“الترحال”.. رحلة الكاميرا في أحزان اللاجئين بمخيمات الروهينغا

قيس قاسم

يعترف المُخرجان الكنديان “أوليفييه إينغز” و”ميلاني كاريه” بالدور الكبير الذي لعبه المصور الفوتوغرافي الكندي “رينو فيليب”، والشاعر والمترجم الروهينغي الشاب “كالا ميا” المُلقب بـ”كلام”؛ في إنجاح فيلمهما “الترحال.. قصة روهينغا” (Wandering, a Rohingya Story).

فلولا مساهماته لما كُتِب للوثائقي الظهور بالشكل الذي ظهر عليه، ولما تَمكنّا من الوصول إلى مخيم “كوتوبالونغ” للاجئين، والتحرك بحريّة وسط أكثر من 600 ألف لاجئ من الأقلية المسلمة (الروهينغا) اضطروا للهرب من بطش وقمع الجيش الميانماري.

فكرة إنجاز فيلم عن سكان المخيم ونقل شهادات عدد منهم ليعرف العالم ما جرى لهم في “ميانمار”، وكيف يعيشون في منفاهم الاجباري؛ بدأت -كما يقول المخرجان- عندما سمعا عام 2018 بنيَّة المصور الفوتوغرافي “رينو فيليب” السفر إلى جنوب شرق بنغلاديش لتصوير تفاصيل عيش اللاجئين في المخيم.

بعد عودة “فيليب” ورؤية صوره المعروضة في معرض خاص والانبهار بجمالياتها وبصدق نقلها لأحوال سكان المخيم؛ قرر المخرجان المضي في تكملة عمله من خلال إنجاز وثائقي يقوم هو بتصويره سينمائيا، ويشارك فيه الشاعر والمترجم “كلام” لكونه من سكان المخيم ويعرف ظروفه جيدا، ولتسطيره الكثير من القصائد والأشعار التي تعكس أحاسيسه ومشاعره كروهينغي أولا، وكلاجئ ثانيا.

 

“كل ما أريده هو الحُرية”.. بوح اللاجئين

يدشن الوثائقي مُفتتحه بمقطع من قصيدة لـ”كلام” يقول فيها “كل ما أريده هو الحُرية، وأن تستمع لما يقوله شعبي”، ويكمله بمَشاهِد عامة لمخيم لاجئين، وقد غدا بعد أشهر قليلة من وصول فريق العمل إليه واحدا من أشد المخيمات ازدحاما بالسكان في العالم.

تنقل الكاميرا حال المخيم في موسم تساقط الأمطار، وما يثيره الغيث في نفوس قاطنيه من حزن وأسى، ويُعيد تذكيرهم ببيوت وأمكنة كانت تؤويهم يوما، وكانوا يعيشون فيها بسلام.

يجمع الوثائقي طيلة زمنه بين المشهد العام لمخيم كوتوبالونغ، وبين عيّنات بشرية منه يمنحها حُرية البوح والكشف عن تجارب مريرة عاشتها، فمَشاهدها المروعة ما زالت حاضرة بقوة في أذهانهم.

كما يعتمد الوثائقي على الصورة المنقولة ببهاء للمكان، وعلى شهادات وبوح يكمل بهما معا حكاية ما جرى ويجري لشعب الروهينغا.

مشهد عام لمخيم كوتوبالونغ الذي يضم أكثر من 600 ألف لاجئ روهينغي هرب من الجيش الميانماري

 

أسواق وأكواخ ومدارس.. مشاهد من يوميات المخيم

تحكي سيدة روهينغية عن عيشها في القرية التي أحبتها، وتتذكر تفاصيل بيتها وحقول الأرز التي كانوا يعملون فيها، فطعم الفاكهة اللذيذة ما زال في فمها، وصورة أشجار المانغو لا تغيب عن ذاكرتها، كما كان والدها يزرع الحقول، ويصطاد الأسماك من النهر، لكنه الآن لم يعد بينهم، فقد قتله الجيش عندما دخل القرية وأباد كل سكانها.

ينقل الوثائقي مشاهد مصورة (فيديو) لمحاولات هروب مسلمي الروهينغا من الموت بالعبور إلى الجهة الثانية من نهر ناب الفاصل بين بلدهم وبين بنغلاديش، وقد كبر واتسع مكان تجمعهم الجديد بسرعة، واستجابة لقوانين الحياة كيّفوا أنفسهم للعيش فيه.

تنقل كاميرا الوثائقي مشاهد من الحياة داخل المخيم، حيث تظهر أسواق صغيرة وجماعات تتشارك في بناء أكواخ من قصب البامبو، ومدارس بسيطة يتعلم فيها الأطفال، وخارجها يقضون أوقاتهم باللعب واللهو مثلهم مثل أشباههم في كل مكان.

تفاصيل العيش اليومي لأطفال الروهينغا في المخيم وهم يراقبون مياه النهر من فوق جسر خشبي بناه الكبار بمهارة لافتة

 

أشباح الكوابيس الخانقة.. ذكريات تطارد أطفال المخيم

يعطي الوثائقي الكندي مساحة أكبر للأطفال، فيغوص في عوالمهم الداخلية من خلال عدد منهم، ويوثق براءتهم وحبهم للحياة عبر تسجيل تفاصيل عيشهم اليومي، حيث اللعب في الشوارع وسط الأوحال، واللهو بتسيير الطائرات الورقية، والتجوّل بين البيوت، أو مراقبة مياه النهر من فوق جسر خشبي بناه الكبار بمهارة لافتة.

هذا الجانب السوي من حياتهم تقابله جوانب نفسية وجسدية موجعة تُعتم روح المشهد الجميل، إذ يوثق الفيلم مشاعر طفل من عائلة مسلمة أصيب أثناء الهروب مع أهله بطلق ناري عطّل أجزاء من جسمه، فالكوابيس الليليّة تحرمه من نعمة النوم، فهو يحلم بأشباح تريد خنقه، ويتجنب سرد كوابيسه لأحد مكتفيا بحبسها داخل صدره.

تسرد والدة هذا الطفل وقائع هروبهم أثناء اجتياح قوات الجيش لقُراهم، وكيف حَمَلت ولدها المصاب على كتفها طيلة 12 يوما وسط طرق خطيرة، ومنعرجات جغرافية قاسية متباينة التضاريس.

طفل روهينغي يرسم تفاصيل مجزرة تعرّض لها أهله وسكان قريته المسلمة على يد الجيش الميانماري

 

“للأسف الورقة صغيرة”.. رسم الصغار لمآسي الحرب

في مدرسة بسيطة التأثيث يُقبِل الأطفال على دروس الرسم، ففيها يجدون فسحة للتعبير عن دواخلهم، ويسردون تجاربهم وأحلامهم على الورق.

يصور أحد الصبية تفاصيل مجزرة تعرّض لها أهله وسكان قريته المسلمة على يد الجيش، ويرسم طائرات هليكوبتر تطلق النار على السكان من الجو، وجنودا يقومون بإحراق البيوت، وعشرات الأشخاص مرميين على الأرض بعد اختراق الرصاص لأجسادهم.

يقول الطفل جملة شديدة الدلالة عند شرحه معاني رسوماته: للأسف الورقة صغيرة، ومساحتها لا تكفي لاستيعاب كل التفاصيل التي أريد رسمها.

مع كل صعوبات العيش يلتزم الطلاب بحضور الحصص الدراسية ويحرصون على الاستفادة منها. يقول الصبي الجريح: أردت عندما كنت في ميانمار أن أصبح طبيبا، أما هنا فكل حلمي أن أحصل على عمل وأصبح إنسانا مفيدا.

نساء مسلمات لاجئات يقفن في طابور طويل في انتظار حصولهن على مساعدات المنظمات الإنسانية الدولية

 

أنين المنفى.. أوجاع الشوق والحنين إلى الوطن

في المساءات وفي هدأة الليل يزداد الحنين إلى الوطن، هذا الشعور ينتاب الجميع صغارا وكبارا، ويستغله الوثائقي لنقل إحساس المَنفي بعد ضياع وطنه وبيته وأهله.

تقول إحدى النساء إنها عند مغيب الشمس في كل يوم تتذكر بيتها الذي عاشت فيه، فقد كانت أوضاع عائلتها جيدة في بورما، وكان عندهم متجر وبيت كبير، أما هنا فليس لديهم شيء سوى مكان طارئ موحل موحش ليلا، ولا تعرف إلى متى تستطيع البقاء فيه.

يزور الوثائقي بعض الأكواخ، وينقل تفاصيل عيش الهاربين من البطش داخلها، يبدو مأكلهم بسيطا، خاماته يحصلون عليها من المساعدات التي تقدمها إليهم المنظمات الإنسانية الدولية.

صورة تجمع المُخرجان الكنديان “أوليفييه إينغز” و”ميلاني كاريه” صانعا فيلم “الترحال”

 

تواؤم الشعر والموسيقى الحزينة.. مرآة الهواجس

تتداخل الموسيقى الحزينة التي وضعها الموسيقار “مارتين دوميس” مع أشعار “كلام”، حيث يتماهيان ويمنحان سوية الفيلم مناخا جماليا نادرا.

كل لقطة تبدو وكأنها مأخوذة للوحة عالمية، وكل تلميح يُحيل إلى ممارسة أو ظاهرة يلتقطها صانعا الوثائقي بعناية، مثل خوف العوائل على أطفالها من الخروج ليلا، أو حتى الابتعاد قليلا من حدود المخيم، خشية من خطفهم أو استغلالهم من قبل عصابات الاتجار بالبشر.

كل أسبوع يختفي عدد من أطفال المخيم ثم لا يعودون إليه أبدا، أما ساكنوه فلا تسمح السلطات لهم بالخروج منه، مثلما يُمنع عليهم السفر إلى مناطق أخرى. الكبار يشعرون بأنهم هنا من غير وطن ومن دون هوية، فهم لا يملكون جوازات سفر ولا تصاريح عمل، وهم محاصرون في حدود تلك الجغرافية، ولا خيار لديهم آخر سوى البقاء داخل أسوار المخيم المُهدّد بالغرق عند هبوب العواصف وهطول الأمطار بغزارة.

رسمة توضيحية لمخيم لجوء الأقلية المسلمة الذي يُظهر بعض الأكواخ وينقل تفاصيل عيش الهاربين من بطش الجيش الميانماري

 

الهارب إلى الهند.. عودة الشاعر “كلام” إلى عائلته

رغم هذا الإحساس الطاغي يعود الشاعر “كلام” إلى المخيم، حيث يخبر الوثائقي بقصته المختلفة بعض الشيء عن قصص الهاربين والواصلين مباشرة إلى الضفة الثانية من النهر، فقبلهم مع بداية حملات القمع ضد مسلمي روهينغا عام 2017؛ قرر الشاب وهو في سن العشرين من العمر الخروج من البلد نحو الهند.

هناك قامت عائلة هندية بحمايته وتقديم المساعدة له، لكنه عندما سمع بخبر وصول أهله إلى مخيم كوتوبالونغ قرر الانضمام إليهم، حيث عمل مترجما مع المنظمات الإنسانية والصحفيين الأجانب، وقرر نقل حقيقة ما جرى لشعبه إلى العالم كله.

وجوده بين أهله داخل المعسكر يشعره بقوة الانتماء إليهم، ومشاركته أحزانهم وآلامهم، فهو لن يكرر خطأه الأول عندما تركهم لوحدهم هناك في ميانمار. الترجمة التقريبية لعنوان الفيلم بالفرنسية “الخطأ عدم العودة” تقرب ذلك المفهوم الذي يسعى “كلام” لتحقيقه من خلال عودته، ومساعي الوثائقي لتسجيل أكبر قدر من الشهادات الحيّة للنازحين إلى بنغلاديش.

شهادة لإحدى النساء المسلمات اللاجئات في المخيم، والتي تعرضت للاغتصاب من قبل الجيش الميانماري

 

مشاهد الاغتصاب والقتل.. شهادات نساء المخيم

يُسجّل مصوّر الوثائقي شهادات نساء من المخيم وقفن أمام عدسات كاميراته، أكثرهن تعرضن للاغتصاب وفقدن أبناء لهن، والكثير من بناتهن ما زال مصيرهن مجهولا، فهل قتلن أم ما زلن على قيد الحياة؟

من أغرب القصص قصة روتها صبية اعتقد الناس أنها ماتت مع بقية سكان القرية، لكنها كانت على قيد الحياة، فبعد أن فاقت من غيبوبتها أخذها الناس معهم إلى بنغلاديش، لكن هذه الفتاة بعد أن عَلمت بمقتل كل أفراد عائلتها وأقربائها، بدأت تشعر بوحدة مؤلمة، وأن لا أحد لها في هذا العالم.

إلى جانب الأطفال قدّم صبيان من المخيم شهادات صادمة، أحدهم حكى كيف رأى بأم عينيه الطريقة التي عذّب بها الجيش والده، وكيف قاموا بذبحه بالسكين، ورغم كل ما شاهده الأطفال في بلدهم، والظروف القاسية التي يعيشونها داخل المخيم؛ فإنهم ما زالوا ينظرون إلى المستقبل بتفاؤل وإلى الماضي بحزن. الأغنية التي أنشدها أحدهم تكثف مقاطعها ذلك الإحساس: لماذا تُسيء فهمي هكذا؟ لماذا لا قيمة لي عندك؟ لماذا تعطيني السُمّ بدلا من العسل؟

فيلم “الترحال.. قصة روهينغا” من بين أجمل الأفلام التي وثّقت معاناة وعذابات أقلية روهينغا المسلمة، وأكثرها جمعا بين قسوة المحتوى، وجمال الاشتغال السينمائي الذي استحق عليه جائزة الجمهور في مهرجان “كييبك سيتي” السينمائي الدولي.