“الذاكرة السوداء” لهشام بن عمّار

د. وسيم القربي- تونس

وفي ظلّ ضبابية المشهد السمعي البصري والسينمائي في تونس وقتامته في الكثير من الأحيان، يمكن أن نتحدّث عن آفاق تجربة ناضجة والتي من الممكن أن تكون مثمرة على المستوى الإبداعي، هي تجربة المخرج التونسي هشام بن عمار الذي انتهى مؤخرا من إنتاج فيلمه “الذاكرة السوداء” وشارك به في المهرجان المغاربي للسينما بالجزائر قبل أن يعرضه في باريس ثم كولونيا…

هشام بن عمّار: الاستثناء الوثائقي في تونس

هشام بن عمار

عيناه محمّلتان ببريق عجيب وتحيلان على ذاكرة هجينة تتراوح بين بالإحباطات والأحزان والفرح. ذكرياته يغلب عليها السواد، نضال وتحدّيات ضدّ سلطة الثقافة ذات يوم، هو إنسان مرهف إحساس إلى درجة معقّدة، ولعلّ ما نلخص به كلّ هذا هو ما أنجزه من أفلام من رائعة “رايس الأبحار” وصولا إلى فيلم “الذاكرة السوداء”. هشام بن عمّار مولود سنة 1958 بمدينة تونس حيث درس الفنون الجميلة ثم زاول لاحقا التدريس بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار قبل أن يتفرّغ نهائيا للإخراج الوثائقي، ولو أنّ البداية الفعلية والفاعلة كانت متأخرة نسبيا حيث أخرج فيلم “كافيشنطة” سنة 2000 ثم فيلم “رايس الأبحار” سنة 2002، “شفت النجوم في القايلة” سنة 2007 ومجموعة متعددة من الوثائقيات الأخرى، و”الذاكرة السوداء” سنة 2014.
من النادر عندنا أن يهتمّ المخرج بجنس إبداعي واحد، غير أنّ ولع هشام بن عمار كان وثائقيا بامتياز ففضّل أن يكون ذلك بمثابة خطّ سينمائي. لم تكن طريق بن عمار مفروشة بالورود داخل وسط سينمائي بيروقراطي من ناحية وفي ظلّ غياب الاهتمام بكلّ ما هو وثائقي سينمائي في ظلّ سيطرة الوثائقيات التلفزيونية الفولكلورية على المشهد السمعي البصري في تونس. استطاع المخرج هشام بن عمار أن يتحصّل على بطاقة احتراف تمكنّه من مجابهة النفقات الإنتاجية التي يتطلّبها التوثيق حيث عادة ما يكون البحث عن المال الشغل الشاغل والمعرقل الأساسي، وفي مختلف أفلامه نقل لنا العديد من ملامح الحياة الاجتماعية في تونس وأبرز التزامه الفكري والجمالي الخاص وتمكّنه من الضوابط السينمائية والرؤى التجديدية.
أسّس بن عمار مهرجان “وثائقيات تونس” قبل أن ينسحب من إدارته ويؤسس لمولود وثائقي جنيني: مهرجان دوز للفيلم الوثائقي، كما أنّ ما يمكن الإشارة إليه هو أنّ هشام بن عمار انخرط بعد الثورة في إنتاجات تهتمّ بكل ما هو تحسيسي إشهاري سياسي وهو ما قد يؤثر ربّما على مسار كان إبداعيا بحتا… وإذا كانت الضرورات تبيح المحظورات، فإنّ التجاء بن عمار إلى تمويلات أوروبية في ظلّ سوء الإدارة السينمائية التونسية جعل منه يسقط في بعض الأعمال التجارية التي قد تؤثر على صلابة تجربته واحتياجها لمزيد من الإثراء الفكري، كما أنّ هذا المخرج يجب أن يخرج من انزواءه ليُفيد الشباب السينمائي الطموح ويفتح ورشته للجيل الجديد حتى يستفيد من تجربة سلسة وبسيطة لكنها فاعلة.

فيلم “الذاكرة السوداء”:  شهادات ضدّ النسيان
يعود بنا الفيلم الوثائقي طيلة 52 دقيقة إلى سواد التاريخ في تونس، إلى ظلمات الاستبداد والصمت الإجباري الذي كان يعيشه التونسيون في ظلّ حكم الفرد. “الذاكرة السوداء” هي جزء أول من مجموعة أعمال وثائقية عن التعذيب، ينوي هشام بن عمار إنجازها لاحقا ليروي لنا زمن الديكتاتوريات، وقد اختار خلال هذا الفيلم أن يقتفي ذاكرة أربعة ضحايا خلال فترة حكم الزعيم الراحل “الحبيب بورقيبة” وهم “عز الدين الحزقي” و”الهاشمي الطرودي” و”فتحي بن فرج” و”سيمون لولوش” وهم من التيار اليساري “آفاق” الذي تمّ تأسيسه في باريس. يتقصّى هذا الفيلم حقائق تاريخية عن القمع في السجون البورقيبية والقمع البوليسي الذي تعرّض له سجناء الرأي في الفترة بين 1963 و 1980. يقول هشام بن عمار في هذا الموضوع: “هذا الفيلم ليس تصفية حسابات عالقة، بل هو وثيقة عن حقيقة تاريخية رأيت أنه من الضروري أن يشاهدها الجميع، وهي حسب وجهة نظري يمكن أن تساعدنا أن نفكر في صيغ العدالة الانتقالية اليوم وسط مجتمعنا المدني”.
الذاكرة السوداء هي ذاكرة القمع، وهو إحالة على الماضي الأليم الذي عاشه السجناء السياسيون المعارضون لسياسة الزعيم حيث تستعرض الشخصيات المستجوبة ذكريات زمن الدموع حيث ترتسم على الشاشة أحاسيس الشخصيات التي تشعرنا بقساوة ما عاشه هؤلاء إلى حين التأثر البالغ أحيانا إلى حدّ البكاء أمام الكاميرا ولو أنّ ما عاشوه من تعذيب يعود إلى ما يقارب الأربعين سنة. لكنّ بشاعة الذكرى والاضطراب النفسي الذي تسبب لهم سجّانوهم في أعتى سجون تونس شراسة (حبس برج الرومي) جعل من ذلك شرخا أسودا في الذاكرة. تستعرض الشخصيات الطرائق المتعددة لـ “فنون” التعذيب آنذاك ومن ذلك ربط اليدين والرجلين وتعليق الجسد بشكل أفقي على قضيب حديدي وهو ما يسمونه بوضعية “الدجاجة”، بالإضافة إلى الجلد والضرب بصفة عشوائية والصعق الكهربائي والاعتداء على المناطق الحساسة في الجسد، ويروي المتدخلون الطرق ودهاء السجّانين الذين يحاولون بطريقة أو بأخرى نزع الاعتراف بأي أسلوب ممكن.
“الذاكرة السوداء” هو فيلم أسود… يسيطر السواد على كلّ اللقطات تقريبا وخاصة عندما يضع بن عمار شخصياته على كرسي اعتراف وخلفية سوداء دون أن يعتمد المخرج على تطعيم الحوار بمشاهد تقرّب لنا طُرق التعذيب، بل إنّ رهان المخرج عن طريق ذلك الفراغ الأسود الذي يمكّن المشاهد من التخيّل الفردي لمشاهد التعذيب ليقحمه بصفة تفاعلية مع المروي… يبني الحكي الشفوي مع المتقبّل نوعا من التلصّص ومحاولة الكشف وخاصة عندما يتوقف الشاهد عن الكلام وتنهمر دموعه دون أن يستطيع إكمال بعض الكلمات المُحرجة.
مراوحا بين المستجوبين هنا وهناك، يبني المخرج سردية الفيلم عبر ما تصرّح به الشخصيات لتصبح الشخصية البناء الأساسي للمشي الروائي والسردي، فتسرد العقدة وتبيح برسائل الفيلم المُضمرة… كما أنّ تعدد شخصية المستجوبين جعل من اختلاف تعبيراتهم غامضة أحيانا، حزينة أحيانا أخرى، وطريفة في الكثير من المواقف بما يجعل السخرية تكون حاضرة في عديد المشاهد لتخرجنا من ذلك الجوّ الأسود… قبل أن تعود بنا.

من الفيلم

يحيل فيلم “الذاكرة السوداء” على الأمل الذي أصبح مشروعا بعد ولادة حرية التعبير في تونس، فبنقل وقائع عن فترة عصيبة في تاريخ الحريات التونسية تبرز وثائق تدلّ أنّ القمع لا يمكن أن يحجب أبدا مؤشرات الأمل وهو ما تبرزه الشخصيات في آخر الفيلم. كل هذا يحيل إلى مستقبل تونس اليوم بكلّ ما تحمله السنوات القادمة من تحدّيات سياسية واجتماعية واقتصادية دقيقة. لقد نجحت “الذاكرة السوداء” بطرق جمالية وتقنية ناضجة أن تنقل لنا عالما بشعا ولو أنّ غياب التطعيم التمثيلي قد يسقط الفيلم في خلط ما بين الوثائقي والروبورتاج، كما أنّ قتامة الفيلم قد تكون متجنّية في الكثير من الأحيان على شخص الراحل بورقيبة الذي يبقى الأب الروحي للتونسيين.

حتى نتجاوز السواد…
من باب المستحيلات قبل الثورة أن يتمّ إنتاج أفلام في تونس مثل وثائقي “الذاكرة السوداء”… غير أنّنا اليوم في تونس لم يعد من الممكن أن نتحدّث عن جرأة لأنّ كلّ أشكال التعبير أصبح جائزة اليوم، وبالتالي فإنّ الجرأة الحقيقية للمخرج اليوم في تونس هي تلك المعالجة الفكرية التي ترتقي بالطبخة السينمائية لتلحق بركب السينما الغربية.
لم يكن أشدّ المتفائلين في الحقل الثقافي يحلم بما وصلته حرية التعبير في تونس، حيث كانت السينما زمن الديكتاتور بن علي بمثابة ثقافة مقموعة تسيّرها مجموعة من الضوابط الخفية والقوانين التي تفرضها شرطة الثقافة. لقد كان الإبداع إلى حدود يناير 2011 يعتمد أساس على الترميز باعتبار أنّ المباشرتية في السينما كانت ممنوعة بتاتا إلى درجة أنّ مقصّات الرقابة كانت تشتغل بكلّ حزم، وقد يصل الحزم إلى حدّ إجهاض كل ما هو إبداعي رمزي أيضا. لقد كان الفيلم الوثائقي في تونس قبل الثورة جنسا إبداعيا خطيرا، عادة ما تلتف حوله الأنظار قصد تأمين تدجينه كي لا تكشف صوره الحقيقة التي كان يسعى النظام لتكفينها. كلّ هذا جعل السياسة والتوثيق لا يلتقيان إلا في حالة التزييف.
 اليوم، مع بروز الحراك الثقافي وامتداد الزخم الوثائقي في تونس الثورة، أصبح التوثيق غاية سهلة الإدراك ولئن اختلفت الوسيلة بين مبدع وآخر. وفي ظلّ المتاهات الإنتاجية والمشاركات الخارجية لصور وثقت حدثا نادرا وُلد جنينيا وتابع طريقه المجهول وسط عدسات تلفزيونية وسينمائية ترصده، ساعية في الآن ذاته لاقتناص متفرّد. وسط هذه الفوضى الإبداعية الخلاقة، أصبح من الأساسي اليوم أن نبحث في ظلّ التجريب المتعدد الزوايا عن تجارب فاعلة تجعلنا نأمل أن تكون هناك تجارب تونسية وعربية قائمة الذات لتتجاوز التجريب، وأن يكون هناك مبدعون لهم مشروع جمالي وخطاب فكري يمكنهم من إثبات الذات والثبات في خريطة السينمائيين الفاعلين في العالم.