أحوال المواطن العربي في ثلاثة أفلام قصيرة

قيس قاسم

ثلاثة أفلام قصيرة نالت كلها جوائز سينمائية رفيعة، تجتمع حبكاتها على محاكاة أحوال الإنسان العربي في جغرافيات وبيئات اجتماعية مختلفة، وفي تناول سينمائي متباين الأسلوب بين الشاعري المرح والقاسي الحزين. ولكونها قصيرة فإن اشتغالها السينمائي يعتمد بالأساس على تجسيد “حدوتتها” الموجزة بأشد وسائل التعبير البصرية قوة وإيجازا.

ذلك ما تتوفر عليه الأفلام كلها محققة توصيلا مبهرا لمضامينها بلغة مكثفة عالية التوتر كالتي ترد في الفيلم السوري “عزيزة”، فيما ينحو “أغنية أحمد” نحو شاعرية وعذوبة تتجاوز الجغرافيات والثقافات وتتوحد مع الإنساني في الجوهر. أما “نادي نفطة لكرة القدم” فينشد بالمرح الطفولي توصيل قيم وأفكار نبيلة تتعارض بقوة مع أخرى تريد التوغل بين ثنايا بيئات تونسية بسيطة مسالمة.

“أغنية أحمد”.. في حب الحياة والبشر

فيلم فؤاد منصور “أغنية أحمد” حصل على جائزة الجمهور في المهرجان الفرنسي الدولي “بريف”، وهو يستحقها لشاعريته الآسرة وحكايته الإنسانية العذبة، المتخلصة من تكرار ثيمة التصادم الثقافي بين المهاجرين العرب وأبناء البلد الحاضن لهم.

على العكس ثمة عدوى إيجابية تنتقل من المهاجر العربي إلى المحيطين به من بقية الأجناس والأقوام. شخصيته المسالمة وغنى تجربته جعلته متفهما لأحوال الغير متجنبا الحكم عليهم من الخارج. كل ذلك جاء بحكم عمله منظفا في حمام عمومي للمُعوزين، والذي يفرض عليه الاحتكاك بشخصيات تعاني من مشاكل اجتماعية وأزمات نفسية، ولهذا يغدو التعامل معها صعبا إذا ما أخطأ المرء في فهمها، أو لم يتفهم أن ظروفا فرضت عليهم العيش من دون مأوى، أو أنهم أضحوا عاجزين عن تأمين الحد الأدنى من شروط العيش في المدن الفرنسية الكبيرة.

يؤدي أحمد واجبه على أتم وجه، يذهب بعده إلى مسكنه المشترك مع آخرين غالبيتهم مهاجرين من شمال أفريقيا. علاقته طيبة بالجميع رغم عزلته ووحدته. الموسيقى الشرقية التي يواظب على سماعها في غرفته تشده إلى ماضيه وإلى أهله. صامت أغلب الوقت لا يبوح بجوّانيّاته. وفي الحمام العمومي يتحرك بحيوية ويخاطب الجميع وكأنه يعرفهم شخصيا.

التَغيُّر الحاصل في نمط سلوكه يأتي مع مجيء مراهق فرنسي اسمه مايك (الممثل بليل شجراني) أرسلته إحدى دوائر الشؤون الاجتماعية للعمل في الحمام. كان على أحمد (يقوم بدوره الممثل محمد سعيدي) تدريبه وتعليمه أصول العمل وكيفية التعامل مع الناس الذين لا تنقصهم المشاكل ولذلك ينصحه بالابتعاد عن إثارتها مع أي واحد منهم.

يعامل المهاجر العربي المراهق الفرنسي كما لو كان ابنه، لا يبخل عليه بنصيحة، يتبادل معه أطراف الحديث أثناء الاستراحات ويستمع إلى مشاكله مع والديه، هروبه من البيت يأتي في سياق التصادم الحاصل بين الآباء والأبناء في مراحل المراهقة. ينشد المراهق الانعتاق من سلطة الأهل فيما ينشد أحمد التواصل مع عائلته.

ثمة عدوى إيجابية في فيلم أغنية أحمد تنتقل من المهاجر العربي إلى المحيطين به من بقية الأجناس والأقوام

ثمة عدوى إيجابية في فيلم أغنية أحمد تنتقل من المهاجر العربي إلى المحيطين به من بقية الأجناس والأقوام

تلك الاشتياقات والرغبات تتسرب عبر الحوارات القصيرة والمنفعلة أحيانا. الخلافات بينهما على تفاصيل العمل والالتزام به ترفع أحيانا بعض الأسرار إلى السطح، ومعها تظهر بعض الأحكام المسبقة. يظهر ذلك في تنبيه أحمد للصبي الفرنسي من خطورة ميله إلى “غجرية” الجميلة التي قابلها يوم جاءت للاستحمام، نصيحة تكشف عن خوف مسبق من “مجموعة” حُكم عليها كلها بالسوء. لم تنبع من سوء طوية بل من متراكم لا واعي يظهر حال الاحتكاك بذلك “الغريب المجهول المحكوم عليه سلفا، وهو ما يتعارض مع قيم أحمد وسلوكه النابذ لأي تعامل غير إنساني مع المشردين والمحتاجين، أو حتى إشعارهم بحاجتهم.

ينتقل “أغنية أحمد” بين العمل والمسكن بسرعة ليلقي نظرة على أحوال المهاجرين العرب المسنين وعلاقتهم غير المحسومة بأوطانهم، يلتقط مشاعرهم المضطربة بعد بُعدٍ طال عقودا، حرصهم في الوقت نفسه على التواصل معها. غالبا ما يكون الموت المفاجئ لأحدهم دافعا لإحياء ماض حزين ورغبة في التشبث بما جبلوا عليه من عادات وتقاليد.

ذلك الإحساس يشعر به أحمد الذي قطع الاتصال بعائلته منذ مدة طويلة، لشعوره بأنهم يقصرون بحقه فيما هو ملتزم بتقديم المساعدة المالية لهم. يلتقط الصبي الفرنسي الحزن الكامن داخله فيدعوه للمبادرة بالاتصال بهم. ومع رفض أحمد للفكرة التي يعتبرها تنازلا فإنه يختزنها في عقله، وفي اللحظة المناسبة سوف يعمل على تحقيقها لتعود بعدها علاقته بعائلته بفضل نصيحة صبي فرنسي، فيما يسجل الفيلم القصير لحظة إعادة التوازن للمراهق ورغبته في العودة إلى أهله تحت تأثير أحمد عليه، لكنه قبلها كان عليه أن يذهب في رحلة مع صديقته الجديدة “غجرية”. كل تلك العلاقات الإنسانية يفيض بها فيلم “أغنية أحمد” فيغدو بحق أغنية تتغنى بحب الحياة والبشر، وتترفع كلماتها عن الفوارق والضغائن.

 “عزيزة”.. عندما تكون في مكان يرفضك

من جانب غير مباشر يقترح الفيلم السوري “عزيزة” عرض حال اللاجئ السوري في لبنان، متجنبا التشابك العنيف مع ما يفرزه وجوده في مكان يلفظه.

حكاية “عزيزة” -وهو اسم السيارة التي كان يدرّب الزوجُ السوري (الممثل عبد المنعم عمايري) زوجته (كاريس بشار) على قيادتها في شوارع بيروت- اختارت المخرجة السورية سؤدد كعدان المزج بين المتخيل والواقع أسلوبا لنقل حكاية الزوجين المهاجرين بسبب الأوضاع الدموية في بلدهما.

مَسرَحَة مشاهد فيلمها وتقطيع زمنها بين الواقعي والخيالي، تربك متابعها وتدعوه للسؤال عما إذا كان المعروض أمامه واقعا أم متخيلا، وهل قصة تعليم السياقة اتخذته مخرجته ذريعة لإعادة قصة السيارة الحقيقية (خارج الفيلم تخبرنا سؤدد عبر لقاء صحفي بأن السيارة فوكسفاغن) تعود لأختها التي اضطرت لبيعها حتى تؤمّن بثمنها رحلة هروبها من سوريا؛ لندرك عبرها جسامة الخسارات التي تعرض لها السوري خلال حرب أهلية فظيعة.

السيارة سُميت “عزيزة” لأنها عزيزة على قلب صاحبها، فحرصه عليها وخوفه من احتمال تعرضها لـ”إصابة” بسبب عدم تمكن زوجته من قيادتها مبالغ فيه. علاقة “الحب” تزداد تعقيدا وارتباكا بسبب خشيته من سوّاقي السيارات اللبنانيين المتذمرين من بطء وارتباك حركتها. هؤلاء وجودهم غير ظاهر لكنه كامن في دواخل الزوجين، يثير فيهما الرعب، فـ”عزيزة” تسير في شوارع ليست شوارعها وفي بلاد ليست بلادها. عندما كانت في سوريا كانت تتمختر مزهوة، أما هنا فالخوف من المارين بها يرعب أصحابها الغرباء.

في “عزيزة” هناك استثمار مدهش لحكاية واقعية، وُضعت في سياق زمني ومكاني جديدين. وفي مسار تعليم الزوجة تتكشف العلاقة المتوترة الكامنة بين المهاجر السوري والمكان الرافض لوجوده. لا تُجامل سؤدد ولا تتحامل، تلجأ إلى الجانب النفسي لعرض الجوانب الحياتية الأخرى، فالمتراكم من خوف ينعكس غالبا في تصرفات بسيطة.

في فيلم كعدان القصير الحائز على جائزة لجنة تحكيم الكبرى لأفضل فيلم قصير في مهرجان ساندانس السينمائي؛ يتجسد الخوف والشعور بالغربة من خلال محاولة امراة سورية تريد تعلم قيادة السيارة وسط شوارع مدينة غير مُرَحِّبة بها، الورقة المكتوبة بخط اليد والملصقة على واجهتها الزجاجية تدل عليها: “إطلعوا برا”.

“نادي نفطة”.. ملعب مخطط بالكوكايين

فكرة فيلم “نادي نفطة لكرة القدم” -الحاصل على الجائزة الكبرى لمهرجان كليرمون فيران السينمائي الدولي، وهو من بين أكبر وأهم المهرجانات المختصة بالفيلم القصير في العالم- مدهشة، كتبت بما يتوافق مع مواصفات النص المثالي للفيلم القصير.

ومن جانب الاشتغال السينمائي يمكن وضع ما أنجزه المخرج الفرنسي إيف بيات بين التحف البصرية، مع أنه يذهب إلى عوالم بعيدة عنه، ويحتاج نقلها إلى الشاشة فهما جيدا لطبيعتها الجغرافية والبشرية حتى تزيل أي وجود محتمل فيه لـ”استشراقية” متعالية. على عكس نصه المشحون بانحياز إلى طفولة تونسية تؤسس لمستقبل سوي، على رغم ما يطرحه من أسئلة إشكالية عن وصول ترددات الهزات الأخلاقية الحاصلة في المدن الكبيرة إلى الأطراف.

حبكة الفيلم بسيطة تدور حول الطفلين التونسيين الشقيقين محمد وعبد الله. خلال وجودهما في أطراف مدينتهما الصغيرة “نفطة” المجاورة للجزائر، يعثرون على أكياس مليئة بمادة (بودرة) بيضاء. يقرر الأخ الأكبر (الممثل ضاوي الطايف) أخذها وتحميلها على حماره.

وأثناء رحلة العودة إلى البيت يظهر التباين في النوايا، فالصغير (الممثل محمد علي عَياري) كان يلهو غير مهتم بالمادة البيضاء، يحب كرة القدم، يتجادل مع أخيه عن أي اللاعبين أهم بالنسبة إليه ميسي أم محرز؟ هو يحب اللاعب الجزائري أكثر ويفضله على الأرجنتيني.

على التلال يظهر رجلان مسلحان يتشاحنان بشأن الوجهة التي ذهبت إليها بضاعتهما من مادة “الكوكايين” المخدرة الممنوعة بعد أن ركنوها في زاوية من أطراف منطقة جرداء قاحلة. كانا على يقين بأن الصغيرين أخذاها، ولهذا أرادا إيقافهما بأي ثمن.

في البيت يخبئ الأخ الأكبر الأكياس بعيدا عن أنظار أخيه ويذهب لبيعها في مركز المدينة. العَيّنة التي قدمها للمشترين أغرتهم بالقدوم وأخذ البقية، مع تحذيرهم الشديد لبائعها من مغبة خداعهم.

في البيت لم يجد محمد ما خبأه، فيُضرب بسبب كذبه، ويَهرع للبحث عن أخيه. ستكون صدمته أعنف من ضياعها حين يرى بأم عينيه أن ملعب الكرة الترابي قد رُسمت حدوده بالمادة البيضاء. لقد عامل الأخ الأصغر الكوكايين كالكلس المستخدم في تخطيط الملاعب الرياضية، بدد قيمته لأنه ببساطة لا يعرف خبث الكبار ولا تجارة المخدرات.

تلك الحكاية القصيرة نُقلت على الشاشة باشتغال سينمائي باهر. التصوير أكثر من رائع، والتمثيل عفوي. كل المناخ الحدودي البعيد مُجسد سينمائيا بما يتوافق مع واقع يُحيل بدوره إلى أسئلة وحقائق خطيرة تجري هناك من بينها: انفتاح حدود البلدين على تجارة خطيرة لا يجد المهربون صعوبة في الانتقال بينها، وتشير ضمنا إلى معرفة الأخ الأكبر بوجودها وعدم شرعية الاتجار بها رغم صغر سنه، فيما يحمل انتشار تجارتها في طياته تهديدا لمستقبل الشباب هناك.

يقترح الفيلم السوري "عزيزة" عرض حال اللاجئ السوري في لبنان
يقترح الفيلم السوري “عزيزة” عرض حال اللاجئ السوري في لبنان

 

يهتم الفيلم على المستوى الحكائي بعرض التناقض الموجود بين عالم الطفولة وبين الفساد عبر التركيز الشديد على رغبة الأخ الأصغر في لعب الكرة على أرضية مناسبة، والبحث الجنوني لأصحاب الكوكايين عن بضاعتهم القاتلة.

وعلى مستوى تكثيف الفكرة فإن صدمة رسم خطوط الملعب هي العنوان الأبرز لها. عرف المخرج الفرنسي جيدا كيف ينقل الفكرة الموجزة المعبرة إلى الشاشة بكل اشتراطات العمل الاحترافي المتفهم لشروط صناعة الفيلم القصير.

أبطال الأفلام الثلاثة تجمعهم هويتهم العربية وإن اختلفوا في أماكن إقامتهم، فبينما تستوعب هذه الجغرافيات المتنوعة صراعاتهم وتناقضاتهم، تعكس بالضرورة وجودهم الحقيقي داخلها.

الفيلم القصير يتحمل نقلها سينمائيا بأقل التكاليف الإنتاجية، وحينما تصل مستوياتها إلى حد تحصل فيه على عدد من الجوائز العالمية المهمة فإن مسألة الانتباه إليها تغدو ضرورية وملحة في ظل صعوبات الإنتاج الروائي الطويل.

فصناعة السينما الحقيقية لا تميز بين الأنواع الفيلمية وتعاملها كلها بالتساوي، ولهذا فإن مثل هذه الأفلام الرائعة ينبغي أن تحفز المنتجين العرب للانتباه إلى القصير وحتى إلى الأجنبي المهموم بأحوال العرب من خلال توفير الفرص لعرضه عربيا.