سباق الدراما الرمضانية.. ألعاب النافذين في أروقة التلفزيون

الفنان المصري هشام عبد الحميد

استكمالا لتطور وتغير شكل دراما مسلسلات التلفزيون برمضان حسب ما تفرضه المرحلة من معطيات سياسية واجتماعية وثقافية، سنتعرض هنا لمسلسلين يعكسان بشكل واضح ملامح المرحلة وتوجهات الدولة التي تبثها من خلال القوى الناعمة.

المسلسل الأول هو مسلسل “وجه القمر” الذي كان يتوقع له النجاح الكبير، لكنه اصطدم بمعطيات الجمهور وهشاشة الإخراج والكتابة، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير هي قوة المنافسة التي أظهرها المسلسل الثاني “أوان الورد”، مما أدى إلى تدخل بعض النافذين داخل أروقة التلفزيون.

 

“وجه القمر”.. امرأة بين زوجين

مسلسل “وجه القمر” لفاتن حمامة، وهو من إخراج عادل الأعصر، وتأليف ماجدة خير الله، وبطولة أحمد رمزي وجميل راتب وغادة عادل ونيللي كريم، والوجه الجديد آنذاك أحمد الفيشاوي، وتدور الأحداث حول عائلة ابتسام البستاني (الممثلة فاتن حمامة) المذيعة المشهورة وأرملة رجل الأعمال مصطفى قورة (الممثل أحمد رمزي) الذي لقي حتفه في بيروت أثناء الحرب الأهلية.

أنجبت ابتسام من مصطفى ابنتين هما سارة (الممثلة غادة عادل)، وسماح (الممثلة نيللي كريم)، ثم تزوجها كريم أبو العز (الممثل جميل راتب)، فأنجبا ابنهما وائل (الممثل أحمد الفيشاوي)، وهم يشكلون معا عائلة سعيدة وتتمتع بمستوى اجتماعي راق.

تسير الأمور بالحلقات الأولى بنعومة وجمال، وذلك في استعراض هذه العائلة المثالية، إلى أن يظهر مصطفى قورة الزوج الأول لابتسام، لنفهم أنه لم يلق حتفه.

يريد مصطفى استئناف الحياة مع ابتسام، وأن يُعوّض سنين الفراق مع بناته بالرغم من وضوح اعتلال صحته، لكن سنفهم فيما بعد أنه يعاني من سرطان الدم، ونعلم أيضا مع تدفق الأحداث أن له أنشطة مريبة بتجارة السلاح في الماضي، كما نعلم أن كريم أبو العز كان صديقه الصدوق، وأنه شريكه في تلك العمليات المشبوهة بتجارة السلاح، وهذا ما كانت تجهله ابتسام عن صداقتهما وتجارتهما.

يستطيع الزوج الأول أن ينقذ بناته من مآزق كثيرة، ويواجه صديقه القديم أيضا، ويُطالب بوجوب رجوع ابتسام كزوجة شرعية له، لأنه لم يكن قد رفع قضية طلاق بهذا الشأن، ثم تتدهور صحته وينتهي المسلسل برحيله بعد كثير من المفارقات الدرامية.

فاتن حمامة التي تقاضت عام 2000 مبلغ 45 ألف جنيه عن الحلقة الواحدة من مسلسل “وجه القمر”

 

رهان ضخم وفشل ذريع.. ضربة تقصم ظهر المسلسل

سجّل المسلسل فشلا ذريعا شكلا وموضوعا، وخسر مسؤولو التلفزيون المصري وقتها، فقد كان رهانهم على ذلك المسلسل المُكلف كبيرا، فقد تقاضت فاتن حمامة وقتها (عام 2000) مبلغا قدره 45 ألف جنيه عن الحلقة الواحدة.

كان المسلسل مكونا من 18 حلقة، بالتالي فقد باع التلفزيون المسلسل لمحطات تلفزيونية كثيرة لضمان تغطية التكاليف، وكذلك لمحاولة تحقيق مكسب، لكن كانت صدمة كبيرة حين لم يحقق المسلسل المرجو منه رغم توافر كل عناصر النجاح، بداية من وجود النجمة فاتن، وانتهاء بموعد العرض الممتاز. فالعرض كان الثامنة مساء، أي بعد الإفطار وقبل صلاة التراويح، وكان موعد العرض مُهما بمقياس فترات ومواعيد البث، لكونه يحظى بمشاهدة عالية.

كانت أسباب فشل المسلسل متعددة، ولعل أهمها أن سيناريو الفيلم كان مهلهلا، وأن كثافة التأليف أدت إلى الإطالة، وبالتالي حذفت مئة مشهد من الحلقات، ولا بد أن ذلك الحذف كان قد أَثر على تتابع الأحداث وتماسكها ومعقوليتها، كما يبدو أنه دَبّ الخلاف بين فاتن حمامة ومؤلفة المسلسل، وقد جاء الإخراج ساذجا مباشرا إلى درجة وضع فلتر (تقنية لتنعيم البشرة وإزالة عيوب الوجه يوضع على عدسة التصوير) خضوعا لرغبة فاتن حمامة، لكنه بالغ كثيرا في وضعها بمشاهدها، فخرجت الصورة شديدة الضبابية بمشاهدها، ومختلفة عن باقي مشاهد المسلسل، كما أحدث حالة من التشوش والإزعاج البصري للمشاهد.

في ذلك الوقت عَبّر مدير التصوير رمسيس مرزوق عن استيائه من هذا التحكم، فحذّر المخرج أكثر من مرة، لكن يبدو أن المخرج كان أضعف من مواجهة فاتن حمامة أو قيادة فنانة بحجمها، وعندما اكتشفت فاتن حمامة عند مشاهدتها العمل بالمونتاج كارثية المسلسل؛ طلبت من مسؤولي التلفزيون عدم عرضه، لكن التلفزيون لم يستجب لطلبها.

 

“ضمير أبله حكمت”.. خط فاتن حمامة الذي اختطه لنفسها

كانت فاتن حمامة تطمح وتأمل أن تستكمل بمسلسل “وجه القمر” الخط الاجتماعي الذي اختطته لنفسها، سواء سينمائيا أو تليفزيونيا، وقد ظهر ذلك الخط جليا في تقديمها مسلسل “ضمير أبله حكمت”، فقد كان ذلك المسلسل مباشرا من وجهة نظري إلا أنه نجح، واستطاعت فاتن أن ترسم صورة المرأة المثالية.

فاتن حمامة -من وجهة نظري- هي شخصية درامية أحادية، وقريبة إلى الإعلام أكثر منها إلى الفن، وقد استوحت هذه الشخصية التي رسمت صورة ذهنية لدى المشاهد عن شخصية فاتن حمامة نفسها في الواقع، لكن علينا أن لا ننسى أن الجمهور غالبا ما يخلط بين ما يقدمه الممثل وبين شخصيته الحقيقية مع الأسف، لهذا أرادت فاتن أن تستثمر مسلسل “وجه القمر” بخططها، وحسب ما أرى فقد نجحت فاتن في تقديم هذه الشخصية المثالية التي هي أقرب إلى التعليم، أي أنها شخصية بيضاء من غير سوء.

لعل هذا التوجه كان يغذّيه شخص نافذ بالتلفزيون المصري، فقد كان رأيهم أن ما يُقدم بالتلفزيون يجب أن يكون تربويا بالدرجة الأولى، أي شخصيات بيضاء وسوداء أحادية الجانب، ولتذهب الدراما إلى الجحيم.

وقد واجهت فاتن حمامة بالإنكار والتعالي مأزق فشل المسلسل وعدم تحقيقه النجاح المنشود، وانكساره أمام النجاح المُدوّي لمسلسل “أوان الورد” الذي عرض بالشهر نفسه، وفي رأيي هنا أن فاتن كانت تفتقد صراحة وشجاعة الاعتراف بالخطأ التي تحلّى بها عمر الشريف عندما اكتشف فشل فيلمه “المسافر”، فقد خرج على الملأ واعترف بذلك، بل وهاجم صانعيه على مرأى ومسمع من الجميع، وفي حضور كل الإعلام المحلي والإقليمي والدولي، وهذا يحسب تماما لعمر الشريف بوصفه فنانا صادقا مع نفسه وجمهوره.

 

“أوان الورد”.. إزالة المساحيق عن عوار المجتمع المصري

مسلسل “أوان الورد” هو من تمثيل يسرا وهشام عبد الحميد، ومن تأليف وحيد حامد، وإخراج سمير سيف، وبطولة سميحة أيوب ورجاء الجداوي وعبد الرحمن أبو زهرة وسعيد صالح وماجد الكدواني وضياء المرغني.

وعلى عكس مسلسل “وجه القمر” جاء “أوان الورد” سريعا في أحداثه متنوعا في دلالاته متطورا في شخصياته، ويتمتع بديناميكية درامية، وميزة تلك الديناميكية أنها تعاملت مع شخوصه على أنهم من لحم ودم، فهي شخصيات درامية بامتياز، وتحمل الكثير من البطولة والكثير من الضعف، كما تحمل شخصيات “أوان الورد” الصواب والخطأ.

ليست هناك شخصية تعليمية في مسلسل “أوان الورد”، فضلا عن أن دراما المسلسل كانت صادمة وكاشفة لعوار بالمجتمع الذي يتطور فيه الخلاف بين الأقباط والسنة، فقد جاء المسلسل ليطرح مفهوم الوحدة الوطنية بين الأقباط والمسلمين، وهو ذلك التعايش الذي شابه الكثير من الاحتقان والالتهاب.

حاول “أوان الورد” أن ينزع كل المساحيق عن هذا التوتر المكتوم الذي لا يظهر النقاش فيه على السطح، وأن يُظهر هذا الاحتقان، ويبين أن علينا مواجهته ومحاولة معالجته، فالمسلسلات التلفزيونية المصرية الرمضانية موجهة حسب سياسة الدولة واختلافها في كل مرحلة حكم، وقد كان مسموحا وقتها بطريقة أو بأخرى بالتعرض والنقد للمظاهر السلبية بالمجتمع.

الفتاة المتزوجة من الوزير زواجا عرفيا ولا يهمها غير المظاهر الكاذبة، وهي هنا أثناء تحقيق محمود بخيت معها على مسروقاتها الثمينة

 

الزواج العرفي.. نخاسة يباركها المجتمع

مسألة الزواج العرفي للوزراء والمسؤولين من فتيات أصغر منهم بكثير هي مسألة شبه سائدة ومُقلقة، فقد كانت الإغراءات المادية هي جسر العبور، وكان الإغداق عليهن بهدايا ثمينة هو الذي غرّر بالبعض لينجرّ لمصير ليس محمودا أو آمنا، وقد ظهر هذا في مسلسل “أوان الورد”، وذلك في تصدي المقدم محمود بخيت (الممثل هشام عبد الحميد) لتشكيل عصابات نشطت كثيرا بتلك الفترة في مصر.

ظهرت في أحداث المسلسل سرقة مجوهرات لزوجة أحد الوزراء، وقد اكتُشف بعد ذلك أنها تزوجت عرفيا من ذلك الوزير، وبالتحقيق معها في مشهد درامي نكتشف أنها من ذلك النوع الاستغلالي، وأن الزواج بوزير أو مسؤول كبير -سواء كان عربيا أو مصريا- كان دارجا للحصول من خلاله على مظاهر البذخ والثراء، فقد أصبح ذلك أسلوبا للحياة، لكنه أقرب إلى النخاسة منه للحياة الطبيعية، وقد أرادته جميع الأطراف؛ المسؤول والفتاة وأهلها والمجتمع أيضا، وكان هذا الطرح في وقتها كاشفا وصادما.

 

إفلات الأكابر وعقاب البسطاء.. جريمة الدولة

تعرض مسلسل “أوان الورد” أيضا للفساد واختلاسات المال العام من البنوك وغيرها، ومثال على ذلك مواجهة المقدم محمود بخيت مع جلال (الممثل جميل برسوم) الذي قبض عليه في قضية سرقة صغيرة جدا، وسجن بسبب ذلك، بينما الدولة تغمض عينيها عن المختلسين واللصوص الكبار، وتتركهم يسافرون بالمليارات المنهوبة من قوت الشعب إلى الخارج، وتحاسب الصغار فقط.

كما يتعرض المسلسل أيضا لمُدّعي التديّن، وذلك من خلال صاحب القهوة الذي يُدير دولة من داخل دولة، ويريد الرجوع بالمجتمع إلى المجتمع القبلي، كما يتعرض أيضا لعمليات النصب التي زادت في المجتمع، وذلك من خلال نموذج النصّاب صبحي برقوق (الممثل سعيد صالح).

الممثل المصري هشام عبد الحميد بدور محمود بخيت المسلم الذي يُحب أمل المسيحية ويتزوجا

 

محمود وأمل.. طيور الحب تنتصر على صراع الأديان

يتمثل الخط الأساسي بالمسلسل في علاقة الحب التي تنشأ بين المُقدّم محمود بخيت المسلم وأمل المسيحية، وهي علاقة تتوج بالزواج بمباركة أم أمل روز (الممثلة سميحة أيوب) التي كانت متزوجة من السفير أحمد حسان المسلم.

ظلت روز وفية لزوجها السفير حتى بعد مماته فلم تتزوج بعده، ثم أنشأت ابنتها على تعاليم القرآن الكريم، وقد تآلفت روز مع أسرة محمود بخيت المكوّنة من أمه (الممثلة رجاء الجداوي) وأبيه المستشار القانوني (الممثل حسن عبد الحميد).

لم يُعكّر صفو هذا الجو الراقي والحميمي سوى موقفين دراميين، الأول هو اكتشاف اكتشفه محمود بخيت أثناء عمله بالتحقيق في إحدى القضايا الجنائية، وهي مقتل قوّاد متخصص في جلب الفتيات الأصغر من سن 25 لكبار المسؤولين، وكان من ضمن ما عثر عليه دفتر هواتف وجد من ضمن الأسماء فيه اسم أمل، وبالطبع ثبت بعد المواجهة والمصارحة أنها بريئة من شكوك محمود.

أما الموقف الآخر فهو خطف مجهول لابن محمود وأمل في الربع الأخير من المسلسل، لتكون رحلة البحث مضنية للكشف عن المختطف وهويته، ليتضح لاحقا أنها سيدة أرادت الانتقام بشكل شخصي من محمود بخيت.

ينتهي المسلسل بإنقاذ الطفل، وتعمّ الفرحة ويتجمع الجميع في جو تسوده روح التآلف والمحبة والتراحم والسكينة، وهذا هو المعنى المراد والأساسي والرئيسي لمسلسل “أوان الورد”.

كاتب مسلسل “أوان الورد” وحيد حامد الذي تعرض لأزمة صحية بسبب صدور قرار بتأخير عرض مسلسله، والذي اعتبره بمثابة حكم بالإعداء على المسلسل

 

حكم الإعدام.. أزمة كادت أن تقتل وحيد حامد

صاحبت مسلسل “أوان الورد” أحداث لا تقل سخونة وإثارة عن أحداثه الدرامية، وقد بدأت هذه الأحداث عندما عُرضّت الحلقة الأولى منه باليوم الأول من رمضان الساعة الحادية عشر مساء، وعُرض قبله مسلسل “وجه القمر” لفاتن حمامة الساعة الثامنه مساء. المنطقي أن يحظى مسلسل “أوان الورد” بمشاهدة متوسطة، لكن على غير المتوقع من أول حلقة فقد أحدث نجاحا مُدوّيا تجاوز المتوقع، وكان ذلك تجاوزا كاسحا لمسلسل “وجه القمر”.

وهنا كان لا بد من تدخل لكبح المسلسل من أجل تهيئة الجو لنجاح مسلسل “وجه القمر”، وقد صدر قرار في ثاني يوم من رمضان بتأخير عرض “أوان الورد” إلى الساعة الواحدة مساء. لقد كان القرار بمثابة حكم بالإعدام على المسلسل.

على وجه السرعة توجه كاتب المسلسل وحيد حامد إلى رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون عبد الرحمن حافظ، ودارت بينهما مشادة كبيرة، خرج وحيد منها إلى المستشفى لإصابته بأزمة قلبية حادة، وقد تقرر على أثرها إجراء عملية عاجلة له لتغيير شرايين القلب.

انتشر الخبر انتشار النار في الهشيم، وهرعنا جميعا للاطمئنان عليه، كانت الساعة وقتها الثالثة ظهرا، حيث انتقل صفوت الشريف وزير الإعلام وقتها إلى المستشفى، وقبل الإفطار بساعة صدر قرار بأنه لا مساس بموعد “أوان الورد”، فالمسلسل سيُعرض بموعده الأساسي الساعة الحادية عشر مساء، وبالفعل عُرض في وقته، وشاهده الملايين في العالم العربي ومصر، كما استكمل نجاحه الباهر ونال احتراما كبيرا وتفاعلا رائعا مع الناس والإعلام.

 

تغليب القوى النافذة.. منافسة غير شريفة في التلفزيون

يبدو أن نجاح مسلسل “أوان الورد” أعاق بشكل واضح مشاهدات مسلسلات لا بأس بها وقتها، وأولهم مسلسل “وجه القمر” الذي فشل فشلا ذريعا ومؤسفا، وقد علمنا فيما بعد أن إحدى القوى النافذة في التلفزيون لم يعجبها انهزام فاتن حمامة، لهذا صنعت ودعمت قرار تأخير مسلسل “أوان الورد” لتحطيم نجاحه من ناحية، والنفخ من ناحية أخرى في مسلسل فاتن حمامة، ولعل هذه الواقعة توضح المنافسة غير الشريفة، وطرق إزاحة النجاح أو تعطيله لصالح عمل آخر مُقرّب من شخصيات نافذة في السلطة، حتى لو كان ذلك العمل عقيما.

للأسف يحدث هذا على كافة المستويات وفي كل المجالات الفنية في بلادنا، ومن المؤسف أن قيم النمطية والتصنيع بلا روح تنتصر في معظم الأحيان على القيم الجميلة والجريئة في عالم الفن.

لم يكن مسلسل “وجه القمر” قبيحا ولا يهدف للشر، لكن تصنيعه كان مُعلّبا مائجا وسطحيا، وأستطيع أن أقول إنه كان رغم فشله أحد الاستثناءات القليلة التي أفلتت من هذه القيم الموحشة البغيضة.

تسعى بعض المسلسلات لانتصار قيم الحق والخير والجمال والمحبة والتسامح، كما أسعى في الواقع أنا أيضا لانتصار تلك القيم.