“البحث عن صاحبة الموناليزا”.. لوحة “دافنشي” تكشف أسرارها بعد قرون

لوحة حيرت كثيرين حول العالم بغموض ابتسامتها ودفئ نظرتها التي تبقى تحدق في مُشاهدها مهما تغير موقعه في الصالة، لوحة ناطقة لسيدة تملك جمالا أنثويا ساحرا.

في هذا الفيلم يصحبنا البروفيسور “جان بيير إيزبوتس” في محاولة للبحث عن إجابات لتساؤلات حيرت الباحثين عن من تكون صاحبة تلك الصورة؟ وما لو كانت الموناليزا التي في متحف اللوفر ليست الموناليزا الحقيقية؟ وما الذي دفع “ليوناردو دافنشي” لرسم لوحة لزوجة تاجر حرير فلورنسي أم هي سيدة غامضة من قصر “جوليانو دميدتشي” في روما أم أنها لوحة أنثوية ذاتية رسمها “ليوناردو” لنفسه؟

غادر “ليوناردو دافنشي” فلورنسا عام 1482 متجها شمالا إلى بلاط دوقية ميلانو، وكان يحكمها آنذاك الدوق “لودوفيكو سفروزا” الملقب بـ”ألمور” بسبب بشرته الداكنة، وسرعان ما انخرط دافنشي بأعمال خاصة عند الدوق وذلك برسم عشيقاته.

لم يقم ليوناردو في قلعة سفورزا بل في قصر قديم بالقرب من كاتدرائية ميلانو، وفي عام 1491 بدأ بوضع الخطوط الأولى للوحته الرائعة جدارية العشاء الأخير لدير “سانتا ماريا ديلي غراسي” فوضع كل خبرته بالمشروع إلى أن اعترضته مشكلة العمل السريع على الجص التي تحتاج إلى السرعة في التنفيذ.

كان ليونارد يفضل الرسم بالألوان الزيتية، لكن خليط ألوانه لم يمتزج بشكل جيد على جدارية الجص وأخذت اللوحة تتآكل. يقول الخبير “فينيسينت ديليوفن” من متحف اللوفر: تصدعت جدارية العشاء الأخير بشكل كبير، ولم تعد ترى تقنيات ليوناردو، وفقدت الكثير من قوتها التعبيرية ورؤيته.

ابتكار الرسم على القماش.. مدرسة البندقية الفنية

أمضي ليوناردو خمسة عشر عاما عند دوق ميلانو حيث تعرضت المدينة للغزو الفرنسي مرات عدة ونفى الملك الفرنسي لويس الثاني عشر عائلة سفورزا وأقام في قصر الدوق.

غادر “ليوناردو” مرسمه متجها إلى البندقية التي كانت نقطة جذب للرسامين المحليين، وامتاز أسلوب الرسم في البندقية بالتفرد في إظهار انعكاس الضوء على الماء بآفاق عميقة وألوان قوية، وقد اكتشف أسلوبا جديدا متبعا في البندقية، وهو الرسم على القماش بدل الألواح الخشبية، وكان القماش مناسبا تماما للألوان الزيتية لأنه لا يتشقق ويمتص الزيت بفاعلية كبيرة، ويمكن لف اللوحة ونقلها بسهولة، ولأن القماش أرخص يمكن جعل القماش أكبر من الهيكل.

قام مبعوث حكومة فلورنسا بالطلب من دافنشي رسما لتحويل هندسة نهر أرنو ليحرم بيزا من شريانها الحيوي

عاد “ليوناردو” إلى فلورنسا عام 1500 وكان قلة من الناس يعرفون إنجازاته العظيمة في ميلانو، لكن والده كاتب العدل “بييرو” عرّفه على رئيس دير “سنتيسيما أنونزياتا”، حيث كان الرهبان يبحثون عن رسام للوحة المذبح وأعجبوا بما قدمه “ليوناردو” لهم.

وهكذا تمكن “دافنشي” من رسم لوحة ضخمة في أعرق كنائس فلورنسا، فقد كان وقتها بحاجة إلى المال، وكتب شاهد عيان أنه منذ وصل فلورنسا لم يضع سوى مخطوطة واحدة، وهي رسمة للطفل يسوع في عمر العام يقفز بين ذراعي أمه.

خريطة إيمولا الجوية.. اختراع علم الخرائط

لم يقدم “دافنشي” شيئا سوى العمل على الهندسة لأنه لم يعد راغبا في الرسم وأراد التصميم والبناء والهندسة، وفي عام 1502 حقق أمنيته، حين جرى اختياره كمصمم عسكري عند شقيق البابا إسكندر السادس وهو “تشيزينا لتشيرزي بورجا” الذي انطلق لغزو إقليم رومانيا.

صمم “ليوناردو” السواتر ووضع خريطة جوية مذهلة لمدينة إيمولا التي احتلها “بورجا”، وابتكر علم الخرائط الحديث، وفي المخيم العسكري تعرف على “نيكولا مكيافيلي” مبعوث حكومة فلورنسا التي كانت في حرب مع بيزا وطلب منه مكيافيلي تحويل هندسة نهر أرنو ليحرم بيزا من شريانها الحيوي.

ووضع “ليوناردو” المخططات، لكن عدم جدية “بورجا” جعلته يعود مرة أخرى لفلورنسا في عام 1503 بدون عمل ولا مال، مما اضطره لسحب خمسين عملة ذهبية من مدخراته في مستشفى “سانتا ماريا نوفا”.

“ليزا ديل جوكوندو”.. بداية القصة

لجأ “ليوناردو” لصديقه “مكيافيلي” الذي أخبره أن حاكم المدينة يريد عمل جدارية لمعركة “أنغياري” في الصالة الكبيرة لدار البلدية، لكن رئيس البلدية “بيير سورديني” أراد استخدام الرسام “مايكل أنجلو”.

حين ذاك اضطر “دافنشي” لإيجاد حلفاء لقلب التصويت لصالحه، فعرّفه والده على “فرانشيسكو ديل جوكوندو” تاجر الحرير الذي تقلد أربعة مناصب بارزة في حكومة فلورنسا، فطلب منه رسم لوحة بورتريه لزوجته “ليزا” كنوع من تبادل المصالح، وهذا السبب الأكثر منطقية لقيام “دافنشي” برسم ربة المنزل “ليزا”، لأنه رفض قبل ذلك رفض رسم “إيزابيلا ديستي” وهي أكثر النساء نفوذا في عصر النهضة في إيطاليا، وكان “فرانشيسكو” صادقا في وعده، واختير “ليوناردو” لرسم الجدارية.

مدينة بيزا الإيطالية حيث عاش ليوناردو دافنشي

كانت تلك مجرد فرضية حتى عام 2005، حين وجد أستاذ بجامعة هايدليبرغ ملاحظة بخط اليد على هامش كتاب “رسائل ششرون” في القرن الخامس عشر مكتوبة من قبل “أغستينو فزبوتشي” حيث عثر على مرجع للفنان اليوناني “أبليس” يقول فيه إنه طلب من “دافنشي” أن يرسم لوحة “لفينوس” لكنه لم يكملها.

فكتب “فزبوتشي”: “هذه هي طريقة عمل “دافنشي” في جميع لوحاته (يقصد أنه لا يكملها)، ومنها على سبيل المثال لوحة “ليزا ديل جوكوندو” ولوحة حنا المعمدان والدة العذراء، وسنرى ماذا سيفعل في دار البلدية”.

هنا يشكك “فزبوتشي” زاعما أن “دافنشي” لم يكن يكمل لوحاته، وهنا يتبادر السؤال: هل الجالسة بالفعل هي “ليزا”؟ وهل الذي رسمها هو الذي رسم جدارية البلدية في 1503؟

سراديب سنغافورة.. سر لوحات “دافنشي” التي لم تكتمل

مشكلة الموناليزا تبدأ بكون اللوحة لا تبدو وكأنها رسمت بداية القرن السادس عشر، وذلك بمقارنتها بلوحة أخرى رسمت في ذلك الوقت، وهي لوحة العذراء تغزل النسيج، وهذا وفق ما كتبه “جورج فساري” كاتب سيرة “دافنشي” الذي رأى اللوحة في ثلاثينيات القرن السادس عشر، وكتب أن “ليوناردو” شرع بالعمل لصالح “فرانشيسكو ديل جوكوندو” على رسم لوحة الموناليزا زوجته، وبعد العمل عليها لأربع سنوات تركها غير مكتملة.

لكن المشكلة هي أن موناليزا اللوفر لوحة مكتملة، والجواب على هذا السؤال في سرداب في سنغافورة، وهي النسخة الحديثة من البندقية وواحدة من أكبر موانئ العالم ومستودع للأعمال ذات القيمة العالية، وفي أحد سراديب سنغافورة رسم لسيدة على القماش، وقد كانت متوارية عن الأنظار معظم القرن العشرين، لكنها متطابقة تماما مع رسم الموناليزا واسمها “موناليزيا إيزلورث”، ولم تكن هذه اللوحة مكتملة، لكن الوجه واليدين كانا رائعين.

دافنشي متهم بأنه لم يكن يكمل لوحاته التي يبدأ برسمها

إنها لوحة نابضة بالحياة، ولم يكن بمقدور أحد أن يرسم بتلك الروعة في القرن السادس عشر مثل “دافنشي”، ووصف “فاساري” و”فزبوتشي” مطابق لهذه اللوحة، فقد حملت العينان بريق الحياة، وهما محاطتان بصبغات وردية وانحناء الحاجبين مع الجفون جاء طبيعيا، كذلك كان الأنف ورديا ناعما، وحمرة الشفاه لا تبدو كصباغ بل كحمرة شفاه طبيعية.
هل هذه هي النسخة الأصلية إذن؟ لا يوجد العمودان اللذان في اللوحة في لوحة موناليزا اللوفر باستثناء قاعدتهما، لكن هناك ما يدل على وجودهما. ويشير “ديفيد فليدمان” من مؤسسة موناليزا أن العمل في اللوحة بدأ في بداية القرن السادس عشر واستغرق أربع سنوات، وفي ذلك الوقت تلقى “دافنشي” زيارة من تلميذه “رافيل” الذي قام برسم تخطيطي للموناليزا نقلا عن النموذج الأساسي، وكان “ليوناردو” وقتها يرسم الموناليزا في الرسم التخطيطي، وكان العمودان ظاهرين.

يبقى السؤال المطروح هل تلك اللوحة من رسم “دافنشي” أم أحد تلاميذه؟

تحليل البيانات الرقمية.. فرشاة “دافنشي” تنطق بالحقيقة

إذا ما تساءلنا عن حقيقة هوية الشخص الذي رسم الموناليزا فقد نجد الجواب في تقنيات التصوير التي طورها “جون إزموس” أستاذ الفيزياء في جامعة سان ديغو عام 1970 لإقرار أصالة لوحات “رمبرند”. يقول “إزموس”: “كان الطلاب يجرون بحثا علميا عن الأصباغ والطلاء، وفكروا بالتصوير الرقمي لدعم تحليلاتهم وبالمقابل إيجاد تقنية جديدة لإقرار أصالة اللوحات.

حين سمع “كارلو بدرتي” خبير لوحات “ليوناردو دافنشي” بتقنيات “إزموس” طلب منه تجريب التقنية على لوحات “دافنشي”، وجرت المعالجة بالمسح عالي الدقة لموناليزا اللوفر في مختبر الدفع النفاث لمعهد كاليفورنيا للتقنية، وجرى تحليله على حاسوب فائق الدقة، وبمجرد الحصول على صورة رقمية وأخذ قيم البكسل لكل بكسل في اللوحة تجرى تحليلات رياضية للخصائص المرتبطة لما يريده الفنان للقيام بعمل فني، وتأخذ صور للحواف وهي عائمة داخل اللوحة عند الانتقال من جزء لآخر.

قام معهد الدفع النفاث التابع لوكالة ناسا بتحليل صورة الموناليزا للتأكد من أنها اللوحة الأصلية

وقد دعي د. “إزموس” لجنيف للاطلاع على موناليزا اللوفر، وبدأ بتسجيل البيانات الرقمية بمقارنة الوجه والكتفين وغيرها للوحتين، وكان مذهولا إذ وجد أن ضربات الفرشاة متطابقة تقريبا، يقول: إن العمل استمر ما يقرب من عشرين عاما على لوحة “موناليزا إيزلورث” التي اعتبرت النسخة الأولى، وما أربكني لسنوات ولم يخطر ببالي أن توجد لوحتا موناليزا، وكان يتوجب علي معرفة ذلك، والأمر المهم أن “ليزا” كانت شابة فلورنسية جميلة، وبالفعل جسدها “ليوناردو” بشكل ساحر.

هناك لوحتان للموناليزا، الأولى تتطابق مع وصف “فاساري”، وأما الأخرى فقد رسمت بعد عقد من الزمن، لكن لماذا أعاد “ليوناردو” رسم تلك السيدة؟ الجواب أنه قد قام برسم نسخ عدة من لوحاته هو وتلاميذه.

تشريح النساء.. منابع علمية تغذي أنهار الرسم

أتلفت جدارية معركة إنغياري في عام 1506 واضطر “دافنشي” لاستخدام درجة اللون عينها مستخدما الألوان الزيتية. ويرى “لاري كيث” من معرض لندن أنه لا يمكن اعتبار “دافنشي” شخصا غير صالح لعمل الجداريات، لكن ضغط الوقت وتحديد الفكرة وتنفيذها بدلا من تركها تتبلور على الجدار هو السبب.

اهتم “دافنشي” باستكشاف الفروق الدقيقة في تدرجات اللون وتشبع الألوان الداكنة بين القاتم والغامق وشديد السواد، وكل هذه التدرجات لا يمكن تطبيقها على الجداريات.

لم يكن دافنشي مجرد رسام، بل كان أيضا عالم تشريح وجغرافيا وهندسة

وقد استدعي “دافنشي” إلى قصر ميلانو مرة أخرى عام 1506 لإنهاء النسخة الثانية من لوحة “سيدة الصخور”، لكن هل سيسمح له “فرانشيسكو” بالمغادرة قبل إنهاء اللوحة؟

سلم “دافنشي” اللوحة لعائلة “جوكوندو” قبل إنهائها، ورحل إلى ميلانو وهي النسخة الأولى “موناليزا إيزلورث”، وهناك بدأت رحلته مع موناليزا اللوفر. لكن ما السبب لرسمها مرة أخرى؟

هنا تأخذ القصة منحى ثانيا، فبعد عودته إلى ميلانو قدم للملك الفرنسي “لويس الثاني عشر” لوحة “مادونا” التي سُرّ بها كثيرا، وبذلك أصبحت مسيرته مضمونة، وهنا تدخل القدر فمات عمه “فرانشيسكو” في “توسكانا”، وكتب أملاكه لـ”ليوناردو” دون إخوته الشرعيين، إذ لم يكن ولدا شرعيا، فثاروا عليه ورفعوا دعوة لإيقاف الميراث، فقد كانت أموال دافنشي تذهب على ملابسه وإطعام تلاميذه، وتلك المرة الأولى التي يصبح فيها صاحب أملاك.

عاد “دافنشي” إلى فلورنسا معتقدا أنها مسألة أيام لكنها طالت، فقرر ترتيب دفاتره في مستشفى “سانتا ماريا نوفا”، وفي إحدى الليالي وبينما كان يتجول في المستشفى قرر تشريح جثث الموتى، ففي ذلك العام لم يعد التشريح أمرا محرما قانونيا، بشرط تشريح الذكور الذي يسمح أقاربهم بذلك، لكنه تجاهل ذلك وأراد معرفة أهم سر في هذه الحياة وهو لغز الأمومة، وقام بتشريح جثث النساء وهو أول من وضع تشريحا لجسم أنثى في التاريخ البشري، وبقي لغز الأمومة مسيطرا عليه حتى آخر حياته، وهذا ما دفعه لرسم الموناليزا مرة ثانية، وقد درس بتفصيل كبير موضوع الأمومة في ورشة “فيروكيو” على لوحة “مادونا”.

ابتسامة غامضة.. هل كانت الموناليزا مريم العذراء؟

كانت عبادة السيدة العذراء شائعة في فلورنسا الدومو الكاتدرائية المعروفة بـ”سانتا ماريا ديلافيوري” التي كرست لمريم الزهراء رمز حملها بلا دنس، دارت لوحته الأولى حول العذراء والطفل، لكنه كسر صورة مريم كملكة على عرش سماوي، وكشف العلاقة بين الأم ووليدها وهو ما دفعه لموضوع أعمق وهو ثالوث القديسة حنا، والهدف إبراز القديسة حنا والعذراء ويسوع.

ويرى “فنسنت ديليوفين” أحد القيمين على اللوفر أن اللوحة أظهرت الموت المحقق ليسوع، وهو الأمر الذي أدركته العذراء، فظهرت ملامح الحزن والفرح في آن معا، وقد وضعت تلك اللوحة في معرض للقديسة حنا عام 2012 وأظهر في مُحيا مريم الحزن والشجاعة والتسليم الصادق.

هل كانت الموناليزا مريم العذراء أم “ليزا” زوجة تاجر الحرير في حكومة فلورنسا؟

تلك اللوحة تظهر شبها كبيرا بين مريم والموناليزا، كلاهما تحملان ابتسامة غامضة، والخلفيتان في اللوحتين متشابهتان بشكل استثنائي، وقد ظهرتا بالفترة نفسها أي بعد عودة “ليوناردو” إلى ميلانو، وقد سمح بوضع نسخة أخرى من اللوحة بواسطة تلميذه “سالاي” أو تلميذه “فرانشيسكو ميلزي”.

في ضيافة البابا.. “هذا ليس مجرد رسام، إنه أستاذ”

مرة أخرى ينقلب الحال مع “دافنشي”، فقد طُردت القوات العسكرية الفرنسية من ميلانو، فلجأ “ليوناردو” لبيت “ميلزي”، وفي ذلك الوقت كان قد أكمل الستين من عمره، وفي عام 1513 جاء راع جديد لإنقاذه وهو “جوليانو ديلورنزو ديمودتشي” شقيق البابا العاشر، وقد دعا “ليوناردو” للعيش في القصر البابوي في روما.

غادر “دافنشي” برفقة “جيوفاني” و”فرانشيسكو دي ميلزي” و”سالاي” و”فانفويا”، وعاش في فيلا “بيل فيردي”.

لوحة العشاء الأخير الشهيرة

يقول “آرنولد” مدير متحف الفاتيكان: لم يهتم البابا بإعطاء “ليوناردو” أي عمل، وكان النجم وقتها “رفاييلو” الذي دعمه البابا “ليو” بقوة، ومن خلال جداريات نفذها “ليوناردو” في المسكن البابوي صنع اسما لنفسه. وتكريما له وضع في جداريته مدرسة أثينا. أما “مايكل أنجلو”، فقد كانت له مكانته عند البابا. وأخيرا اقتنع البابا بإعطاء “دافنشي” عملا ينجزه له، وهو رسم لوحة يوحنا المعمدان.

ورغم تقدمه في العمر وتدهور صحته واصل العمل على لوحة الموناليزا، وانتقل إلى القصر الفرنسي في عام 1517 بناء على دعوة فرانسيس الأول، ونال تقديره واحترامه. وفي القصر كان “أنتونيو ديبياتس” سكرتير كردينال الأرغون يكتب انطباعه عن دافنشي قائلا: “هذا ليس مجرد رسام، إنه أستاذ، كتب عن طبيعة المياه وعن آلات عدة ومواد أخرى، وهو يواصل الرسم وتعليم تلاميذه وفيهم تلاميذ من ميلانو، وهو يقدم عملا رائعا جدا وأرانا ثلاث لوحات؛ لوحة يوحنا المعمدان وهو شاب، ولوحة العذراء مع يسوع وهما جالسان في حضن القديسة حنا، والثالثة لسيدة فلونسية رسمت على طلب الراحل العظيم “جوليانو دميدتش”.

تجسيد الأمومة السرمدية.. تدريب تحت إشراف “دافنشي”

في عام 2006 ألقى فريق من الخبراء نظرة على موناليزا اللوفر بعد ترميمها تحت الطلاء والأوساخ، كان هناك وشاح رقيق على شعرها. وفي عام ٢٠١٢ اكتشف فريق في برادو مدريد تحت الفحص المجهري أن نسختهم من الموناليزا ظهر فيها بعض التعديلات على التصميم، ويرجح أن من رسمها هو “سالاي” أو “ميلزي” تحت إشراف “دافنشي”.

ويظهر الوشاح الأبيض أكثر وضوحا في هذه اللوحة وكان يعرف في عصر النهضة ويسمى “جوارنيلو” وترتديه النساء الحوامل أو اللاتي وضعن حديثا، وهو من سمات مريم عند ولادة يسوع ويرتبط بالحمل عادة، وبذلك فإن الموناليزا هي تجسيد للأمومة المثالية الحديثة وهذا يشير إلى ما درسه “دافنشي” حول الغموض النفسي والجسدي للأمومة، كما يرى من منظور مقدس ووثني.

وشاح الموناليزا الذي ترتديه النساء الحوامل أو اللاتي وضعن حديثا تشبيها لها بمريم العذراء

أخذ “دافنشي” من أمه “كاترينا” وهو في عامه الخامس تجربة مؤلمة له، وعندما رسم “ليزا” كانت تكبر أمه ببضع سنوات ولربما تركت لديه انطباعا قويا، لذا اختارها ليرسمها ثانية ليرسم الأم فيها، وهذا مفتاح السر لموناليزا اللوفر، كما يكشف كذلك عن البانوراما التي تنقسم لشقين؛ الأمامية أمام السيدة، وتُظهر طريقا متعرجة وجسرا مقببا على النهر، أما الجبال في الخلف فتُظهر قوى الخلق العظيمة التي تعمل على المساواة بين رحم السيدة والطبيعة وتناغمهما، كما أظهرت الخلفية التي أنجزت في روما أنه تمكن من تخطي مشاكله في الرسم من خلال معرفته بالعلم والطبيعة وبطريقته التجريبية ولوحاته الأخيرة الثلاث تجسيد لذلك.

جمجمة في الكنيسة ولوحة في المتحف

دفن “دافنشي” بناء على وصيته في كنيسة القديس “فلورنتان”، لكنه لم ينل الراحة الأبدية، ففي عهد نابليون هدمت الكنيسة وقام بستاني بجمع الرفات ووضعه في قبر جماعي، وبعد عدة عقود نبش أحد الشعراء القبر واختار جمجمة تشبه بورتريه لـ”دافنشي” ووضعها في كنيسة أمبواز.

جمجمة دافنشي التي نبش عنها أحد الشعراء ووضعها في كنيسة أمبواز

وفي القرون اللاحقة نالت الموناليزا الإعجاب في فرنسا وإيطاليا، وبقيت النسخة الإيطالية في روما حتى القرن الـ18، وأما النسخة الفرنسية فقد نقلها الملك إلى قصره الجديد وعلقها في حمامه الخاص وبقيت هناك مئتي عام.

أما موناليزا أو “سيدتي ليزا” بالعربية فقد بقيت خالدة تمثل الأنوثة السرمدية المتكاملة تماما كما أراد لها “ليوناردو”، وقد ابتكرت نسخ عديدة من هذه اللوحة التي سرقت ثم أعيدت مرة أخرى لباريس، فهناك في اللوفر تجلس “سيدتي ليزا” تستقبل ملايين المعجبين التواقين لرؤيتها.