“أصداء الصحراء”.. حين تغزو الموسيقى الحسّانية قلب أوروبا

المصطفى الصوفي

لصوت الرمال الذهبية في الصحراء المغربية هسيس يشبه هسيس القصب حين تراقصه نسائم الصباح، حيث تهبّ الريح خفيفة، فتتطاير حبيبات الرمل راقصة من هنا إلى هناك، في صورة طبيعية خلّابة تحكيها آلاف السنين، وتبرز عظمة الخالق في هذا الكوكب الشاسع الجميل.

بين هسيس الرمال في الصحراء المغربية، وهسيس القصب المتمايل في كل بقاعها رنين موسيقي أخّاذ، يفتح للرُحّل والمسافرين باب الحلم، ولأبناء الواحات الساحرة في زاكورة ومحاميد الغزلان وطانطان والساقية الحمراء والعيون والداخلة وغيرها من الضفاف الصحراوية المغربية الجميلة ذكريات لا تُنسى.

هذه الصور الطبيعية الفاتنة وحنين الذكريات ولغة الهسيس وروعة الواحات بظلالها وبرودتها وأصدائها وطيورها وعاداتها العريقة وأهلها الطيبين؛ تُمجّد نبل الهوية وحب الوطن، وتُمجّد التاريخ الممتد من طنجة العالية إلى لؤلؤ الكويرة ومرجانها.

أصداء الصحراء التي تتردد في كل الزوايا وعلى القصبات وفوق قمم الكثبان، هي خليط أسطوري لأصوات الريح وهسيس الرمل وحفيف النباتات التي تتحدى الطبيعة، ومزيج من المواويل الموغلة في القدم والبحور الصوفية والمقامات الصحراوية والأمداح النبوية الشريفة، وإيقاعات موسيقية تؤنس الرُحّل مع قطيعهم، في حلّهم وترحالهم، وفي سفرهم وأحلامهم التي تمتد بين الفجاج والعروق والسراب.

 

فرقة “شالبان” الموسيقية.. أهازيج من الصحراء إلى هنغاريا

تُحاكي أصداء الفجاج والفيافي والسراب إلى حد ما أطيافا من وثائقي المخرج رشيد القاسمي “أصداء الصحراء” الذي وقع الاحتفاء به نهاية فبراير/شباط الماضي ضمن بانوراما المهرجان الدولي التاسع للسينما (وادي نون) بمدينة كلميم في الأقاليم الجنوبية المغربية.

يحكي الوثائقي الذي كتبه القاسمي رفقة إبراهيم أغلان قصة فنان مغربي مهاجر بالديار الهنغارية، وينحدر في أصله من مدينة گلميم، وهو من عُشّاق الموسيقى الصحراوية الحسّانية التي ظلّت لصيقة بحياته مهما بعدت المسافات بينه وبين مسقط الرأس، فكانت بالنسبة له البلسم والمؤنس والباعث على الأمل والحرية والاندماج.

سعيد تشيتي هو محور قصة الفيلم، وهو خريج المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط، فبعد تخرجه في تسعينيات القرن الماضي، سافر إلى فرنسا لاستكمال دراسته وتكوينه، ثم ارتحل منها إلى العاصمة الهنغارية بودابست، ليستقر فيها بعد أن أسّس فرقة موسيقية تحت اسم “شالبان”، وتُعنى بالموسيقى الصحراوية الحسانية، وتضم أمهر الفنانين الهنغاريين المحترفين.

خصوصية هذه التجربة السينمائية تتوخى في العمق صيانة الذاكرة الفنية الجماعية الصحراوية في أرض المهجر ومحاولة إيصالها إلى الآخر، وفي ذلك الكثير من الإشارات العميقة لتكريس البُعد الفني في عملية الاندماج بالمجتمع الأوروبي، فضلا عن التعريف بثراء وتنوع الموروث الثقافي والفني في الصحراء المغربية.

يمكن اعتبار هذا الفيلم نوعا من السفر السينمائي في الزمان والمكان، وتكريم الموسيقى الصحراوية والحسّانية بأهازيجها الرائعة، من خلال نقل صورها المُبهرة في عدد من المدن الصحراوية أبرزها گلميم والعيون والداخلة، وكذلك محاميد الغزلان التي تشتهر بتنظيمها كل عام لمهرجان دولي للرُحّل.

الفنان سعيد تشيني العاشق للموسيقى الصحراوية الحسانية، والذي كان بمثابة سفير لها في مكان إقامته في أوروبا

 

سعيد تشيتي.. سفير الموسيقى الحسانية في المحافل

استفادت أصداء الصحراء من التنوع الموسيقى الآسر بين الإيقاعات المحلية التي تجتذب جمهورا عريضا من أهالي الصحراء في المنطقة ومن خارج البلاد، وبين الإيقاعات الغربية العصرية، مما خلق نوعا من الانسجام بين الفِرَق والإيقاعات في كثير من سهرات هذا المهرجان واللقاءات الموسيقية الأخرى.

“أصداء الصحراء” من حيث مضمونه المفعم بفيض من الطقوس والحكايات والعادات والتقاليد في الأصوات والأغاني ورنات الگمبري (آلة موسيقية) والطبول الأفريقية الصحراوية الجميلة، يُسائل الثقافة الموسيقية الحسّانية في الصحراء، ويُسّلط الضوء على تاريخ عريق من فن أصيل لا يزال يُشكّل علامة بارزة في الثقافة الشعبية المغربية.

الفنان سعيد تشيتي هو عاشق للموسيقى الصحراوية والحسانية والگناوية (نسبة إلى فن گناوة)، وهو فن موسيقي عريق له جذور أفريقية، وقد شكل محور فيلم “أصداء الصحراء”، فكان بمثابة السفير الموسيقى الذي وصل بهذا الفن إلى العالمية.

حفاظ الفنان تشيتي على الموروث الموسيقي الصحراوي في بلاد المهجر، وتأسيسه لفرقة موسيقية هناك، ودمجه الموسيقى الصحراوية والحسّانية مع الموسيقى الغربية العصرية؛ يفي برغبة وإصرار قويين في تكريس قيم التواصل بين الفنون الموسيقية، لخلق الفرجة للناس وتمجيد روح المحبة والسلام والتعايش بين الثقافات والفنون ومختلف أشكال الموسيقى العالمية.

الفنان سعيد تشيتي رفقة فرقته الموسيقية الهنغارية أثناء تقديمه لبعض العروض في المغرب

 

اندماج مغاربة المهجر مع الفنون العالمية.. وثيقة الفيلم الحية

أكد الفنان سعيد تشيتي في أحد المشاهد أنه إذا لم يحافظ على هذا الفن التراثي وهو في أرض المهجر منذ نحو عشرين سنة لتقديمه إلى الجمهور، فليس له أي أمل في الاستمرار، وبالتالي فإنه سيعود إلى بيئته الصحراوية الحسّانية التي تعلم فيها سماع الموسيقى.

بهذا التضمين الفني، يكون سعيد قد وثّق بشكل جيّد لموسيقى تراثية محلية، وجعلها تنفتح بشكل كبير على أنواع أخرى من الموسيقى العالمية، من خلال تطويرها وتلقيحها وتقريبها إلى الجمهور في قالب إبداعي مُتجانس يحترم خصوصيات الهوية والتاريخ واللغة والأعراف والعقيدة.

ويمكن اعتبار فيلم “أصداء الصحراء” وثيقة حيّة على نجاح مغاربة العالم في الاندماج وصيانة موروثهم الفني وغير المادي وتقريبه إلى الجمهور، وفي ذلك صورة حيّة يتفاعل معها الجمهور بشكل كبير.

مدينة كلميم المغربية التي كانت بمثابة الأم لسعيد تشيتي، حيث احتضنته ووهبته سحر الموسيقى

 

ابن مدينة گلميم.. شوق موسيقي إلى مسقط الرأس

يبدو سعيد في الفيلم شخصية فنية قوية، ويتحكم في أعضاء الفرقة بطريقة بارعة، وهو ما يبرز القيمة الاعتبارية لهذا الفنان الصحراوي ابن مدينة گلميم التي يكرمها في موسيقاه بكثير من الوطنية والفخر والاعتزاز واحترام التقاليد والعادات.

يعتبر سعيد أن مدينة گلميم هي التي منحته الطفولة الجميلة والذكريات الرائعة والموسيقى التي تنفسها في أرض المهجر، فهي أمه التي تحتضنه مهما بعدت المسافات، وفي ذلك تعبير صريح عن قمّة الشوق لمسقط الرأس، وحبه غير المحدود للأصل والجذور وللعادات والطقوس ولقاء الأهل وشرب الشاي وحليب النوق في أواني يعود تاريخها إلى مئات السنين.

جلسة صحراوية في الأقاليم الجنوبية المغربية ترافقها طقوس إعداد الشاي والاستماع للموسيقى الحسّانية

 

جمالية المونتاج.. شاعرية الموضوع تخامر أفئدة الجمهور

تبدو عملية جمع لقطات الفيلم ومشاهده وتركيبها لتحقيق أفق آمال الجمهور صعبة ومعقدة للغاية، وربما عانى المخرج القاسمي في هذا الجانب لإيجاد زبدة الانسجام والتوازن بين موضوع الفيلم، وطريقه إيصاله إلى الجمهور بطريقة مُحببة لا ملل فيها ولا نفور.

تجلّيات الموسيقى الصحراوية والحسّانية في الأقاليم الجنوبية للمغرب وعمقها، سواء من خلال حفلات الموسيقى أو الطقوس التي ترافقها من رقص وإعداد الشاي على الطريقة الصحراوية، والكثير من المظاهر الأخرى كركوب الجمال واختيار اللباس الصحراوي في مناسبات الأعراس وغيرها.. كل ذلك ساهم بشكل كبير في منح الفيلم شاعرية موحية شكلا ومضمونا.

لم يكن إيقاع الفيلم بطيئا بل كان متجانسا إلى حد ما، رغم انتقال الكاميرا من مكان إلى مكان في أزمنة متباعدة، كما شكّلت عملية المونتاج مفصلا حقيقيا لجمالية هذا الفيلم الوثائقي الذي اعتبره متتبعون نقلة نوعية في التعامل مع فن صحراوي مسافر من الجنوب إلى الشمال، باحثا لنفسه عن أفق شاسع للعالمية كما يريد سعيد تشيتي.

في هذا الإطار يُطرح كثير من الأسئلة الجوهرية، من باب إنصاف هذا الموروث الفني والشعبي العريق في الصحراء المغربية، إذ لا يزال يُعد أحد الاشكال الإبداعية والفنية التي تضع أوشام زينة الفنون على الحركة الفنية في الأقاليم الجنوبية للمملكة.

سعيد تشيتي مع فرقته الموسيقية الهنغارية اثناء تقديمه لبعض العروض في المغرب.

 

أفريقية اللغة والهوية والطقوس.. ثراء مغربي

هل استطاع الفيلم أن يقنع المتلقي وأهل الفن عموما في جعل الموسيقى الحسّانية والصحراوية العريقة تتخلى عن بعض طقوسها وأنظمتها، لتكون جنبا إلى جنب مع الموسيقى الغربية؟

وهل شكل “أصداء الصحراء” بما حمله من إيقاعات ورقصات وإيماءات وزينة أزياء ومواويل في هنغاريا فرجة لذيذة تردد صيتها في كثير من الفضاءات كشكل من أشكال الانفتاح والتلاحم الموسيقي بين الجنوب والشمال؟ وهو ما تحقق بالفعل من خلال تواصل التشجيع والتصفيق بعد انتهاء الفرقة من أحد عروضها.

فيلم رشيد القاسمي يُعدّ وثيقة مهمة في تتبع منبع تلك الموسيقى الصحراوية المفعمة بثراء مغربي أفريقي في اللغة والهوية والطقوس، ويحمل مشعلها شباب طموح لا يتخلى عن أصوله، مهما كانت إغراءات مظاهر الحضارة والتمدن.

الفرقة الحسّانية خلال إحدى عروضها في هنغاريا، حيث تُساهم في نشر الثراء المغربي الأفريقي بلغته وهويته وطقوسه في أوروبا

 

منابع الموسيقى الأصيلة.. رحلة في ثنايا طبيعة الصحراء المغربية

إن الفيلم في جانب آخر هو معالجة خلّاقة لمواضيع أخرى رافقت الموضوع الرئيسي، وهمت بالخصوص حميمية المكان ومسقط الرأس وطقوس زيارة المقابر، وجمالية البيئة الصحراوية بفضاءاتها وأمكنتها، وبناياتها الجميلة ذات اللون الترابي المائل إلى لون الرمال، والأفق الصحراوي الشاسع.

كما لامس أيضا ما تبوح به الطبيعة في الصحراء المغربية من سحر أخّاذ، وتجلّى ذلك من خلال الصور التي تضمنها الفيلم، خلال انتقال سعيد وكالوس ودايفيد إلى الجنوب لاكتشاف عالم الموسيقى الحسّانية، والبحث عن منابعها الأصيلة في مدينة كلميم.

للطريق شاعرية الصورة، وللمدى الصحراوي أحلام لا يفهمها إلا الرُحّل الذين جعلوا من الشعر زادا، ومن النايات أنيسا، ومن الآلات الوترية والطبول الأفريقية الأسطورية إيقاعات ملحمية تُعانق هسيس الرمال ونخوة الواحات وسحر القصور وبهاء القصبات.

وبهذا يكون الفيلم بطاقة بريدية قلّ نظيرها في السحر والجمال الصحراوي الوديع، خاصة أنه نقل إلى الجمهور فيضا من الصور والمشاهد الباهرة والمتنوعة من سهول وجبال وشواطئ وصحاري ورمال.

 

سينما الأقاليم الجنوبية.. نافذة لنقل ثقافة أهل الصحراء إلى العالم

لعل الفيلم الذي تطرق أيضا إلى عادات أهل الصحراء وطقوسهم في إكرام الضيف، وإعداد كؤوس الشاي، واكتشاف عالم الصحراء برمالها وشواطئها وأهلها؛ يمكن أن يفتح نافذة جديدة للمخرج رشيد القاسمي وباقي المخرجين المهتمين بالسينما الوثائقية، لاكتشاف عوالم أخرى في الأقاليم الجنوبية للمغرب، التي ترتبط بكل ما هو عمراني وسياحي وتنموي وثقافي وتراثي وإنساني ومجتمعي.

يُشار إلى أن الفيلم شارك وتُوّج في عدة مهرجانات وطنية ودولية بإسبانيا وتركيا والسويد وغيرها، ليكون أحد الأعمال السينمائية الوثائقية التي ناقشت موضوعا مهما يُكرّس في عمقه الفني والجمالي الحوار بين الثقافات والحضارات، ويجعل الموسيقى التراثية سبيلا لإنجاح الدبلوماسية الثقافية بين الشعوب.

كما أن هذه التجربة السينمائية سبقتها تجارب أخرى مع قناة الجزيرة الوثائقية، وأيضا إنجاز أفلام أخرى، أبرزها:

– أحلام الغرفة المظلمة.

– المايسترو الصغير.

– أمهات عازبات.

– أذان في مالطا.

– خيول الحظ.

– العدو الخفي.

– غوري جزيرة العبيد.

– سنغور الرئيس الشاعر.

ويسعى القاسمي (الذي يعد أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة بني ملال حول موضوع “الأدب والسينما الوثائقية”) لإطلاق تجربة سينمائية وثائقية جديدة، من خلال فيلمين، الأول حول التربية التقليدية في المجتمع الصحراوي، والثاني حول نمط عيش وحياة أعضاء فرقة مسرحية.

الفنان سعيد تشيتي صحبة إحدى العوائل الصحراوية المعروفة بتمسكها بالهوية المغربية في الصحراء

 

لقاء الثقافات.. جسر بين الجنوب الصحراوي والشمال الأوروبي

لا نبالغ حين نقول إن من الممكن اعتبار فيلم “أصداء الصحراء” مرآة حيّة لتكريم قيم الإنسان في سفره وهجرته، وصورة بهيّة لإشعاع الهوية المغربية في الصحراء بحمولتها الثقافية والصوفية وعلاقاتها المجتمعية، وإبراز الخصوصيات الوطنية في المكان والزمان، وطرائق الفرح والاحتفال، من خلال تراث موسيقي أصيل تمتد جذوره في تخوم القارة الأفريقية.

وبهذا شكل “أصداء الصحراء” جسرا قويا بين ثقافتين وعالمين أحدهما صحراوي جنوبي والآخر أوروبي شمالي، فكانت الموسيقى الحسّانية بأمداحها النبوية الشريفة، وتغنيها بالأرض والوطن والعادات والعلاقات الإنسانية والوجدانية؛ رسالة تسامح وتعايش إلى العالم، ولغة موحية لها فيض عاطفي ومشاعر جيّاشة وسلام وعناق.

“أصداء الصحراء” باختصار هو أصداء شاعرية وجمالية ترددت في كل أنحاء هنغاريا، وفي كل زاوية من زوايا من مدينة گلميم وضواحيها الآسرة، لتشكل موالا أسطوريا عالج الواقع وقيم الحلم والمجتمع معالجة خلاقة، وقدّم للمتلقي ثقافة عالمة وفرجة سينمائية راقية بكل معاني السحر والإبداع.