“أوتو فاغنر”.. موهبة معمارية غيرت وجه أوروبا

في منزل بسيط بحي وسط فيينا ولد الطفل “أوتو” عام 1841، وكان والده كاتب عدل لكنه توفي عنه في وقت مبكر، وقد أرادت له أمه أن يسير على طريق أبيه مهنيا وأن يكون ملتزما دينيا واجتماعيا، لكن لم يحدث من ذلك أي شيء، فقد سلك الفتى طريق المجون، وعثر صدفة على الحب والإبداع فتفجرت مواهبه الهندسية وغير وجه فيينا وواجهة أوروبا بأكملها.

هذه القصة يحكيها فيلم “أوتو فاغنر.. معماري الحداثة”، الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية.

 

الرجل المناسب في المكان المناسب

يوما ما قام المعماري “ثيوفيل هانسن” بإجراء تغييرات على شقة العائلة، فأعجب “فاغنر” بذلك، وكان لأسلوب هذا المهندس التأثير المباشر عليه.

“هانسن” الذي كان صديقا للعائلة هو أول من اكتشف موهبة “فاغنر” الهندسية، ففي منتصف القرن التاسع عشر شهدت فيينا طفرة بناء غير مسبوقة. فهدمت أسوار المدينة وأنشئت جادة “رينغستراس” الرائعة بمبانيها المذهلة ذات الطراز التاريخي. في هذه الفترة أصبح “فاغنر” مندهشا فنّيا، فقد شاهد كيف غير هذا المشروع المدينة بأكملها. ويعرض الفيلم صورا للمباني المطلة على الجادة ومنها البرلمان.

وفي أواخر ستينيات القرن التاسع عشر شارك “فاغنر” شخصيا في عملية البناء في “رينغستراس”، وعينه “هانسن” مشرفا على تشييد قصر “اتش تاين” ومنحه حرية كبيرة، وبالإضافة للإشراف على البناء فقد ساهم “فاغنر” في التصميم الداخلي.

وعلى عكس العديد من المهندسين المعماريين، تعلم “فاغنر” حرفته تصاعديا، فقد أمضى تدريبه المهني كبنّاء. وفي نهاية القرن التاسع قام بتشييد مباني سكنية، وفي أحد هذه المنازل وسع السقف الغني بالزخارف فوق الواجهة، وهي ميزة نموذجية لهندسته المعمارية. لقد صمم الواجهة بأسلوب النهضة الحديثة، لكن النمط الثلاثي بالأبيض والأسود أعطى مؤشرا على إمكاناته الفنية.

كف مطرزة بالحناء.. تحرر الهندسة من هيمنة التاريخ

كانت العمارة بالنسبة لـ”أوتو فاغنر” أقوى الفنون، فقد صمم مباني في مدينته فيينا حديثة إلى حد كبير لدرجة أنه لم يسبق لأوروبا أن شهدت لها مثيلا، وقد ركز “فاغنر” على الإنسان الحديث فخطط وبنى لأجله، وكانت علامته التجارية عبارة عن واجهة تخلو من البهرجة والنماذج الرخيصة، كما جمع “فاغنر” الذوق الرفيع من نهاية القرن التاسع عشر لإعطاء العصر الجديد الهيئة المعمارية الخاصة به.

بدات الحداثة المعمارية تظهر جلية على مباني المدينة بعد ظهور فاغنر

في تعليقه بالفيلم، يقول “أندرياس نير هاوس”: كان “أوتو فاغنر” أول معماري في القرن التاسع عشر يحرر نفسه من هيمنة الأساليب التاريخية، ويبحث عن نوع جديد من الهندسة المعمارية كأسلوب للحياة العصرية، وهذا ما يميزه عن جميع معاصريه، ليس فقط في أوروبا ولكن أيضا في الولايات المتحدة.

وفي هذا المحور يعرض مخرج الفيلم صورا لمدينة فيينا وتبدو لروعتها وتناسقها مثل كف جميلة مطرزة بالحناء. وقد تشكلت أعماله الأولى على غرار الطراز التاريخي السائد آنذاك، وهو مزيج مثير من الأساليب المعمارية القديمة، وعلى الرغم من أن الطبقة الإمبراطورية والبرجوازية أعجبت بأسلوبه، فإنه نأى بنفسه لاحقا عن أعماله الأولى.

يقول “ماركوس كريستان”: أعتقد أنه بنى 23 منزلا من جيبه الخاص كمستثمر وعاش هناك لفترة وجيرة وربما حقق ربحا كبيرا، فقد كان يعلم كيف يبني بثمن بخس وبجودة عالية في نفس الوقت، ثم يبيع.

هوس الملاك الحارس.. ثورة الحب والهندسة

كانت والدة “فاغنر” قوية، ولم تكن راضية عن ابنها الذي كان على علاقة قبل الزواج ولديه طفلان غير شرعيين، وقد أجبرته على الزواج من ابنة صائغ القصر، فكان زواجا مريعا نتجت عنه طفلة، فوقع المهندس في حب مربية هذه الطفلة التي تدعى “لويزا شتيفل”.

وبعد سنة توفيت والدته وأصبح بإمكانه تحرير نفسه من زوجة لم يحبها ومن قيود أمه الحازمة، فجعل من حبيبته الجديدة مركز حياته، فغيرت حياته كإنسان ومعماري أيضا، وألهمته الإبداع، وكان يسميها الملاك الحارس، ويرسم جميع أبعاد جسدها، ولازمه هذا الهوس طوال حياته.

بنك فيينا المركزي فاز بتصميمه فاغنر وكان تصميمه مدهشا بقبة كبيرة مضاءة

وقد تحدث في الفيلم أيضا مؤرخ الفن “أوتو أنتونيو غراف” الذي كرس حياته البحثية بأكملها لأعمال “فاغنر”، ويروي أن “فاغنر” في عام 1882 فاز بمسابقة بناء بنك فيينا المركزي، وكان هذا الحدث نقطة التحول في العمل المعماري العصري.

وبينما يعرض المخرج صورا من واجهة البنك، يعلق غراف قائلا: إنه أحد المباني المدهشة في القرن التاسع عشر ومن أهم المباني في أوروبا بأكملها، وبعبارة أخرى لا تكمن الأهمية في جادة “رينغستراس” وإنما في هذا المبنى فقط، برأيي إنه أهم مبنى شيد في الفترة من 1850 و1900، فالضوء تدفق إلى داخل المبنى من كل الجهات، ومن المستحيل أن ينجز بشكل أفضل من هذا، وفوق القاعة الرئيسية قبة زجاجية، وينبعث الضوء للطوابق السفلية من البلاط الزجاجي الأرضي، أما في أعلى المبنى فيقف تمثال النمسا شامخا، ولم يكن صدفة أن يكون شبيها بالملاك الحارس “لويزا” حبيبة وزوجة “فاغنر”.

ويلاحظ “كريستيان” أن “فاغنر” كان شخصا حساسا للغاية، ولو ألقيت نظرة فاحصة على مبانيه فستشعر بذلك مرارا وتكرارا.

تحقيق الحلم الأول.. تمرد على العادات القديمة

في عام 1886 حقق “فاغنر” حلمه الفني حيث قام ببناء فيلا غرب فيينا، وقد جسد فيها تمرده على الأذواق المعاصرة، وكانت في البداية معدّة لمقر صيفي، ثم قرر لاحقا استخدامها على مدار العام، ولهذا السبب قام بتلميع سقيفتين وتحويلهما لمساحة معيشة دائمة، وفي الجناح الأيسر أقام مرسمه المزين بنوافذ زجاجية.

فيلا غرب فيينا، جسّد فيها فاغنر تمرده على الأذواق الكلاسيكية

في عام 1888 أثار مبنى “فاغنر” السكني الجديد وسط فيينا الاستهجان حتى في الأوساط العليا، وقد سخر منه سكان المدينة.

ويروي “أندرياس نير هاوس” أن هذه كانت أول مرة يستغني فيها المعماري عن الدعامات الكلاسيكية، وبدلا من الأعمدة استخدم شرائح عمودية بسيطة تظهر في الواجهة وتبدو كما لو كانت مطرزة، كانت أفكاره كبيرة ولم يرد فقط تشييد المباني في فيينا، بل أراد تغيير المدينة بأكملها.

سكة حديد فيينا.. مشروع الحلم الكبير

سنحت لـ”فاغنر” الفرصة الكبرى لتحقيق أعظم خطوة في ثورته المعمارية عام 1894، حين حصل على أضخم عقد في أوروبا في ذلك الوقت، إذ جرى تكليفه ببناء سكة حديد فيينا وتنظيم جريان قناة الدانوب، وفي موقع مكشوف حيث تنفصل القناة عن النهر، قام “فاغنر” ببناء سد “نوز دورفير”، وكان يعرف أكثر من أي شخص آخر كيف يجمع بين الخاصية الوظيفية والجمالية.

بناء سكة حديد فيينا وتنظيم جريان قناة الدانوب كان اعظم العقود التي فاز بها فاغنر في حياته

تجول “فاغنر” لبعض الوقت يبحث عن المنحوتات المناسبة وطلب من صديقه “رودلف” أن ينحت له أسودا، لتبدو واقفة بالأعلى وكأنها تتأهب لكبح عنفوان فيضان النهر.

وقد صمم السد لحماية أسفل المدينة من الفيضانات، ولتأمين خطط السكك الحديدية الجديد، وقد تضمن العمل تطويرا واسعا للضفتين اللتين اعتبرتا منطقتي مبيعات، وفي هذا الوقت كان “فاغنر” يسلك طريق النجاح ولم يكن هناك مستحيل بالنسبة له.

أكاديمية الفنون الجميلة.. صناعة الجيل الجديد

في عام أيضا 1894 أصبح أستاذا بأكاديمية الفنون الجميلة خلفا لـ”كارل هازينور” الذي توفي ذلك العام، وقد عين “فاغنر” في المنصب بعدما ساد اعتقاد بأنه سيبني بنفس الأسلوب الباروكي التي اتبعه “هازينور”، لكن ذلك الاعتقاد كان خاطئا.

لقد بدأ نوعا من التفاعل بين الطلاب الشباب الذين كانوا منفتحين على كل ما هو جديد وبين “فاغنر” الذي يواصل عمله منذ 55 عاما، وفي وقت لاحق قام تلاميذه ورفاقه المحترفون بتشكيل مشهد مدينة فيينا، فتولى “هوبيرت” و”فرانس غيسلر” تصميم دار النشر الاشتراكية “فورفيرتس”، أما “كارل اين” فقام بإنشاء حي “كارل ماركس هوف”، وصمم “ماكس فابياني” مبنى “أورانيا”.

ما تزال معالم ضفاف قناة الدانوب تشهد على تطوير فاغنر لها، إذ لم يختلف قديمها عن حديثها كثيرا

أثر “فاغنر” على جيل كامل من المهندسين المعماريين وحتى اليوم ما يزال محط إعجاب في اليابان، وفي خط السكة الحديدية الخفيف، تخلص من الزخارف التاريخية وخلق هندسة معمارية تتوافق مع النمو الحضري السريع ومع الحياة العصرية في أواخر القرن التاسع عشر، وقد غير خط السكة مظهر فيينا بشكل أساسي، أكثر من أي مشروع سابق.

وقريبا من قصر شومنبرون قام “فاغنر” ببناء محطة للإمبراطور “فرانس جوزيف الأول”، لكن الإمبراطور لم يكن هو من كلفه بتشييد هذا المبنى، بل إن “فاغنر” هو من أراد بناء هذه المحطة كدعاية لنفسه وبوابة يدخل منها للإمبراطور، وقام بتمويل المبنى من خلال خفض التكاليف في أجنحة السكك الحديدية الأخرى، لكن تصميمه لم يكن موضع ترحيب في القصر، ولذلك لم يستخدم الإمبراطور هذه المحطة إلا في مناسبتين.

سور سكة الحديد.. حماية إرث “فاغنر”

مع مرور الزمن لم يعد الحفاظ على السكك الحديدة أولوية دائمة، ففي منتصف القرن العشرين كانت أجنحة سكك حديد “فاغنر” في حالة بائسة لدرجة أن بلدية فيينا فكرت في هدمها، وفي الواقع هدمت بعض المحطات وأعيد بناؤها مع الحفاظ على الغالبية.

ويعلّق المعماري “فيلهلم هولزباور” قائلا: ما يعنيه “فاغنر” بالنسبة لنا لا يحتاج إلى شرح، لم يكن ممكنا المساس بالمحطات، وكان من المهم الحفاظ عليها قدر الإمكان.

السياج الحديدي على خط السكة القديم الذي يمر عبر فيينا لا يزال قائما في مكانه الذي وضعه فيه فاغنر

ولا يزال السياج الحديدي على خط السكة القديم يمر عبر فيينا مثل شريط معدني، وقد حافظت المدينة على السور بفضل الاحتجاجات العامة ونضال فريق ملتزم من المهندسين المعماريين برئاسة “هولزباور”.

لقد أثبت المهندسون المخلصون لإرث “فاغنر” أنه من الممكن ترك كل شيء على حاله، لذا أُنقذت معظم خطوط السكة الحديدية الخفيفة والجسور والقناطر والأسوار العازلة، وأما ما وقع التخلص منه في الستينيات فقد تحول إلى مصدر لاكتشافات هندسية جديدة.

مهرجان الحواس.. فن يمكنك لمسه بيديك

في عام 1899 أصبح “فاغنر” عضوا في حركة الانفصال الفنية، وكان قريبا جدا من فنّانيها، وحرص على أن يقدم لهم العمل.

يقول “أوتو أنتونيو غراف”: إنهم يعلنون ما يجب أن يكون عليه الفن، فتلك هي دعاية “فاغنر”، إنهم يصرخون بأن الفن هو ما أقوم به، لذا فإن الصراخ يأتي من أسطح المباني بما يجب أن يبدو عليه الفن، وليس كمثل هذه الأشياء الكريهة المجاورة؛ كل الهندسة المعمارية غير المعاصرة.

مباني “فينيا رو” التي صممها فاغنر للسكن هي من بين أكثر معالم المدينة التي يلتقط الناس لها صورا

كانت الحداثة مع “فاغنر” دائما مهرجانا للحواس، فتبدو واجهة المباني الشهيرة عبارة عن ستار من الزهور، ووراء كل التفاصيل الفنية هناك التطبيق العملي، وقد بذل “فاغنر” جهدا كبيرا لضمان سهولة تنظيف المباني، وأحد هذه الأمثلة هو مبنى “مايوليكا”، فهذه الواجهة المكسوة بالقرميد يمكن غسلها بسهولة ولا تتطلب سوى القليل من العناية.

وتعد مباني “فينيا رو” من بين أكثر معالم المدينة التي يلتقط الناس لها صورا، وفي ذلك الوقت كانت أكبر مشروع سكني لـ”فاغنر” حيث كانت تضم خمسين شقة منزلا، وقد لعب المهندس المعماري بالزخارف النباتية النمطية في الداخل، ودمجها مع التكنولوجيا الحديثة الفائقة.

وبجمالها اللطيف ومن خلال اعتماد الأساسيات تعيد هذه المباني تعريف سكن الطبقة الوسطى، وتظهر أيضا علامة “فاغنر” التجارية وهي دائرة في التصميم الداخلي، ومن حيث الأسلوب يتوافق الأثاث الداخلي مع المبنى بشكل مثالي. ومن وجهة نظر “فاغنر” فإن عمل المهندس المعماري لا ينتهي بإعداد مخطط المبنى، ولذلك صمم كل شيء من مقابض الأبواب إلى الأبواب المزدوجة، إنه فن يمكنك لمسه.

“إنه لأمر رائع”.. بنك البريد الذي أبهر الإمبراطور

كان “فاغنر” مقتنعا بأنه يعرف كيفية البناء مع الجودة، وفي بعض الأحيان كان إبداعه مقترنا بجنون العظمة. وفي عام 1904 قام ببناء المكتب الرئيسي لبنك البريد النمساوي وكان عمره حينها أكثر من ستين عاما، فجاء هذا المبنى رمزا للانطلاق نحو العصر الجديد.

وقد اشتهر “فاغنر” باستخدام بناء المواد الجديدة بطريقة مبتكرة، ليس فقط الحديد وإنما أيضا الألمنيوم والمشمع، فبنك البريد النمساوي هو ذو أرضية مغطاة بمادة لها جانب سفلي من النسيج ووسط ناعم للغاية، وكانت صحية وسهلة التنظيف، ويمكن استبدالها بسهولة عندما تتهالك.

مبنى البريد الوطني جاء مكسوّا بدعائم الألمنيوم الكثيرة التي اعتقد بأن فاغنر استورد ثلث إنتاج الأرض منها يومئذ

لقد أعطى المبنى تصميما مفتوحا، وكان يكسو الدعائم وأعمدة التهوية بالألمنيوم، ويقال إنه اشترى سدس إنتاج العالم من الألمنيوم لهذا المبنى وحده، وكما هو الحال في جميع مبانيه فقد قام بخفض ارتفاع درجات السلم إلى حوالي 12سم، لذلك يمكن صعود الدرج بجهد قليل.

وعند افتتاح المبنى البريدي كان الإمبراطور حاضرا، وعندما أخذه “فاغنر” في جولة داخل المبنى، قيل إنه علق قائلا: “إنه لأمر رائع”. يعكس الأثاث الهيكل الهرمي في البنك: الأخضر مع الألومنيوم لنائب المدير، والأحمر مع النحاس للمدير العام.

آلهة النصر الشامخة.. انتصار الحداثة

ينتمي “فاغنر” لجيل من المهندسين المعماريين الذين خططوا لأدق التفاصيل في مبانيهم حتى مقابض الأبواب، وقام أيضا بتصميم الأثاث والمعدات والمصابيح وغير ذلك، وهذا نابع من فهمه للهندسة المعمارية كجوهر لجميع الفنون الأخرى، واعتبار المهندس المعماري صانع الحياة الحديثة.

“لويزا شتيفل” المربية التي غيرت حياة فاغنر كإنسان ومعماري، وألهمته الإبداع، فكان يسميها الملاك الحارس

وقد كتب “فاغنر” التاريخ المعماري بواجهة المبنى، لكن أهل فيينا كانوا متشككين بالأمر، ولأن مبنى البنك كان مغطى بالمسامير أطلقوا عليه “المبنى المقفل”، وعلى السطح يقف تمثال آلهة النصر شامخا، ليثبت انتصار الحداثة.

وفي عام 1911 دعي “فاغنر” لنشر دراسة حول المدينة العصرية، وفي سياق هذا العمل أعد مسودة للمنطقة رقم 22 الخيالية في فيينا، وعرفت هذه الخطة باسم “المدينة غير المحدودة” وبها كنيسة ومناطق خضراء وبحيرة صغيرة ومبانٍ سكنية مجاورة تبدو جميعها متشابهة.

“في الخامسة والنصف صباحا حدث ذلك”.. تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

في ذات الوقت الذي شيد فيه مبنى البريد وضع “فاغنر” مخططا لفيلّته الثانية التي كان يفترض أن تقيم فيها زوجته “لويزا” بعد وفاته لكونها تصغره بـ18 عاما، لكن الأمور سارت على نحو مغاير، فقد توفيت في عامها السادس والخمسين وعاش بعدها ثلاث سنوات فقط.

كنيسة “شتاين هوف” من أهم أعمال “فاغنر”، وجمع فيها بين أنواع التقليد المعماري الأوروبي المختلفة

في 26 أكتوبر/تشرين الأول عام 1915 كتب في مذكراته:

“في الخامسة والنصف صباحا حدث ذلك، لقد أُخذت مني أرقى وأذكى وأجمل امرأة في العالم”.

وإلى جانب بنك البريد تعتبر كنيسة “شتاين هوف” من أهم أعمال “فاغنر”، ففي هذا المبنى جمع بين التقليد المعماري الأوروبي بأكمله من “آيا صوفيا” إلى كنيسة القديس بطرس في فيينا، لكن النتيجة كانت كنيسة حديثة.

“يا صاحب السمو”.. سطوة السلطان على ريشة الفنان

كان هدف “فاغنر” هو إثبات أن العمارة الحديثة ليست مناسبة للأغراض الدنيوية فقط، وإنما تناسب ما هو أسمى من ذلك، أي بيت الرب، فقام بإنشاء مبنى من الطوب وكساه بألواح رخامية، ثم ثبتها بمسامير نحاسية، بينما تتكون القبة من إطار حديدي مغطى بالنحاس ومذهب بطريقة فنية.

وعندما حان افتتاح الكنيسة كان الإمبراطور مريضا فأرسل ولي عهده “فرانس فيريداندز”، وفي خطاب التدشين لم يذكر ولي العهد اسم “فاغنر”، وقال في نهاية خطابه إن أسلوب حقبة “ماريا تيريزا” هو الأفضل على الإطلاق.

ولي العهد “فرانس فيريداندز” يفتتح كنيسة “شتاين هوف”

رد “فاغنر” قائلا: “يا صاحب السمو في أيامنا هذه المدافع سلسة، وتطلق النار أكثر من تلك المزينة في أيام ماريا تيريزا”، لكن “فيريداندز” أعرض عن “فاغنر” بعجرفة، ولم يكلف مرة أخرى بعمل عام.

لم يتمكن فاغنر من تجاوز محنة وفاة زوجته وانطوى على نفسه كثيرا وظل يكتب لها وعنها حتى وافته المنية في 11 أبريل/نيسان عام 1918، أي قبل بضعة أشهر فقط من نهاية الحرب العالمية الأولى، ولكنه لم يمت قبل التمهيد للعصر الحديث وقيادة العمارة نحو القرن العشرين، على الرغم من أن معاصريه لم يفهموا رؤيته دائما.