الغيرة على دينه وأهل ملته أيا كانت مراكزهم.

الخميني يهدر دم سلمان رشدي صاحب كتاب آيات شيطانية

 

ويناقش الدكتور عمارة فكرة خطيرة من أفكار أبو زيد في بحثه، وهي فكرة أن القرآن ذا مصدر أرضي، وهو نوع من فن الجدل الصاعد، حيث ينكر وجوده في الغيب قبل نزوله على الأرض، وينكر اللوح والقلم، حيث كتب القرآن قبل أن ينزل. ولَعمري أين البحث الموضوعي العلمي في هذا الطرح؟

إنها نفس الأفكار الإلحادية على مر التاريخ التي تراوغ في فكرة وجود الإله أصلا، وبالتالي تنفي كل ما يتعلق بهذا الإله من فعل أزلي أو غيبي يختص به سبحانه.

غيبيات في ثياب أساطير.. ظلال المعتزلة

وينطلق أبو زيد -حسب آراء دارسين لنتاجه الفكري- من أفكار معتزلية ترى أن الوحي جاء استجابة لنداء أهل الأرض، وانطلاقا من تطور واقعهم الإيماني والتشريعي، وكأن نصوص الوحي كانت ردات فعل للتطور البشري على الأرض.

وقوف حامد أبو زيد إلى جانب فكرة سلمان رشدي في كتابه “آيات شيطانية” جعلت انحيازه ضد الدين واضحا

 

وهو بذلك ينفي عددا من مرتكزات المسلمين في عقيدتهم، ومنها أن الوحي الإلهي موجِّه للسلوك البشري ومقوِّم له، ومنها أن الله لا يعلم مسبقاً بسلوك البشر، فهو ينتظر منهم الفعل ليقوم بتوجيهه (تعالى الله عما يقولون).

وحسب هذه الرؤية ينفون كثيرا من الغيبيات مثل القلم واللوح والكرسي وصفات الله القديمة، بل ويعتبرون كثيرا من الغيبيات مجرد أساطير كانت تصلح في الزمن الأول، ولكنها لا تقوم أمام المنهج العلمي اليوم.

سجال على المنابر.. نظر قضائي في قضية الردة

رُفِضت رسالة أبي زيد لنيل الترقية العلمية بأغلبية أعضاء اللجنة، وعلى رأسهم الدكتور عبد الصبور شاهين، وقد أرجع كثير من المتزلفين للباحث نصر أبو زيد أصل الخلاف، أى أنه قد أصاب شاهين في مقتل عندما كان يحارب شركات توظيف الأموال التي كان شاهين ينافح عنها (مثل شركة الريان).

الدكتور عبد الصبور شاهين يخطب في جامع عمرو بن العاص عن كتاب نصر أبو زيد المثير للجدل

 

انتقلت القضية من كونها خلافا أكاديميا إلى أن أصبحت سجالا عنيفا فوق منابر الجمعة وعلى صفحات الجرائد وأمام منصات القضاء، وواجه نصر حامد أبو زيد أياما عصيبة على جميع المستويات الأكاديمية والاجتماعية لم يكن يتخيل يصل إليها، حتى أن محكمة نظرت في قضية التفريق بينه وبين زوجته بحجة أنه مرتد لا يحل له أن يرتبط بمسلمة.

تجاوز الخطوط الحمراء.. بين الاندثار وإثراء الفكر العربي

مع تحفظ كثير من الرافضين لفكر أبو زيد على أن تصل الأمور إلى كل هذا التعقيد، فإنهم لا يعفونه من مسؤولية الوصول إلى هذا النفق المظلم، ومع إقرارهم بحرية الفرد في المجتمع المسلم في مناقشة سلوكيات أي من المسلمين، ما عدا جناب المعصومين وهم الرسل، وثوابت الدين ومصادره المتفق عليها، إلا أن الخوض في الإلهيات والغيبيات تبقى خطوطا حمراء لا يسمح بتجاوزها.

في برنامج الاتجاه المعاكس أحد المشاهدين يطلب من حامد أبو زيد نطق الشهادتين على الهواء مباشرة

 

أما فكر أبو زيد المنثور في كتبه فما زال مجال نقاش بين مؤيديه ومعارضيه؛ فأنصاره من أصحاب مدرسة العقل يرون أنه سيكون من التراث الذي يثري الفكر العربي والإسلامي في المستقبل.

بينما يرى معارضوه أن أفكاره ستندثر عما قريب، وسيكون لها نفس مصير كتابات لويس عوض وفرج فوده وغيرهم، وسيأكل عليها النسيان ويشرب، ولن تقف أمام إعصار الفكر الإسلامي الأصيل المعتدل، الذي يخاطب العقل والفطرة ويرقى بهما في مدارج الكمال.