يوم الأسير الفلسطيني.. سجون إسرائيلية تكتظ بأصحاب الأرض الفلسطينيين

من المطالبة بورق الرسائل، وحتى الدفع بالجسد في نضال لأجل اتصال هاتفي، ومن زمن الفدائي في جيش التحرير الفلسطيني موسى الشيخ بسجن “عسقلان” وحتى المطارَد إسلام وشاحي في “النقب الصحراوي”.. يدفع الأول نزيفا من معدته ورفاقه ثمنا، وتسكن الكسور والجروح جسد الثاني وأجساد رفاقه ثمنا لنفس الغرض؛ وهو أن يتحدث الأسرى مع آبائهم، وأن يسمعوا أصوات أطفالهم وزوجاتهم، وأن “يسقط القمع” وتسقط مناداة السجّان “يا سِيدي”.

أما موسى الشيخ الرجل الذي دخل عمر السبعين، فبعد أكثر من أربعة عقود على اعتقاله وتعذيبه وخوضه تجربة الإضراب عن الطعام مطلع السبعينيات، يجلس في منزله برام الله يعاني أمراضا عدة، بعضها خلّفه الزمن وأخرى خلفتها تجارب اعتقال قاسية، وكلها أقعدته عن متابعة مستجدات الإضراب الأخير للأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.

اعتقل الشيخ عام 1968 بعد أن تسلل مع وحدة من قوات الصاعقة التابعة لجيش التحرير الفلسطيني من الأردن إلى فلسطين، وخاض اشتباكا مسلحا مع قوات إسرائيلية من وحدة جولاني، واستشهد في المعركة معظم أفراد وحدته، بينما أسِر مع اثنين آخرين. وفي سجن نابلس المركزي حُكم بالسجن المؤبد ثلاث مرات، ونقل مع رفيقيه إلى سجن عسقلان.

سجن عسقلان.. استهداف إنسانية الأسير

كان سجن عسقلان قد افتُتح للمقاتلين الفلسطينيين المنظّمين في فبراير/شباط 1969 وقبل شهور من انتقال موسى الشيخ إليه. وسبقت وصوله قصص مخيفة عن الرعب والعذاب هناك، أقلها إجبار المعتقل على مخاطبة السجان بكلمة “سِيدي” وإلا سيتلقى الضرب حتى تسقط أسنانه، كما حدث مع محمد سعد الضميري رفيق زنزانة الشيخ لاحقا.

يقول الشيخ في سيرة ذاتية دوّنها محمد البيروتي في رواية “الشمس تولد من الجبل”: “في سجن عسقلان أنت المستهدف، الإنسان بذاته.. المطلوب الروح والجسد، اللحم والدم، هنا تجتاز بوابة الأبدية، ولا تدري متى تتحرر”.

الحركة الأسيرة في العقود الأربعة الأخيرة قدمت 218 شهيدا منهم 73 أسيرا قتلوا تحت التعذيب (غيتي)

وبعد عام على إنشاء سجن عسقلان وتفشي التعذيب والإذلال فيه، تناقلت مجموعة أسرى ظهرت فيها صفات القيادة اتفاقا سريا بالتمرد والإضراب عن الطعام. وسيكون إضراب عسقلان الرابع في تاريخ الأسرى بعد تجارب قصيرة ومحدودة في سجون الرملة وكفار يونا وسجن الأسيرات بـ”نفي ترستا”، لكنه الإضراب الأول من ناحية تنظيمه ونوعية المنخرطين فيه كمقاتلين عسكريين ومن ناحية حجم القهر والتعذيب والإذلال الذي كان وقود التمرد.

طالب الإضراب الذي استمر أسبوعا بإدخال القرطاسية والورق والملابس من الأهل وزيادة وقت الخروج إلى ساحة السجن (الفورة) والتوقف عن مناداة السجان “يا سِيدي”.

قال الشيخ: “معظم المعتقلين في السجن تعرضوا لإصابات نتيجة الضرب اليومي، والبعض الآخر لبتر أطراف بعد تعفن إصاباتهم، كما حدث مع أسير من عائلة الدويك، سيستشهد لاحقا إثر الإضراب وإصابته”.

إضراب 1970.. إطعام قسري

خططت قيادات الأسرى أن يُعلَن الإضراب بعد زيارة الأهالي وإبلاغهم كي يحصلون على دعم من الخارج. وهكذا انطلق صباح الخامس من يونيو/تموز 1970، حين وقف الأسير فايز الغوراني على نافذة غرفة رقم 17 بالطابق الثاني من السجن وصاح بأعلى صوته: “يا شباب عسقلان، اليوم نشرع في إضراب مفتوح عن الطعام. اليوم يُظهر الرجال أنفسهم، وأنتم كلكم رجال”. وكررها أربعا، قبل أن يندفع السجانون بهراواتهم إلى مصدر الصوت. لكن المعتقلين كانوا قد حسموا أمرهم وأعادوا وجبات الإفطار دون أن يلمسها أحد.

تُرك المضربون لأيام رهنا للإهمال ونهبا للجوع يفتك بهم وبمعنوياتهم، مع استعراض يومي للطعام أمام أقسامهم، حتى بدأت أجسادهم تتساقط. وفي اليوم السادس، نُقل موسى الشيخ مع مجموعة من الأسرى تباعا إلى عيادة السجن، وهناك تقرر إخضاعهم للتغذية القسرية بإدخال الحليب بواسطة أنبوب بلاستيكي في الأنف إلى المعدة.

إضراب نفحة كان الأعنف في تعامل إدارة السجن مع المضربين (غيتي)

قال الشيخ: “كان يجتمع خمسة سجانين لتثبيت الأسير من أطرافه وكتفيه بعد تقييده إلى كرسي، ويقوم أحدهم بإدخال أنبوب بلاستيكي رفيع بطول مترين عبر الأنف ويوضع فيه مقدار كوب من الحليب ليصل المعدة”.

كاد الشيخ أن يفقد حياته خلال إطعامه قسرا، وأصيب بنزيف حاد صاحبه اختناق وتشنجات. وفي العيادة ذاتها استشهد زميله الأسير عبد القادر أبو الفحم ابن غزة حين اخترق الأنبوب رئته.

يذكر الشيخ إن الإضراب حقق القليل من مطالب الأسرى الذين تعرضوا لخداع إدارة السجن بعد زعمها الاستجابة لمطالبهم، حيث سمح لهم بفورة ثانية خلال اليوم لكن مع الاشتراطات السابقة بوضع اليدين خلف الظهر وخفض العينين لما يوازي القدمين وارتداء القبعة ولباس السجن وعدم محادثة الآخرين.

إضراب 1976 ونشيد الحياة

وفي عام 1976 عايش موسى الشيخ تجربة الإضراب والتغذية القسرية مرة أخرى فيما سُمي “إضراب عسقلان الكبير”، فقد أُخضع أكثر من 250 أسيرا فلسطينيا للتغذية القسرية منذ اليوم التاسع لإضرابهم وحتى انتهائه في اليوم الخامس والأربعين.

وفي هذه المرة نجح الأسرى في إجبار إدارة السجن على إدخال القرطاسية وتحسين نوعية وكمية الطعام واستبدال فَرشات الأسرى الجلدية “الجومي” المهترئة، وسمح لهم بمراسلة الأهالي.

وقد افتُتح “إضراب عسقلان الكبير” بنشيد خطه الأسير محمد أبو لبن وتحول إلى إحدى أغاني الأسرى الشهيرة تاريخيا.

في يوم الأسير الفلسطيني يسترجع الفلسطينيون نضال الحركة الأسيرة في فلسطين (غيتي)

يقول وزير الأسرى السابق عيسى قراقع في كتابه “مربع أزرق” إن “نشيد عسقلان” الذي انتشر في كل السجون، “أرّخ لمرحلة انتقالية هامة في تجربة الحركة الوطنية الأسيرة، وبداية الصحوة والغضب لآلاف الأسرى الفلسطينيين والعرب ضد سياسة تطويع المناضل وإخضاعه تمهيدا لشطبه وطنيا وإنسانيا. وكانت السجون في تلك المرحلة قد تحولت إلى وسيلة عقاب بدلا من حبل المشنقة وصارت أجساد المعتقلين مسرحا لكل أنواع التعذيب والتنكيل الجسدي والنفسي”.

يقول النشيد:
سجّل يا تاريخ قُل يا عسقلان
في لهيب الدم حدّث يا زمان
عن رجال عن جِباه لا تُهان

كم حملنا ظلمة الليل الطويل
كم صبرنا ما عرفنا المستحيل

نحن شعب ليس فينا من ذليل
ما سما نذلٌ ولا سادَ جبان

إضراب نفحة 1980.. شهداء التغذية القسرية

في يونيو/تموز من العام 1980 سيعود إضراب سجن نفحة ليستمر 32 يوماً، بعد شهور من افتتاح السجن، وكان يتسع لنحو مئة أسير، وقد هدفت سلطات الاحتلال من تشغيله إلى عزل الكادر التنظيمي عن الحركة الأسيرة التي تمكنت من بناء نفسها والنهوض بواقع الأسرى خصوصاً في سجني عسقلان وبئر السبع المركزي. وقد قرر الأسرى الإضراب احتجاجا على اكتظاظ السجن وسوء الطعام المقدم المليء بالأتربة.

في هذا الإضراب هاجمت سلطات السجن الأسرى وأخضعتهم للتغذية القسرية بأنابيب بلاستيكية أيضا، فاستشهد إثر ذلك الأسرى راسم حلاوة وعلي الجعفري ثم إسحق مراغة الذي عانى لعامين. كما توثق منشورات الحركة الأسيرة استشهاد الأسير أنيس دولة في هذا الإضراب أيضا.

آلاف الأسرى الفلسطينيين استمروا باللجوء إلى إضرابات جماعية للتغلب على سياسات التضييق عليهم (غيتي)

كان إضراب نفحة هو الأعنف في تعامل إدارة السجن مع المضربين، وقد انتهى بتحقيق جملة مطالب هامة على صعيد الحياة الإنسانية حتى عام 1984 حين أعلن الإضراب بسجن الجنيد في نابلس وامتد إلى كل السجون واستمر 13 يوما. واعتُبر هذا نقطة تحول في تاريخ الحركة الأسيرة، إذ سمح الاحتلال بعده بإدخال الراديو والتلفاز والملابس المدنية، وبتحسين أنواع الطعام والعلاج.

وفي سبيل تحسين أوضاع اعتقالهم، استمر آلاف الأسرى الفلسطينيين باللجوء إلى إضرابات جماعية للتغلب على سياسات التضييق عليهم وعزلهم أو معاقبتهم أو سن القوانين ضدهم، ولتحقيق منجزات هامة كالتعليم والعلاج وإدخال الكتب.

إضراب الكرامة 2019.. انتصار على السجّان

وخاضوا منذ نهاية الثمانينيات وحتى يومنا عشرين إضرابا جماعيا آخرها إضراب الكرامة الثاني الذي أعلن في الثامن من أبريل/نيسان 2019 بمشاركة قيادات الأسرى وانضمام نحو 300 أسير من مختلف السجون إليهم بعد هجمة قمع كبيرة على سجون عوفر والنقب وريمون.

في الإضراب الأخير لجأ الشاب إسلام وشاحي (36 عاما) الذي غادر قرية مثلث الشهداء جنوب جنين معتقلا عام 2002، إلى طعن أحد ضباط السجن وإصابته بجروح خطيرة وإصابة سجان آخر، وذلك عندما واجه مع رفاقه في أقسام سجن النقب قمعا عنيفا على خلفية احتجاج الأسرى على تركيب أجهزة تشويش لتعطيل أية اتصالات خلوية محظورة بين الأسرى.

5700 أسير في سجون الاحتلال الإسرائيلي حاليا، بينهم 250 طفلا و47 أسيرة و500 تحت قانون الاعتقال الإداري المتجدد (غيتي)

في الخامس والعشرين من مارس/آذار 2019 تصل الأخبار إلى عائلته بإصابته بجروح خطيرة، بعد أن اتهمه الاحتلال بتنفيذ عملية طعن مع رفيقه الأسير عدي سالم. وقالت عائلة وشاحي إنها مُنعت من زيارته منذ شهور طويلة عقابا له، وكان قد اعتقل نهاية 2002 بعد مطاردة استمرت ثمانية شهور وبتهمة النشاط العسكري في كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، ومحاولة إدخال فدائيين إلى الداخل المحتل عام 1948، وحكم بالسجن 19 عاما.

وفي هذه الأثناء تَعتبر الحركة الأسيرة القمع في سجن النقب شرارة الإضراب المفتوح عن الطعام، والذي طالب هذه المرة بوقف العقوبات التي تصاعدت على الأسرى منذ اتهام حركة حماس باختطاف وقتل ثلاثة مستوطنين قرب مدينة الخليل صيف 2014، ثم بعد تشكيل وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي جلعاد أردان لجنة خاصة للتضييق على الأسرى عرفت بـ”لجنة أردان”، وهي التي أوصت بخصم مخصصات الأسرى من الأموال المحولة شهريا للسلطة الفلسطينية.

وطالب الأسرى بوقف تركيب أجهزة التشويش لإمكانية تسببها بأمراض سرطانية، وبالسماح بزيارة أسرى قطاع غزة، وبوقف سياسة الإهمال الطبي، وإنهاء عزل العشرات منهم، وكذلك تركيب هواتف عمومية للسماح بالتواصل مع عائلاتهم.

وبعد ثمانية أيام من الإضراب أفضت محادثات داخل وخارج السجون إلى الاستجابة إلى مطلب تركيب هاتف عمومي، الأمر الذي اعتُبر سابقة تاريخية حيث يطالب الأسرى بذلك منذ الإضراب الجماعي عام 1992.

ويقول رئيس نادي الأسير الفلسطيني قدورة فارس إن الاحتلال أراد خلال السنوات الأخيرة تقويض البنى التنظيمية للأسرى التي دافعت عن حقوقهم والتعامل مع الأسرى الفلسطينيين كمجرمين جنائيين لا يمثلهم أحد، وجاءت المعركة الأخيرة لتحمي هذه البنى وتعزز حضورها.

ويذكر فارس إن بناء الأطر والهياكل التنظيمية داخل السجون كان من أهم إنجازات الحركة الأسيرة، حين بدأ الأسرى يتعاملون مع إدارات السجون كجماعات منظمة لها قرارها وقوتها، بدأت تتشكل بعد إضراب عسقلان الثاني 1976.

ويعتبر فارس تحقيق مطلب إكمال التعليم الثانوي والسماح بالانتساب الجامعي (الذي قرر بنيامين نتنياهو شخصيا إلغاءه عام 2010) من أهم منجزات الحركة الأسيرة بعد إضرابات طويلة، إلى جانب إنجازات قد تعتبر بديهية لكنها كانت أساسية كالحصول على فرشة نوم أو وسادة أو مشط للشعر بعد أن كان الأسرى مجبرين على حلاقة شعرهم بالكامل.

يوم الأسير.. حصيلة ثقيلة

وبمناسبة يوم الأسير الفلسطيني الذي يوافق السابع عشر من أبريل/نيسان من كل عام، وهو اليوم الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني في دورته عام 1974، قال تقرير مشترك لمؤسسات وهيئات الأسرى إن نحو مليون فلسطيني خاضوا تجربة الاعتقال في السجون الإسرائيلية منذ احتلال عام 1967، دون أن تتوفر معطيات عن الاعتقالات في الثورات التي سبقت النكبة عام 1948 والتي تلتها أيضا.

 ويبلغ عدد الأسرى في سجون إسرائيل أكثر من 9500 فلسطيني، بينهم 80 سيدة، وأكثر من 200 طفل موزعين على سجون “مجدو” و”عوفر” و”الدامون”، ولا تشمل تلك الأعداد كافة أسرى قطاع غزة الذين يختفون قسريا.
وقد ارتفع عدد الأسرى الإداريين (دون تهمة) إلى أكثر من 3660، حتى بداية أبريل الجاري، بينهم 22 سيدة وأكثر من 40 طفلا.
كما وصل عدد الأسرى الصحفيين إلى 56، منهم 45 تم أسرهم بعد السابع من أكتوبر، ولا يزالون الأسر، بينهم 4 صحفيات.