“أموسو”.. غناء وشعر أمازيغي لأجل الأرض والماء

يعتبر فيلم “أموسو” لمخرجه نادر بوحموش حكاية أخرى من حكايات التعامل مع القضايا الاجتماعية، ومحاولة توثيقها ضمن عمل سينمائي وثائقي يقدم للمتلقي بطريقة بسيطة عالما من الأحلام والتمنيات التي يطمح لتحقيقها الإنسان.

حصل هذا الفيلم على تنويه خاص في ختام النسخة الثانية لمهرجان قابس “سينما فن” بتونس يوم السبت 11 أبريل/نيسان من هذا العام، حيث نظمت الدورة بطريقة رقمية عن بعد بسبب فيروس كورونا المستجد، كما شارك في مارس/آذار هذا العام في المسابقة الرسمية الخاصة بالفيلم الوثائقي بالمهرجان الوطني الـ21 للفيلم بمدينة طنجة المغربية.

ومنح للفيلم هذا التنويه الخاص خلال هذه الدورة التي عقدت تحت شعار “شوف أونلاين” رفقة الفيلمين الوثائقيين “الحديث عن الأشجار” للسوداني صهيب قاسم الباري، والجزائري “143 شارع الصحراء” لإحسان فرحاني.

يتعامل بوحموش في هذا الفيلم مع اللحظة السينمائية بشكل مباشر، وذلك من خلال نقل نبض المجتمع لمواطنين يناضلون بطريقة سلمية لتحقيق مطالب تخصهم وتخص أبناءهم ومستقبلهم، حفاظا على التاريخ والأرض وسنابل القمح واللوز الذي ينور كل ربيع.

جبل ألبان.. اعتصام للدفاع عن المورد المائي

يعتمد هذا الفيلم الوثائقي (99 دقيقة) طريقة مغايرة في توثيق العالم والموجودات، وذلك من خلال التعامل مع الزمان والمكان ضمن محطات ولحظات متفرقة ومختلفة، لكنها تلتقي حول قضية واحدة وهي النضال بالكلمة واللحن والشعر والمواويل التي توارثتها النساء أما عن أم.

كتب هذا الفيلم المخرج نفسه بالتعاون مع ساكنة إميضر، وهي منطقة محاذية لمدينة تنغير الواقعة في الجنوب الشرقي من البلاد، كما صوره رفقة ياسر شرق مع مونتاج ماريا موكباط وصوت جلال الكرمعي وغيثة الزويتن، بينما الموسيقى كانت لساكنة المنطقة.

قرية إميضر الواقعة في الجنوب الشرقي من المغرب، والتي شهدت أطول اعتصام في تاريخ المغرب

يحكي الفيلم مشاهد من بعض أهالي المنطقة يجتمعون كل أسبوع في اعتصام سلمي مفتوح على جبل ألبان لترديد بعض الشعارات السلمية، وإنشاد الشعر الأمازيغي المحلي المليء بالمعاني ولفت الانتباه إلى قضيتهم التي يتمنون أن تأخذ طريقها للحل.

تنجلي قضية هؤلاء الأهالي في الدفاع عن حقهم في موردهم المائي الذي تستفيد منها أيضا إحدى الوحدات الصناعية والمطالبة بحمايته، ومن خلالها حماية المجال البيئي والطبيعي في المنطقة.

حضور الشعر الأمازيغي.. تجسيد الهوية

من المفارقات التي تستأثر بالاهتمام الحضور القوي للغة والشعر الأمازيغي في الفيلم، وهو أحد أشكال التعبير اللغوي والوجداني للسكان لتأكيد جانب من هوية أهالي المنطقة التي تزخر بالكثير من المقومات الجمالية والتراثية المرتبطة بالتاريخ والعادات والطقوس.

تبدو مسألة الإنتاج في هذا الفيلم التي امتدت أربع سنوات منذ 2016 وحتى السنة الماضية مهمة من الناحية الفنية، حيث استغرق المخرج وفريقه الفني وقتا طويلا في التعامل مع أحلام وآمال المعتصمين بطريقة سلمية بحثا عن حلول جذرية لصوتهم المبحوح.

يبدو مسار الاعتصام السلمي المفتوح طويلا، حيث استطاع الفريق الفني بإمكانياته الفنية البسيطة والمتواضعة نقل مطالب سكان بلدة نائية وطموحاتها عبر الصوت والصورة، ولغة أمازيغية شجية فيها الكثير من الغناء والأشعار والأحلام، كمثل أزهار اللوز التي تفصح عن أفق متورد قريبا لا محالة.

استطاع المخرج بطريقة فنية ذكية أن يجمع في هذا العمل بين عناصر فنية وإبداعية متقاربة، وتحدد من خلال العنصر السينمائي الذي تمثله الكاميرا في نقل لما يجري في المكان وكذلك العنصر الشعري والموسيقي واللغوي من خلال اللغة الأمازيغية والمواويل والحكايات.

بهذا يقدم المخرج بوحموش صورة أخرى ومغايرة لمعالجة فريدة للواقع ومعيش الناس البسطاء بطريقة جماعية عبر مواقيت وأزمنة مختفلة مقارنة مع تجارب سينمائية مغربية وثائقية، تعاملت هي الأخرى مع قضايا الإنسان والمجتمع الواقع خاصة في القرى والأرياف.

ويطمح الأهالي في تحقيق كثير من الأحلام، ومنها تحسين أوضاعهم المعيشية، وتشغيل الشباب، والحفاظ على الموارد الطبيعية والمائية، وهو جزء من صيانة الذاكرة الثقافية والجماعية للمنطقة.

فريق الإنتاج في الميدان.. مساهمة السينما في رفع الظلم

يطرح هنا سؤال هل بإمكان السينما الوثائقية من خلال رصدها لمثل هذه الصور والمشاهد والقضايا الإنسانية أن تكون مساهما في رفع الحيف عن المستضعفين، وعنصرا من عناصر إيجاد الحلول بصيغة أخرى، وهل يمكن للكاميرا أن تتحول إلى عنصر نضال، أم أن العملية الإخراجية برمتها من خلال هذا الفيلم لن تعدو عملية تقنية وميكانيكية بعيدة عن نبض المجتمع وعواطف الآخرين ومشاعرهم؟

وهل استطاع المخرج ومعه فريق العمل الذي رافق حناجر المعتصمين طيلة سنوات الإخراج والإنتاج نقل الحقائق واختيار أدقها تأثيرا بصوت شعري حزين، إلى أن يتحول إلى جزء من هذا النضال، ويتحول إلى شاعر غنائي، ويتعلم اللغة الأمازيغية أيضا؟

كما أن وجود كاميرا في مكان الاعتصام كلما اجتمع المواطنون يدفعنا إلى التساؤل هل باستطاعة ذلك أن يحفز البعض وخاصة الشباب الشغوف بالآلات الإلكترونية ومنها الهواتف النقالة إلى التفكير في ولوج العالم السمعي البصري والسينما، وأن يتحولوا إلى مخرجين ويدخلوا غمار السينما كبديل عن البطالة وقلة فرص العمل في العالم القروي؟

إن نسق الصورة والشعر في الفيلم وما يجمع بينهما في فلك اللغة الأمازيغية بتاريخها وعراقتها وعوالمها، يتحدد من خلال وشائج جمالية وحسية، وهو ما أعطى للفيلم حسا إبداعيا ممتعا تجلى عبر كثير من المشاهد الدالة والمفعمة بقيم ومبادئ الإنسان، وسحر الطبيعة والحفاظ على الأرض والتراب.

نقل أجواء المكان.. توثيق لأرض تحمل إرثا فنيا

تميز الفيلم ببنية فنية وتقنية قوية اعتمدت على نقل أجواء المكان في مراحل زمنية مختلفة بطريقة لا تخلو من نقاء في الصورة، وبهذا يكون جزءا من التوثيق الفني المحلي الرزين للمنطقة المشهود لها بتاريخها ومقاومتها وتراثها المادي والمعنوي الزاخر.

المخرج المغربي نادر بوحموش مُخرج فيلم “أموسو” خلال تصوير إحدى مشاهد الفيلم

ولعل تاريخ المنطقة المشهود لها بإرثها الفني العريق واهتمامها بمختلف أشكال الفنون والإبداع، وخاصة منها الشعر التقليدي والبدوي، هو ما جعل المخرج يركز على هذا المعطى من خلال المنطوق في المعتصم والحكايات الشفهية، وذلك لإصباغ مزيد من الحماسة الفنية في الفيلم.

بهذا يكون فيلم “أموسو” قد زاوج بين الجانب الفني والسينمائي والشعري، من خلال استغلال الشعر الأمازيغي استغلالا ذكيا في نقل مطالب المواطنين، دفاعا عن الأرض والماء عبر لغة سينمائية تتأسس على التركيز على الصوت والصورة في بعدها الجمالي المؤثر، وتنقل جانبا من خصوبة الثقافة الشعبية المغربية والأفريقية.

قوانين التعايش.. أعراف تتوارثها الأجيال

نقل المخرج بطريقة فنية قوية المعيش اليومي للمعتصمين بطريقة سلمية، فضلا عن التضحيات والمكتسبات، كما أبرز كثيرا من المعطيات حول نمط عيش سكان القبائل هناك وتدبير شؤونهم بطريقة ودية للغاية.

وقد برزت تلك المعطيات الإنسانية المتجذرة في تاريخ المنطقة من خلال العلاقات التي تربط سكان المنطقة، ومنها باقي سكان القبائل المجاورة، فضلا عن طرق تدبيرهم لشؤون الأرض والماء والأهالي، وهي شؤون عرفية توارثتها الأجيال.

سيدات قرية “إميضر” المغربية التي شهدت أطول إضراب في التاريخ المغربي

وفي هذا السياق نستحضر فيلم “أمغار” لمخرجه بوشعيب المسعودي الذي يتقاسم مع “أموسو” القيم العرفية، حيث يعالج “أمغار” فيضا من عادات وتقاليد سكان قبيلة “ايت ويرة” بإقليم بني ملال في تدبير الكثير من شؤونهم بالرجوع إلى أمغار الرجل القوي في القبيلة كمرجع عرفي في مجالات السقي والرعي وخصومات الناس وغيرها.

بياض الثلج وزهو السنابل.. وثيقة أرشيفية

استمد الفيلم جماليته من لغته السينمائية، حيث ارتكز على الثقافة الشعبية والأمازيغية والتراث الشفهي لأهل القبيلة، كما نقلت صوت الوعي الجماعي والمهمش في المناطق النائية بحثا عن مساحات شاسعة للكرامة والعدالة والحب والأمل.

ولعل ميزة هذا العمل تتحدد في كونه عملا جماعيا اشترك فيه طاقم فني تكون من شباب طموح ومحب للسينما لإنجاز هذا المكتسب الإبداعي، ويعد وثيقة أرشيفية مهمة لتاريخ المنطقة في دفاعها عن بياض الثلج كل شتاء، وزهو سنابل قمح تتمايل كل صيف، ورقة أزهار تتفتح في كف الجدات والصبايا كل ربيع.