صراع السلطان والفنان.. كواليس ترويض البلاط لخيول الإبداع الجامحة

الفنان المصري هشام عبد الحميد

ما تنفك العلاقة بين السلطة والفن متوترة، ولا سيما في دول العالم الثالث، فهي علاقة متوترة يشوبها كثير من الحيرة والتردد والريبة والشك في نوايا الطرفين كليهما، فالسلطة تريد ما اصطُلح عليه بالفن المهادن، أو بمعنى أدق الفن المُعقم، إذ أنها تريد خنق كل ما يسبب لها الإزعاج أو المشاكل من أي نوع، وفي ذات الوقت تريد فنانا تطوعه لخدمة توجهاتها ووفقا لإرادتها.

إنها تريد فنانا متماهيا معها تماما، يصطف في مواقفها وسياساتها، لهذا تركز الأنظمة عندنا على الفنان الموالي، وتوليه اهتماما خاصا، وتهيئ له المناخ المناسب لكي يظهر ويلمع وينجح، وهي تعلم علم اليقين أنها ستستخدمه للتأثير على الجماهير لصالح توجهات الدولة، وبالطبع نقصد الفنان المتماهي مع النظام قلبا وقالبا.

من أجل هذا تصنع السلطة للفنان صورة ذهنية شديدة الإيجابية لدى الجمهور، فهي تدعمه ماديا بحيث يصبح الأعلى أجرا، وتدعمه أدبيا بحيث لا يباريه أحد في تفوقه الفني ليصبح فنانا لا يُبارى، والأدهى من ذلك أن السلطة تُعرقل أعمالا فنية أخرى للمنافسين، أو تعطل المنافسين لصالح نجمها الأوحد الرمز الأسطورة العبقري.. إلى آخر تلك الصفات الرنانة.

لكي يفسح الطريق لعمر الشريف.. عزل كمال الشناوي

رغم أن السلطة تدلل بعض الفنانين وتقدمهم على غيرهم في سبيل تغليب من يواليها، فبالطبع لا بد أن يتمتع هذا النجم المدلل لدى السلطة بموهبة حقيقية ومميزة، ولكن لا بد أيضا من تعطيل مواهب أخرى، لكي يفسح المجال ويقع التركيز على النجم المختار من طرف السلطات.

تحضرني بهذه المناسبة واقعة تخص نجمنا الكبير كمال الشناوي، فقد أخبره صحفي أنه سيحضر افتتاح فيلم من بطولته مع نادية لطفي وعمر الشريف، وهو من إخراج كمال الشيخ، وبالفعل انتظر كمال الشناوي صباح اليوم التالي ليشتري أعداد المجلة الفنية الشهيرة، وبها تحليل الصحفي الذي أبلغه أن يشتري نسخا كثيرة ليوزعها على من يريد.

وبالفعل أقبل كمال الشناوي بصدر رحب على تنفيذ تعليمات هذا الصحفي، لكن ما أن بدأ في قراءة المقالة حتى فوجئ بأن اسمه غير موجود بها، وإنما كان المديح لعظمة نادية لطفي وعمر الشريف، وعندما سأل كمال الشناوي الصحفي لماذا لم تذكرني في المقال؟ قال له الصحفي بالحرف: لكي أفسح الطريق لعمر الشريف.

غضب كمال الشناوي من هذا الرد المتعسف، وأصر على أن يذهب إليه في مكتبه ليلقنه درسا ساخنا، ولكن في حقيقة الأمر لم يكن الصحفي إلا منفذا لتوجه النظام، وفي ذلك الوقت كان توجه النظام عدم التحمس لنجوم بعينهم وكان منهم كمال الشناوي.

الفنان المصري الراحل كمال الشناوي

سعيد صالح.. حبس الفنان المشاغب الذي أزعج النظام

كان عادل إمام بالطبع أحد الأعمدة الأساسية للنظام منذ السبعينيات إلى وقتنا هذا، كما كان عبد الحليم حافظ وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب واجهة النظام بالغناء والأفلام، ويقابلهم فؤاد المهندس وشويكار في المسرح في الستينيات.

ولكن أيضا هناك فنانون على يسار السلطة، فنانون مشاغبون متمردون بطبعهم، ومع أنهم شديدو الموهبة فإنهم لا يروقون للسلطة، لهذا تكثر عليهم المشاكل ويعانون من الكثير من المشاكل من بينها التشكيك في نواياهم، حتى أصبحوا محل رصد واستهداف من الأجهزة الأمنية المختلفة.

لعل النجم الكبير سعيد صالح يجسد المثال الصارخ على معاناة الفنانين الذين لا يرضى عنهم النظام، فما تعرض له من مضايقات بسبب مواقفه السياسية المناوئة للنظام السياسي وقت ذاك تدل على ذلك، لذا فقد تعمد النظام أن يكسر إرادته وأن يجعل زميل كفاحه يسبقه ويتمتع برغد العيش، محققا المجد والشهرة والنجاح، بينما حبس سعيد صالح أكثر من مرة، وحوصر في التوزيع.

النظام تعمد أن يكسر إرادة الممثل “سعيد صالح” وأن يجعل زميل كفاحه “عادل إمام” يسبقه ويتمتع برغد العيش

“السقوط في بئر سبع”.. حصار وابتزاز وإحراق سمعة

لم يقبل الموزعون ولا المنتجون على أعمال سعيد صالح بسبب محاصرته، مع أنه قدم أعمال مهمة، ليبقى محاصرا فيما يسمى بأفلام المقاولات، حتى بدأ اسمه يخبو ويفقد بريقه الكبير، وبلغ الأمر به أن حوصر بلقمة عيشه بالتعمد، لتسند إليه أدوار تقلل من شعبيته الجماهيرية، بينما يُسعد النجم عادل إمام بالشهرة والنعيم.

في المسلسل المخابراتي المهم -الذي يجسد شخصية البطل جمعة الشوان- “دموع في عيون وقحة”؛ يتحول عادل إمام إلى بطل شعبي، بينما نجد بالمقابل أن سعيد صالح أسند إليه دور الجاسوس في مسلسل “السقوط في بئر سبع”، وعندما رفض سعيد أداء هذه الشخصية المدانة أجبر عليه من خلال ألاعيب الضغط والتضييق عليه، مثل موضوع اضطراره لتسديد مديونية إعلانات التليفزيون.

لقد سدد سعيد صالح ديونه كلها، لكن بقي منها شيك واحد تعرض بسببه للتهديد لحكم بالحبس إذا لم يسدده، وحينها وضعه المسؤولون بالتليفزيون أمام خيارين، إما الدفع أو الحبس، ومعنى أن يدفع هو القبول بالمسلسل الذي سيلعب فيه دورا يقلل من شعبيته. ونتيجة لهذا الضغط يُعطي سعيد صالح قيمة العربون ويقبل صاغرا أداء شخصية الجاسوس التي رفضها من قبل.

النجم الكبير سعيد صالح يجسد المثال الصارخ على معاناة الفنانين الذين لا يرضى عنهم النظام

صلاح السعدني.. دفع ثمن جريمة الأخ المعارض

ليس سعيد صالح إلا مثالا بسيطا عن كيفية الكسر والتقليل من شأن من هم ليسوا على هوى النظام، وهو ما حدث أيضا للنجم صلاح السعدني بسبب أخيه محمود السعدني ومواقفه السياسة التي أدت إلى اعتقاله مع مجموعة ما سمي وقتها بمراكز القوى.

كان ذلك في بداية عصر السادات، وقد عُوقب صلاح بمنعه التام من كل وسائل التعبير المرئي والسمعي، وأدى هذا إلى تعثر مسيرته الفنية وتخلفه عن قطار النجومية، حتى تأخر عن أقرانه الذين سبقوه كعادل إمام على سبيل المثال، وقد استطاع صلاح الرجوع مرة أخرى، ولكن نظرا لميوله اليسارية الناصرية فقد ظل على الحافة دائما.

في بداية عصر السادات، عُوقب صلاح السعدني بمنعه التام من كل وسائل التعبير المرئي والسمعي

مخيون وخورشيد.. قد يخسر المعارضون أزواجهم أو أرواحهم

وقع الأمر نفسه مع الفنان عبد العزيز مخيون الذي ظهر أمام الفنانة الكبيرة سعاد حسني في فيلم “الجوع” للمخرج علي بدرخان، لكن جرت محاصرته بعد ذلك بسبب مواقفه السياسية المناوئة للنظام السياسي وقتذاك، واشتراكه في الكثير من التظاهرات السياسية، وأشهرها حركة كفاية التي مهدت لثورة 25 يناير.

وكان ذلك يحمل في ثناياه نتائج كارثية على عبد العزيز مخيون، فقد حوصر فنيا وافتعلت له مشاكل عائلية أدت إلى انفصاله عن زوجته.

أما عمر خورشيد فقد تعرض لحادث يقال إنه مُدبّر، وقد فقد حياته بسبب ذلك الحادث، وانتهت مسيرته الفنية وهو في قمة تألقه ووهجه، لا لشيء إلا لأنه دافع عن سعاد حسني، ووقف بجانبها ضد مسؤول كبير، وقد كاد له ذلك المسؤول وحاربه بالشائعات المغرضة لتشويهه لدى الرئيس السادات.

وعلى الرغم من أنه لا أحد يعلم الحقيقة على وجه التحديد، فإن الحقيقة المرة الوحيدة هي أننا فقدنا فنانا موهوبا ومهما وهو ما يزال في ريعان الشباب.

“جواز على ورقة طلاق”.. حين يغضب السلطان على الكاتب

اضطر ألفريد فرج إلى ترك مصر أيام السادات لاختلافه مع النظام سياسيا، وعندما عاد في التسعينيات كان يعاني من التعتيم على أعماله المسرحية، وقد عاصر كاتب هذه السطور مسرحيته “جواز على ورقة طلاق” وتعرضها لأكثر منغص ومحبط، لكي ينهى العرض برغم نجاحه الشديد.

تعرض نفس هذا النص للعرقلة عندما قُدم لأول مرة في أوائل السبعينيات، وكانت المسرحية من بطولة كرم مطاوع وسهير المرشدي، ومن إخراج عبد الرحيم الزرقاني، وكان وقتها وزير الثقافة الكاتب يوسف السباعي.

ولعل المحطة الأخيرة في حياة ألفريد فرج كانت عدم منحه جائزة الدولة التقديرية، وقد رحل عن دنيانا وهو يحمل في قلبه حسرة وكمدا.

“بيكاسو” و”دالي”.. تتعدد الطرق وتبقى المواهب الخالدة

على أي حال يظل وضع الفنان -على ما يبدو في بلادنا خصوصا- منحصرا في حالتين، فإما أن يكون قريبا من السلطة ينعم بنعمتها، أو بعيدا عنها يتلظى بجحيمها، وهناك معايير عند السلطة للانحياز والولاء، فانحياز الفنان إلى السلطة وما لها من بريق، أو الانحياز لمعتقده وفكره أيا كانت العواقب سائد عموما.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه دائما هو: هل انحياز أي فنان للسلطة يؤثر على روعة إبداعه؟

لنجيب على هذا السؤال أمامنا نموذجان من الفن الخالد، ألا وهما “بيكاسو” و”سلفادور دالي”، أما “بيكاسو” فقد اختار الهجرة إلى باريس اعتراضا منه على فاشية “فرانكو” في إسبانيا، ولعل هذا يتضح أكثر ما يتضح في لوحة انتصار غيرنيكا، تلك القرية الإسبانية الجميلة التي أبادها فرانكو بكل وحشية.

أمامنا على الجانب الآخر “سلفادور دالي”، وهو منحاز للدكتاتور الفاشي، سواء بإرادته أو بالضغط عليه أو بسبب الرهبة من أن تُعرقل أعماله. ورغم اختلاف طريقيهما لم يبق من “بيكاسو” أو “دالي” إلا فنهما البديع الخالد، ولا أحد يستطيع أن يلغي دالي لتاريخه المنحاز للديكتاتورية.

“سلفادور دالي”، كان منحازا للدكتاتور الفاشي “فرانكو” في إسبانيا

سعيد صالح وعادل إمام.. نجومية فذة في دروب مختلفة

إذا اقتربنا الآن من واقعنا نجد مثالين صارخين يجسدان تضاد “بيكاسو” و”دالي”، وهما عادل إمام وسعيد صالح، أما عادل فقد كان مهادنا لكل سلطة وحاملا لأفكارها وتوجهاتها، لكننا بصرف النظر عن عدالة هذا التوجه لن ننسى موهبته وأعماله الفنية برغم تنازلاته القيمية.

في الطرف الآخر لدينا سعيد صالح ومواقفه النضالية والثورية التي أدت إلى اضطهاده فنيا، ولكن تاريخيا وفنيا تظل موهبة سعيد أكبر من أي مزايدات.

في النهاية لن تحسم أبدا العلاقة بين السلطة والفن لأنهما طرفا نقيض ومشدودان على وتر، ولا بد لكل امرئ أن يحسم موقفه، ويحدد إلى أي جانب سيكون.