نيويورك.. تفاحة الحلم الأمريكي المهددة بالغرق

خاص-الوثائقية

نيويورك -أو التفاحة الكبيرة كما تسمى- مدينة مذهلة بحق، وهي قلب أمريكا الاقتصادي. نشأت قبل نحو 400 عام، ونمت بسرعة كبيرة وتطاول بنيانها لتصبح غابة من ناطحات السحاب.

بنيت المدينة على فسيفساء من الجزر على الساحل الشرقي للولايات المتحدة على طول المحيط الأطلسي في ميناء محمي طبيعيا، وبالكاد ترتفع المدينة عن سطح البحر، مما يجعلها عرضة للفيضانات المدمرة، ونتيجة للاحتباس الحراري سيرتفع مستوى البحر مترين في نهاية هذا القرن.

تتعرض نيويورك لإعصار قوي كل مئة عام، لكن في نهاية القرن ونتيجة للتغير المناخي ستصبح عرضة للأعاصير كل خمس سنوات، لذا تعيش المدينة على وقع التهديدات نتيجة لأخطاء ارتكبت في الماضي، وتسارعت وتيرة هذه التهديدات منذ القرين العشرين، إذ ضربت عدة أعاصير المدينة عام 1938 وعام 1972، وإعصار أيرينا، وأخيرا إعصار ساندي عام 2012 الذي عرضها لأسوأ كارثة في تاريخها، فقد ضرب الإعصار برياح قوتها 250 كيلومترا في الساعة، وسجل ارتفاع الموج أعلى نسبة في تاريخ المدينة منذ نشأتها، وبدا المشهد كأنه فلم سينمائي عن نهاية العالم.

 

تلك الحاضرة الضخمة المنشأة بطراز معماري عصري هائل العظمة، هل سينتهي بها المطاف مغمورة تحت الماء، وهل سيكون العنصر الذي أوجدها نفسه من سيكتب نهايتها؟

هذا الفيلم الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية بعنوان “مدن تحت التهديد.. نيويورك العائمة” يعرض أفكار المهندسين الإبداعية وأحلامهم بتقنيات مذهلة في جدار عملاق مثلا قابل للنشر حول منهاتن، أو ناطحات سحاب مقاومة للماء، وغيرها من الحلول الخلّاقة غير المسبوقة لإنقاذ المدينة.

صفقة بيع جنة السكان الأصليين.. ذروة الحلم الأمريكي

نيويورك، هي ذروة الحلم الأمريكي، مدينة صاخبة لا تنام، عدد سكانها 8.5 ملايين، مبنية من الخرسانة والمعدن فوق جنة حقيقية. فقبل أربعة قرون كانت عبارة عن غابات تتخللها مستنقعات وجداول، سكنها بضع مئات من السكان الأصليين الذين اعتمدوا على الصيد في عيشهم.

وفي عام 1620م قدم المستوطنون الهولنديون واشتروها مقابل 25 دولارا. ورغم الظروف الجوية القاسية، استقر المستعمرون في منهاتن السفلى بسبب الموقع الإستراتيجي الذي تتمتع به، إذ يسهّل الميناء في تلك المنطقة الوصول إلى المدينة من المحيط الأطلسي.

يوفر نهرا “هاتسن” في الغرب و”إيست” في الشرق منافذ بعدد لا يحصى من نقاط التواصل التجارية في الولايات الشرقية، وسرعان ما أصبح الميناء المحمي أكبر الموانئ في أمريكا الشمالية، لذا فالمدينة عبارة عن خليج تتناثر عليه الجزر أشهرها منهاتن.

تمددت منهاتن السفلى وتوسعت وتضاعف عدد سكانها ثلاثة أضعاف خلال القرن الـ20، وتطورت باقي الجزيرة لاحقا، لكن بطريقة أقل تنظيما. يقول “جون لويس كوهين” وهو مهندس معماري ومؤرخ تخطيط حضري “أدرك مؤسسو المدينة أنه ما من طريقة لمقاومة مصيرها، بعد أن بدأ المهاجرون بالوصول”.

ركزت المدينة على تحقيق الطموحات المرجوة في نهاية القرن التاسع عشر دون الأخذ بعين الاعتبار الأعاصير التي تضربها كل مئة عام. ومع نمو المدينة والزيادة السكانية ضعفت المدينة أمام الفيضانات.

سد قنوات الأنهار وتجفيف المستنقعات.. هندسة بناء المدينة

صممت منهاتن الحديثة بطريقة عبقرية، بما يعرف بالتخطيط الشبكي الذي مكنها من إنشاء المزيد من الأبنية، وقسمت إلى 12 جادة تمتد من الشمال إلى الجنوب، وإلى 155 شارعا تمتد من الشرق إلى الغرب، وقسمت إلى مربعات سكنية يمكن بناؤها لتحقق أكبر استفادة من المساحة.

وقفت التلال والجداول في منهاتن عائقا أمام بناء المدينة، وكان الحل تخلية الأرض من تلك التضاريس، حيث سُدت قنوات الأنهار وجففت المستنقعات وأزيل الكثير من التلال، لترك المساحات للشوارع والمباني وناطحات السحاب فيما بعد.

نيويورك.. من مدينة الجزر والأنهار، إلى أكبر مدن العالم

 

يقول مدير صيانة البيئة “إريك ساندرسون”: “في البداية، انتُقد الأمر، وبدا كأنهم يخططون لاستيعاب سكان الصين، بعد ذلك تأكدوا أنهم يحتاجون تلك الشبكة وهو الرسم الديكارتي الأفضل، حيث تمتد على المكان بأكمله مهمِلة الجداول والمستنقعات والتلال والحواف الداخلية. كان الهدف استقطاب عدد أكبر من الناس على هذه الأرض، رغم المخاطر، لقربها من مستوى سطح البحر، وأصبح تغيير تضاريس المدينة يشكل مشكلة كبيرة، فقد عُدل جريان المياه برمته”.

تتدفق مياه الأمطار إلى البحر أو النهر في المدينة وفق التضاريس الموجودة سابقا فوق الأرض وتحتها، لذا تحصل الفيضانات محليا، وهذا يعني أن بعض الجداول تحت الأرض تتخم بالمياه حين تهب العواصف المطرية، وخاصة أن أهل نيويورك لا يستطيعون الاعتماد على نظام التصريف لامتصاص فائض الأمطار، فقد صدر قرار قبل 150 عاما بإنشاء نظام ثنائي ينقل مياه الأمطار والمجاري في أنابيب واحدة.

ويرى “كلاوس جيكوب” عالم الفيزياء والجغرافيا أن الناس في ذلك الوقت صمموا هذا النظام بأفضل ما يعرفونه حينها، ولم تكن لديهم سجلات تاريخيه تنبههم لضرورة إعداد المدينة لأحداث خطرة.

صمت المدينة الصاخبة.. إعصار ساندي يدق ناقوس الخطر

غاب عن أهل نيويورك أثناء تصميمهم لها أنها تقع على واجهة بحرية وأنها معرضة للأعاصير. وكان عام 2012 نقطة اللاعودة، حين ضرب إعصار ساندي المدينة بكل قوة واندفعت أمواج عملاقة إلى شوارع منهاتن، وضرب المد العالي بطول أربعة أمتار منهاتن السفلى، ومات ٤٨ شخصا ودمرت أحياء كاملة، وتوقف قطار الأنفاق وعم الذعر بين الناس.

انفجرت محطة الطاقة وتوقفت الحياة في المدينة. يقول المهندس “سيمون كوستر”: “عم الظلام الدامس المدينة بالكامل، عدا ساحة التايمز، ولم يعلم أحد كم سيدوم الانقطاع وماذا جرى، وفي النهاية انقطعت الكهرباء أسبوعا كاملا عن معظم أجزاء المدينة”.

يقول “كلاوس جيكوب”: “تجاهلت المدينة وجودها فوق الماء وكان ذلك تذكيرا، ذكرتنا ساندي بأمر مهم، نحن مدينة عائمة على المحيط، المدينة كلها في خطر لأنها محاطة بشريط ساحلي طوله 900 كيلومتر، والأخطر من ذلك أنها على ارتفاع 40 سم فقط عن سطح البحر، وفي بعض مناطق منهاتن لا يزيد الارتفاع عن 12 سم، مما يجعلها عرضة للخطر من الناحية الجغرافية.

عام 2012 ضرب إعصار ساندي نيويورك بكل قوة واندفعت أمواج عملاقة إلى الشوارع وبطول أربعة أمتار في منهاتن السفلى

 

في التغيير المناخي تواجه المدينة مشكلتين:

الأولى ارتفاع منسوب البحر، والذي سيرتفع في عام 2100 إلى مترين وسيحدث فرقا كبيرا حين يتعلق الأمر بمدينة استثمرت كثيرا على واجهاتها المائية.

والثانية هي الأعاصير التي تزداد قوة وقسوة وبوتيرة أكبر بكثير من الماضي. ويوضح “كلاوس جيكوب” أن حدوث إعصار كل بضعة أعوام بدلا من كل مئة عام لا يمكن التعايش معه أبدا.

لكن كيف تخطط المدينة لتحمي نفسها من خطر محقق، لقد حان الوقت لطرح تلك الأسئلة الصعبة، فبعد ساندي شرعت المدينة كلها للبحث عن حلول وأطلقت مسابقات تصميم غير مسبوق بكلفة بلغت قيمتها مليار دولار.

يقول المهندس المعماري ومدير مشروع “بيغ يو” سيمون ديفد: “في البدء كان سؤالا وظيفيا بسيطا: كيف سنحمي أنفسنا؟ ثم تحول إلى سؤال عن تصميم المدينة: كيف يمكن تحسين تصميم نيويورك لحمايتها”.

ويفكر “إريك ساندرسون” بالأمر كأنها لعبة ملاكمة؛ اثنان يتصارعان أحدهما وجّه ضربة والآخر مستعد لها دون أن يقع. يُعرّف ذلك بأنها المقاومة، وهي مدى القدرة على تحمل الضربات، لكن في حالة الوقوع على الأرض تحتاج لوقت حتى تقف على قدميك، وهذه هي المرونة.

تضررت منهاتن السفلى بقسوة من إعصار ساندي، واضطر شارع وول ستريت للإغلاق يومين ونتج عن ذلك خسائر مالية فادحة، وتوقفت العمليات المصرفية وحركة المدينة والنتائج المترتبة على توقف رؤوس الأموال الضخمة والكثير من المصارف مما كان له أثر كبير على العالم.

اتفقت الأوساط العلمية على مواجهة المشكلة وحلها، وشرع المهندسون المعماريون من جميع أنحاء العالم في العمل للعثور على حل.

حاجز لصد الأمواج.. فكرة رائعة لكن ليست كافية

إحدى الأفكار الرائعة التي فازت بالمسابقة، هو حاجز الحماية على شكل حرف “يو” (U) والذي يمتد 12 كيلومترا حول منهاتن السفلى، وسمي المشروع “بيغ يو”.

يقول مهندس المشروع سيمون ديفد: “إذا كنت في الجانب الشرقي من منهاتن، فهناك مساحات كبيرة مفتوحة، وسيكون بناء رصيف هو الحل الأمثل، فهو أرخص ويناسب الحديقة التي بجانبه، ونبدأ بالنظر إلى قائمة فيها خيارات متنوعة، لذا فهو متغير، فالحاجز عبارة عن تشكيلة من أفضل الأجزاء المنتقاة للحماية من الفيضانات”.

مشروع “بيغ يو” الذي يحيط منهاتن بجدار عازل يمنع الأمواج أن تتخطى إلى المدينة

 

وسيكون الجدار في بعض المناطق مصمما صناعيا، وستكون أرصفة وستنشأ تلال في أماكن أخرى لتثبيت البنية الأرضية وحمايتها، ويجب أن يصل ارتفاع الحواجز 5.5 أمتار فوق سطح البحر بغض النظر عن شكله.

حاجز “بيغ يو” من المشاريع الرائدة، وهو جدار قابل للفتح، ويعمل حاجزا لصد الأمواج، وسيوضع في الجزء السفلي من شارع فرانكلين، وهو طريق سريع عال يمتد على طول النهر الشرقي مبدأ عمله بسيط وهو أن يتم إنزاله قبل 24 ساعة من حدوث العاصفة. سيعمل الحاجز الذي يبلغ طوله كيلومترين وارتفاعه ثلاثة أمتار في هذه الجهة على صد المياه، وسيمنع اندفاع الأمواج نحو المدينة. أما بقية الأوقات فسيُرفع لاستغلال المساحات الأرضية للترفيه. وستساعد هذه الحواجز المتحركة على الجزء الأفضل في المدينة، وبالفعل فقد بدأ العمل في المشروع عام 2019 بكلفة بلغت 335 مليون دولار.

زيادة السكان.. أبنية المدينة تناطح السماء

لكن هذا المشروع وحده ليس كافيا، فمع توسع المدينة السكاني السريع، لم تعد منهاتن كافية، وبدأ تطور الأحياء المجاورة، وهي بروكلين وكوينز وستاتن آيلاند. وفي عام 1898 شكلت هذه المناطق الخمسة مدينة نيويورك الحديثة، واتصلت بعضها بشبكة موسعة من الجسور والإنفاق.

أحد أشهر معالمها جسر بروكلين الذي يربط بروكلين بمنهاتن، وكان أول جسر معلق بنوابض فولاذية، وظل لسنين أطول جسر بالعالم بطول 1830 مترا.

أضحت نيويورك مدينة الأرقام القياسية، واستمر البناء فيها أعلى وأعلى، وانتصبت ناطحات السحاب مثل مبنى كرايسلر ومبنى أمبايرستيت. يقول جون لويس كوهين: “بدأ في العشرينيات تنافس طريف بين مبنى كرايسلر ومبنى أمبايرستيت، وفاز الأخير بوضع هوائي أطول من هوائي خصمه وفاجأ المدينة”.

جسر بروكلين الذي يربط بروكلين بمنهاتن،وكان أول جسر معلق بنوابض فولاذية، وظل لسنين أطول جسر بالعالم بطول 1830 مترا

 

تتباهى نيويورك بأعلى ناطحات سحاب بعد هونغ كونغ، لكنها تتأثر بسبب الفيضانات كما حدث عام 1938 حين شل إعصارٌ المدينة لأيام، لكن أهل المدينة لم يتعلموا من الدرس.

يقول إريك ساندرسون: قررنا بناء الأبنية الضخمة ثم قررنا استخدام طاقة الفحم والغاز في تدفئة الأبنية، مما أثر في التغير المناخي، فهذا يطلق ثاني أكسيد الكربون الذي يؤثر في الغلاف الجوي ويسبب التغير المناخي وبالتالي يزيد من منسوب مياه البحر محدثا فيضانات في المدينة.

تحولت منهاتن من أرض عذراء إلى مدينة حضرية غطى الإسمنت 97% من أراضيها. ومع تقلص مساحة الأراضي المزروعة التي كانت تمتص مياه الأمطار مثل الإسفنجة، حدثت الفيضانات بشكل أكبر وبأقل كمية أمطار.

شبه جزيرة روكوي.. محمية طبيعية دمرها التوسع العمراني

تمتلك نيويورك حواجز طبيعية تحميها من العواصف، لكن تلك الحواجز دُمرت مع تطورها. فعلى سبيل المثال، بُني مطار “جي أف كي” في الجنوب الشرقي من خليج جمايكا الذي يمتد على طول مئة كيلومتر مربع، ويفصله عن المحيط شبه جزيرة “روكوي” التي كانت من أجمل المحميات الطبيعية على الساحل الشرقي، وهو امتداد مائي تتناثر عليه عشرات المستنقعات التي تعمل على تقليل طاقة الأمواج.

تقول المهندسة المعمارية ومصممة المناظر الطبيعية كاثرين سيفيت نوردينسون: لقد تحول هذا المكان إلى مكب ليدمج مع باقي المدينة، لكنها ما زالت أراض رطبة مقفرة تلائم بناء المطارات.

أراض رطبة تم تحويلها إلى مساحات قابلة للبناء بعد تجفيف مائها

 

تم تجفيف المستنقعات عن طريق استخراج الرمال من قعر الخليج عبر أنابيب ضخمة، ثم مزج الرمل بالإسمنت ورمي في الأراضي الرطبة لتصبح الأرض أكثر صلابة، والنتيجة تعبيد الجزء الأكبر منها في الخليج، ثم بُنيت أربعة مصانع لمعالجة المياه التي ساهمت في تلويث المياه وتدمير الأراضي الرطبة.

كانت المستنقعات ستكون مفيدة حينما ضرب إعصار ساندي المدينة، لأن المستنقعات تتحول إلى حواجز أثناء العواصف، فحين تضرب الأمواج المحيط تمتص المستنقعات المياه وتخزنها وهذا يبطئ الأمواج ويجعلها أصغر حجما.

لم يقتصر طمر المستنقعات في خليج جمايكا، بل طمر أكثر من 80% من مستنقعات المدينة كلها. وفي حديقة “سنترال بارك” الشهيرة، جففت الأراضي الرطبة لبناء حديقة اصطناعية ضخمة.

عاصمة المحار.. استغاثة ببطل البحر المكافح للأمواج

لكن كيف للمدينة أن تعوض هذه الحواجز الطبيعية؟ يكمن السر في حيوان صغير لا يتجاوز طوله بضع سنتيمترات. في هذه المعركة أصبح المحار هو البطل.

تقع جزيرة “ستاتن آيلاند” في الجنوب الغربي من المدينة، وقد دمر إعصار ساندي هذه الجزيرة، ولقي 24 شخصا حتفهم بسبب الموج. يقول المصمم المدني ومهندس المناظر الطبيعية نانس فورون: نحن نتعامل مع الجزيرة كنسيج سكاني بامتياز، وبناء حاجز على كثافة منخفضة ليس منطقيا من ناحية التنبؤ بالمخاطر ولا من الناحية الاقتصادية.

هنا ظهر مشروع مذهل فاز بمسابقة المدينة أيضا، ويتلخص في إنشاء مجمعات محار في الخليج، لتحُدّ هذه المحارات من الأمواج. فقد كانت نيويورك في السابق تلقب بعاصمة المحار الذي لعب دورا في الاقتصاد، وكانت عربات المحار تنتشر في الشوارع كما هي عربات النقانق اليوم، ولكن بسبب التلوث والصيد الجائر اختفى المحار.

لتجنب الكوارث وتنقية مياه الخليج، سيتم زرع المحار الذي سيستوطن الماء ويبنى الشعاب الطبيعية التي ستشكل حواجز طبيعة

 

كان للمحار دور في جزيرة ستاتن آيلاند على الشاطئ الجنوبي، حيث انتشرت شُعب المحار. وذكر في السجلات الجيولوجية أنه كان يحمي الشاطئ، لذا قرروا إعادته عن طريق بناء حوائل الأمواج الصناعية من الصخر بارتفاع 13 مترا، وستغطى بإسمنت بيئي خاص ويتم زرع المحار الذي سيستوطن المكان كله. ومع مرور الوقت سيتجمع المحار وتبنى الشعاب الطبيعية وتستمر في التراكم لتشكل حواجز طبيعية.

سيتم العمل على 9 حوائل مائية تمتد على مدى عدة كيلومترات، ستتحطم الأمواج فوق الحوائل وستمتص مسامات البناء المياه وتقلل طاقة الأمواج، كما أن شعب المحار سيكون لها أثر إيجابي في صحة النظام البيئي، وعلى المدى البعيد سيكون المحار مفيدا جدا لسلامة مصب النهر لأن لهذه الرخويات الضئيلة تصفية مذهلة حيث يمكن لمحارة واحدة أن تصفي في اليوم مئتي لتر. وبالفعل وضع أول حائل عام 2018.

باتري بارك.. مدينة الرمل والصخور على الماء

نمت مدينة منهاتن بطريقة مدهشة وزادت مساحتها 20% منذ نشأتها، وهي تتباهي اليوم بـ12 كيلومترا مربعا من الأراضي الإضافية. ففي مطلع القرن التاسع عشر بدأت المدينة تتوسع فوق الأنهار التي تحيط بها لأسباب عقارية.

والمذهل في الأمر أن الهولنديين والبريطانيين الأوائل اكتشفوا أن التوسع خارج المدينة أقل كلفة من التوسع شمالا، وهذا قبل اختراع السيارة، حين كان الناس يضطرون للمشي، لذا أرادوا العيش بجانب كل شيء وصنعوا مدينة مضغوطة، احتاجوا بعد ذلك لمساحات إضافية للاستخدامات الصناعية والمواصلات.

مدينة مانهاتن زادت مساحتها 20% منذ نشأتها بمقدار 12 كيلومتر مربع من الأراضي الإضافية

 

وقد جاءت فكرة التوسع باتجاه الماء عبر رمي الصخور التي كانت تنتج عن عمليات البناء في المدينة في الماء، ومع وضع الرمال فوقها كانت المفاجأة.. أراض جديدة.

وأوضح الأمثلة على التغيير السريع مدينة “باتري بارك” على خط شاطئ نيويورك في الستينيات. كان مركز التجارة العالمي تحت الإنشاء، وكانت أرخص طريقة للتخلص من الصخور رميها في نهر “هاتسون”، وقد نشأ من ذلك مطمر نفايات، وبعد سنوات صار السطح صالحا للبناء. ولكن كلاوس جيكوب يعتبر أن السكن في تلك الأماكن نوع من المقامرة على الحياة وهو تصرف أحمق قصير النظر.

انقطاع الكهرباء.. عزلة الطوابق العليا في ناطحات السحاب

يبلغ ثمن المتر المربع على الواجهات المائية 11 ألف يورو، والإغراء شديد. الحل في تلك الحالة بناء ناطحات سحاب مقاومة للماء، ومن الأمثلة على ذلك مبنى النحاس الأمريكي المطل على النهر الشرقي. لقد اكتمل بناؤه حديثا، وينتصب فوق مناطق الفيضانات.

يقول المهندس سيمون كوستر: لو نظرتم لخارطة 1920 لوجدتم أن المبنى مقام فوق النهر مباشرة. كنا نعلم أنه يقع على مطمر النفايات ونعلم أن التربة لا تدعم أساساته، لذا فقد دُعم البناء بأساسات ضخمة تصل لعمق 90 مترا تحت القاع، ومن الداخل صمم بأسلوب كلاسيكي فاخر يضم ناديا بإطلالة ساحرة وشقق فارهة وغرف ألعاب.

مشاريع ناطحات سحاب مزودة بنظام تصريف متطور يعمل خلال العواصف على جمع المياه وضخها عبر أنابيب تحت الأرض إلى خزانات ضخمة

 

صمم المبنى ليكون مقاوما للماء، فأثناء إعصار ساندي غُمرت الكثير من المعدات الكهربائية بالماء. يقول سيمون كوستر: كان انقطاع التيار الكهربائي أكبر أثر على الناس، فلا مصاعد ولا مياه تضخ للطوابق العليا ولا أضواء، سألنا أنفسنا هل سيظل الناس يرغبون في العيش على الواجهات البحرية، هل ما زال العيش آمنا؟ الجواب نعم.

بنيت ناطحة السحاب تلك وزودت بنظام تصريف متطور جدا بين البرجين، وخلال العواصف تتجمع المياه وتُصرف عبر أنابيب تحت الأرض إلى خزانات ضخمة تتسع لما يزيد على مئة ألف لتر ماء، وبمجرد أن تنخفض مستويات المياه عن الحد الطبيعي تفرغ الخزانات في النهر الشرقي.

كما رُكّب نظام تجميع في القبو ليصبح البناء مقاوما، وزُودت بـ12 من أنظمة التجميع هذه لتكون مجهزة وتحمل كميات مياه في القبو، وتتكفل المضخات بذلك.

وحرصا على وجود نظام احتياطي خوفا من انقطاع التيار الكهربائي ضحى البناؤون بأفضل شقق على الطابق العلوي، لوضع خمسة مولدات تستطيع تزويد الناطحة بالكهرباء لمدة أسبوع.

قطار نيويورك.. وريد المدينة النابض ونقطة ضعفها

لكن ماذا عن باقي سكان نيويورك؟ لقد تم تجهيز بنية تحتية جديدة في المدينة بغرض حماية شبكة النقل. لقد وجه إعصار ساندي ضربة قاصمة لقطار الأنفاق الذي يعتبر شريان الحياة فيها، فقد تدفقت المياه من المداخل إلى المحطات ومنها إلى الأنفاق ودمر عددا كبيرا من أنظمة الكهرباء وأنظمة الإشارة.

عندما توقف القطار اضطر الناس لاستخدام سياراتهم، ونتج عن ذلك ازدحامات مرورية خانقة، ففي اليوم الواحد يركب قطار نيويورك نحو خمسة ملايين، وهي نقطة ضعف نيويورك، وحين تتعطل، تتعطل المدينة كلها.

قطار الأنفاق الذي أغلق لسبعة أيام بسبب إعصار ساندي

 

ابتُكرت بعض الحلول التقنية لحماية قطار الأنفاق، فقد غُطيت المداخل بأغطية ذات أنسجة مقاومة للماء، وهي مصممة خصيصا وملفوفة بحاوية متعامدة مع الدرج كله، ووضعت بشكل أساسي في منهاتن السفلى وتحمى المصاعد برفوف فولاذية تمنع تسرب الماء وتوضع كنوافذ الغواصات لتكون قادرة على اتقاء الماء في الخارج. ويتوقع كلاوس جيكوب أن تُبقي هذه المعدات قطار الأنفاق في مأمن حتى نهاية القرن.

بالون الحماية.. فكرة عبقرية من عالم الفضاء

من نقاط الضعف أيضا في نيويورك أنفاق الطرق. يقول جون لويس كوهين: بالطبع تقع تلك الأنفاق تحت الأرض وبعضها تحت مستوى الخليج، وتشل المدينة عندما تغمر بالمياه.

بني النفقان بين منهاتن وبروكلين وبين منهاتن ونيوجيرسي منذ زمن طويل، لذا فهما لا يقاومان التسريب. وكان الحل بوابة فولاذية ضخمة تزن 25 طنا عرضها تسعة أمتار وارتفاعها 4 أمتار، وضعت ثمانية منها حتى الآن وصممت لتتحمل منسوب مياه البحر، وهي أعلى بمتر وعشرين سنتيمترا من أمطار ساندي لكنها لا تقاوم العواصف.

بالون عملاق بطول عشر أمتار وقطر خمسة أمتار ينفخ في ثلاثين دقيقة يستطيع أن يغلق أي نفق كليا بمجرد نفخه وضغطه

 

يرى كلاوس جيكوب أن نسبة نجاحها غير معروفة، لذا لا بد من كبح تدفق الماء داخل النفق في حال حدوث مشكلة على السطح. لذا ابتكر المهندسون بمخيلتهم الواسعة بالونا عملاقا طوله عشرة أمتار وقطره خمسة أمتار وحجمه يساوي 232 مترا مكعبا أي بحجم مجمع سكني كبير يُنفخ في ثلاثين دقيقة، وهو مصنوع من مادة فائقة المقاومة تشبه بدلات الفضاء، حيث يغلق البالون القناة كليا بمجرد نفخه وضغطه، وبالتالي يمنع دخول الماء وهو ليس بحاجة لبنية تحتية ثقيلة.

ارتفاع منسوب الماء.. أمان المقابر وقلق الأحياء

على الرغم من كل تلك الحلول ربما فات الأوان، وقد يكون العيش على الواجهة البحرية أشبه بالانتحار، فإذا ارتفع منسوب المياه لمترين ستغرق منهاتن، ماذا لو كان الحل مغادرة المدينة؟

تقع مقبرة “غرين وود” في بروكلين، وتضم 600 ألف قبر على مساحة كيلومترين مربعين، وترتفع 76 مترا فوق سطح البحر.

يقول كلاوس جيكوب: لديهم مساحة جميلة مطلة على سطح الماء، والكثافة السكانية للأحياء منخفضة، هل الحل ترك الواجهات البحرية والانتقال للعيش على المرتفعات؟ لكن معظم تلك المرتفعات عبارة عن مقابر.

مقبرة “غرين وود” في بروكلين على مساحة كيلوين مربعين، هل تصبح أماكن للبناء بعيدا عن سطح البحر؟

 

يجيب كلاوس جيكوب: يظن الكثير أنني مجنون، لكن ذلك لا يزعجني، أظنهم مجانين إن أرادوا تشييد مبان على الواجهات البحرية، إذ ستمر علينا عواصف كثيرة مثل ساندي، وعلى الناس أن يدركوا قليلا من بُعد النظر أفضل بكثير من الجنون المطلق.

تتطور مدينة نيويورك بترف فاحش متجاهلة أنها عائمة على وجه الماء، فهل سيغرق عملاق أميركا في غياهب المحيط الأطلسي، أم أن هناك خيارات وابتكارات مذهلة قد تنقذ المدينة من خطر قادم؟