“صفقة أخيرة”.. عن اكتشاف سر السعادة

 

قيس قاسم

عن انقطاع صلات الرحم والوحدة المؤلمة، عن الصداقة الحقيقية النادرة والطمع، عن العلاقة الخاصة بين الأحفاد وأجدادهم.. عن كل ذلك يحكي الفيلم الفنلندي “صفقة أخيرة”، عن علاقة بطله الرجل الفنلندي العجوز تاجر اللوحات والقِطع الأثرية المُنقطعة صلاته بعائلته منذ زمن بعيد، والتي كان من الممكن لها أن تُصاغ قصة عادية قد لا تستحق النقل إلى الشاشة، ولبقيت في حدود احتمال وجودها المألوف في الحياة الأوروبية خاصة في شمالها، حيث الإنسان يميل إلى الفردانية ومواجهة مشاكله وحده دون طلب مساعدة من أحد، لكن كاتبها أراد الغور في “جوّانيات” الكائن البشري وإظهار المجتمعي فيه، وذلك عبر إعادة صياغتها دراميا لتلامس شغاف القلب، وتترك أثرا عميقا في نفوس من يتابعها على الشاشة.

اختار المخرج “كلاوس هيرو” أسلوب السرد الكلاسيكي لفيلمه، مبتعدا بذلك عن الاتجاهات التجديدية في السينما الفنلندية. هذا الاختيار يُقرّب نصّه من السينما الهوليودية، لكن الفارق انخفاض نسب التوتر فيه، وابتعاده عن التحريك المتعمد للعواطف. شخصياته الكتومة الصامتة لا تحتمل هزّا عنيفا، لهذا يتركها تتحرك وفق ما يناسبها ويناسب المحيط الذي تعيش فيه.

في “صفقة أخيرة” نرى العاصمة هلسنكي مختلفة عن صورتها النمطية كمدينة شمالية باردة موحشة، فنراها هنا تشبه بقية مدن القارة الأوروبية؛ معالم عمرانها واضحة لا تكسوها الثلوج كليا، متجر و”غاليري” العجوز الفنلندي أولافي (الممثل هيكي نوسيانين) في وسط المدينة، واللوحات متراكمة فوق بعضها وموزعة في كل ركن منه، والمكان بعمومه خالٍ من مظاهر العصرنة.

من معالم شخصية بطله الرئيسي أنه تقليدي لا يميل للتجديد، فما زال يحتفظ بدفاتر حساباته الورقية ولا يستخدم الحاسوب، بل يُدوّن ملاحظاته بقلم رصاص. التزامه بنمط حياة قديمة هو جزء من مشكلته الجديدة، فما يتعرض له من كساد وأزمة مالية تعود أسبابها إلى المنافسة الجارية في مجال عمله على الشبكة العنكبوتية الإنترنت، فتجار المزاد نقلوا جزءا مهما من تجارتهم إلى الإنترنت، فيما ظلّ هو متمسكا بعاداته القديمة؛ يشتري لوحات من المزاد، وينقلها بنفسه إلى متجره، كما ويعرضها للبيع بعد إضافة القليل على قيمتها الأصلية، أرباحه القليلة كانت تكفيه ليعيش حياة عادية مع زوجته قبل وفاتها، فموتها بسبب المرض أثّر في حياته ودفعه للعيش وحيدا في عُزلة مؤلمة.

هكذا يُسرّب السيناريو بهدوء تفاصيل صغيرة عن حياة العجوز الكاتم لمشاعره، والمقتصد في التعبير عن ماضيه وعلاقاته بالعائلة، فبالكاد نعرف أن له بنتا مُطلقة من زوجها ولها ولد وحيد يدرس في المرحلة المتوسطة. يومه العادي يقضيه في المزاد بصحبة صديق عمره وزميله في التجارة “باتو” (الممثل بيرتي سفيهولم)، حيث يمرّ كلاهما بأزمة مالية، بفارق أن صديقه يحاول التَكيُّف مع التطورات التقنية الحاصلة ولا يُخفي مشاعره.

 

هُوّة بين ضفتين

هذا الجزء العامّ من الحكاية يُنقَل ببطء وبأسلوب سينمائي يتناسب مع طبيعة الشخصيات الشمالية الأوروبية المُتحفّظة في التعبير عن جوانياتها، والميّالة نحو الوحدة والانكفاء الذاتي، يقابله سلوك كوني مُنفتح يجبرها على التعامل مع ما تقدمه التكنولوجيا الرقمية من إمكانيات هائلة، فالتخلّف عن مواكبتها يزيد من عزلة المتشبثين بالقديم.

هكذا يدخل المخرج هيرو إلى واحدة من مشاكل بلاده والعالم المعاصر، والشديدة الصلة بمفهوم الهوية والخصوصية، فبين الالتزام بتقاليد عمل عريقة تُراعى فيها الأمانة والصدق، وبين انفتاح يُغوي بالسرعة وطمس التفاصيل خاصة في حقل حسّاس كالذي يعمل فيه العجوز، والذي يجمع بين الفن وبين التجارة.

الهُوّة كبيرة بين الضفتين ولا بدّ من ردمها، كيف؟ عبر أجيال جديدة تُجبَل على مواكبة الحاصل من تطور، وتُحافظ في الوقت نفسه على الإنساني وكل ما يعزز من قيمة الكائن مهما تغيرت ملامح الحياة العصرية وتطورت. عبر ذلك المجاز الدرامي سيدخل الحفيد “تو” (الممثل آموس بروذيروس) على خط الأحداث، لكن قبلها ستُحدِث إحدى اللوحات المعروضة في المزاد انقلابا في حياة الجد “أولافي” وعائلته التي يكاد ينساها.

لم يتفهم أحد اندفاع أولافي تجاه لوحة وجدها في المزاد كما تفهّمه صديق عمره المخلص "باتو"
لم يتفهم أحد اندفاع أولافي تجاه لوحة وجدها في المزاد كما تفهّمه صديق عمره المخلص “باتو”

 

اللوحة.. مفتاح الخلاص

كان “أولافي” شديد القناعة بأن اللوحة التي رآها معروضة في المزاد ونسيَ رسّامها التوقيع عليها؛ هي التي ستحلّ أزمته المالية وتُعيد التوازن لوضعه المهزوز بسبب تراكم الديون وقلّة البيع. فاللوحة الغامضة التي رُسمت لرجل روسي ملامحه تجمع بين العادية والسيد المسيح؛ جذبته وراح يفكر بتدبير المبلغ اللازم لشرائها، لكن لم يتفهم أحد اندفاعه تجاهها كما تفهّمه صديق عمره المخلص “باتو”.

الطرف الجديد القادم إلى المعترك الذي تُخاض فيه معركة غير مُعلنة للاستحواذ على اللوحة هو الحفيد الذي قَبِله الجد كطالب مُتمرن في متجره خلال العطلة الصيفية، وذلك كما تنص القوانين المدرسية الفنلندية ومناهجها، حيث قَبِله بعد إلحاح ابنته ليا (بيرجو لونكا). سنلاحق عبر هذا المدخل تطورا جديدا في علاقتهما بعد انقطاع طويل لم يسأل الوالد خلاله عن أحوال ابنته الوحيدة، مما أثّر فيها كثيرا وزاد من أوجاع وصعاب مواجهتها الحياة مع طفلها دون دعم من أحد.

ستدخل التكنولوجيا الجديدة كطرف مساعد في الفصل الدرامي الذي يجمع الجدّ بحفيده، فبحثه عن أصول اللوحة غير المُوَقَعة بالطرق التقليدية لم يوصله إلى نتيجة، في حين أدّى تدخل الحفيد عبر استخدامه البارع للإنترنت إلى نتائج باهرة، فقد عرفا أن اللوحة تعود إلى المعلم الروسي “إيليا ريبين”، وأنه سها عن توقيعها. اللوحة إذن أصلية والكثير من المتاحف مُهتمة بأمر الحصول عليها.

اكتشاف قيمة اللوحة الفنية زاد من الصراع عليها، فصاحب المزاد الجشع لم يهتم بها في أول الأمر، وذلك اعتقادا منه بأنها عديمة الفائدة ولا تعود إلى رسام مشهور، لكن بعد معرفته الحقيقة راح يعمل كل ما بوسعه لاستعادتها من مالكها الجديد، مُستغلا بذلك سوء وضعه الاقتصادي وجهله كما تصوّر بحقيقتها.

شدة الصراع ومساهمة الحفيد في حسمه لصالحه أشعره بفداحة موقفه، وبسعة الفراغ الروحي الذي أحدثه انقطاعه عن ابنته، وبالتدريج راح “أولافي” يستعيد علاقاته الأُسَرية التي بدورها أعادت له الكثير من توازنه المفقود.

اللوحة نفسها ستعيد ترتيب العلاقات بين شخصيات “صفقة أخيرة”، حيث سيُظهر التهافت للحصول عليها الغثّ من السمين. سيدرك الجد أن حفيده يتمتع بأخلاق حميدة، وأن ابنته قد أحسنت تربيته، ويدرك مدى تماسك ابنته وقدرتها على مواجهة الحياة وحيدة تُعيل نفسها بنفسها دون منة من أحد أو استجداء عطف آخرين. وفي الجانب الآخر يجد الحفيد في جدّه ما كان ينقصه بعد أن عاش طفولته وحيدا مع أمه من دون أب أو قريب. فما فعلته اللوحة يتجاوز قيمتها المادية، لقد استرجعت وأعادت لحمة عائلة فرقتها الظروف وانشغالات الحياة القاسية.

يجد الحفيد في جدّه ما كان ينقصه بعد أن عاش طفولته وحيدا مع أمه
الحفيد يجد في جدّه ما كان ينقصه بعد أن عاش طفولته وحيدا مع أمه

 

العائلة.. سر الهناء

فيلم “كلاوس هيرو” مشبع بالعواطف والأحاسيس الإنسانية، فاشتغاله السينمائي مبهر خاصة أداء ممثله، أما موسيقى “ماتي باي” فقد أضفت روحا فنلندية خالصة على نص كُتب لينقل روح المكان وتفاصيله، فيما لعب تصوير “تومو هوثري” دوره الأهم في تحقيق رغبة صانعه، وذلك بأن يأتي نصّه السينمائي أصليا لا يشبه النصوص الدرامية الهوليودية حتى وإن أخذ بأسلوب سردها البصري.

مضامين “صفقة أخيرة” ومآلاتها رائعة، فمن تجارية بحتة تحوّلت إلى أخرى لا تشبهها؛ إنسانية بامتياز، دوافعها استرجاع لُحمَة عائلة، وإعادة تشيكل علاقاتها لضمان ديمومتها وبقائها مركزا اجتماعيا حيويا لا يمكن لأحد التخلي عنه حتى في أشد الأمكنة اعتمادا على “الفردانية”.

عبر تطور الحكاية وتصاعدها الدراماتيكي يطرح صانعها سؤالا جوهريا عن حقيقة قدرة البشر العيش في عزلة مطلقة من دون الحاجة إلى أُسرَة تجمعهم، لكنه لم يترك الجواب مُعلّقا، فقد قدّمه في خاتمة أشارت إلى استحالة التخلي عنها، فبعد موت الجد لم تنقطع العلاقة بين أفرادها، على العكس ازدادت متانة وترسخت عبر وصيته التي كتبها لحفيده، حيث شكره على ما كل ما فعله له، وأهداه اللوحة كتعبير عن امتنانه لما قام به من أجل تحقيق حلمه في امتلاكها.

ترك العجوز “أولافي” دُنياه سعيدا، فما كان يبحث عنه وجده؛ العائلة التي غاب عنها طويلا وعاد إليها بفضل لوحة جميلة عوضت له كل خساراته.