“غدا يأتي أمس”.. ظلم روسي لتتار القرم عمره 100 عام

د. أمــل الجمل

في تلك اللحظات الفاصلة بين الفجر وشقشقة الصباح يندلع الدق العنيف على باب الشقة، فتستيقظ العائلة من النوم في حالة فزع، وقبل أن يُكملوا ارتداء ملابسهم يُكسر الباب الرئيسي وتُقتحم الشقة بحماية المسدسات والكلاب البوليسية. تلتقط الزوجة هاتفها الخلوي، لكن قبل أن تُكمل محادثتها لأحد أفراد العائلة تؤخذ جميع الهواتف، ويُكبل الأب ويُهان ويضرب. يصرخ الطفل الأصغر بشكل هستيري فيقولون له “اهدأ.. كُفّ عن الصراخ.. إننا فقط نُصوّر فيلما حربيا”، ثم يأمرون الزوجة بأن تصطحب الأبناء وتدخل غرفتهم، بينما يُواصلون هم تعذيب الأب وبثّ الفوضى ببعثرة محتويات الشقة والبحث بين صفحات الكتب، وذلك بحجة البحث عن ممنوعات ومخدرات وأسلحة وأموال وذهب.. وغيرها من التهم الملفقة.

جزيرة القرم.. إبادة السكان الأصليين

ما سبق هو جزء يحكيه الأهالي عن الإهانات المتكررة عند القبض على أحد أهالي تتار القرم، وذلك ضمن أحداث الفيلم الروسي “غدا يأتي أمس” (Tomorrow Comes Yesterday) الذي تنبع أهميته من كونه يتماس مع الأحداث الآنية للحرب الروسية على أوكرانيا، والرعب الذي يبثه الزعيم الروسي “فلاديمير بوتين” في نفوس الكثيرين ممن خرَّب حياتهم. فهذا الفيلم الوثائقي لمخرجته “كيرستن جانيت” يحكي عن الظلم وتخريب حياة الأسر باختطاف الأب أو حبسه.

 

إنه تصوير لأسر وعائلات المقبوض عليهم منذ العام 2014 وحتى 2019 (وقت تصوير الفيلم الوثائقي). وتأتي تلك الأحداث بعد ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، حيث بدأت سلطات البلاد تمارس ظلما وقهرا منظمين ضد السكان الأصليين في شبه الجزيرة.

تتار القرم هم أمة صغيرة من الشعب الأصلي للقرم، لهم لغتهم وهويتهم التي يرغبون في الحفاظ عليها، كما أنهم يتمسكون بدينهم الإسلامي، لكن العدوان والعنف الروسي لا يتوقف عن أبناء وبنات هذا الشعب، وذلك وفق تصريح زوجة أحد المقبوض عليهم، وقد قُبض على العديد من الرجال من مختلف المهن والأعمار، وأُدينوا بقضايا إرهابية ملفقة.

كثير من الأهالي لا يعرفون التهم الموجهة لأقاربهم، إذ تقول لهم السلطات سيتم تحديد التهم لاحقا، إضافة إلى عدم مراعاة الظروف الصحية لكبار السن من المقبوض عليهم، فبعضهم تجاوز الـ60 من عمره، وهو ما يعني أن أي حكم بالنسبة له قد يكون إعداما بالمعنى الرمزي.

“الإرهاب”.. تهمة جاهزة لشعب كامل

تقول إحدى الزوجات إن السلطات استندت إلى تسجيلات فسرت بها كلمة “الصلاة” بلغتهم الأصلية على أنها حركة “حماس” التي تُعتبر بنظرهم واحدة من المنظمات الإرهابية دوليا، ومن ثم كانت التهمة الجاهزة هي “الانخراط في منظمات إسلامية محظورة”.

عائلة أحد المعتقلين من تتار القرم تفقد معيلها على طاولة الطعام بعد أن اعتقلها رجال الشرطة الروسية

 

الحقيقة كما يذكرها الأهالي أن القانون يُستخدم للقهر والقمع، فالمقبوض عليهم بينهم مختصون في السياسة وأساتذة في المحاماة وأبطال أوروبا في التايكواندو ورجال أعمال، لكن نظرا لأنشطتهم وآرائهم المعارضة في العملية السياسية وقناعاتهم الدينية؛ تُلصق تهمة الإرهاب بهم، ويُدعى بأن لغتهم غير مفهومة، لأنها لغة غير رسمية.

تدافع إحدى النساء عن شعبها بالقول “نحن أناس طيبون ولطفاء، نعمل بجدّ واجتهاد وإخلاص، لدينا ميزات عديدة، نحافظ على لغتنا وهويتنا، لذلك فإن ربط الإرهاب بشعبنا أشبه ما يكون بما هو مستحيل بديهيا”.

على صعيد آخر تقول امرأة مسنة قُبض على زوج ابنتها “قبل أن تُضم القرم لروسيا كانت هناك مشاكل بالتأكيد، لكن هذه المشاكل لم تكن بنفس الحجم الحالي، فمنذ العام 2014 لُفقت التهم لمئات الحالات من أبنائنا وأخواتنا وبناتنا، وفي العام 2016 قُبض على أناس من خمس مناطق، ودُهمت أربعة منازل من شعبنا. هم يقولون الآن إن لغتنا غير مفهومة، وفي عام 1967 كان هناك درسان للغة القرم في الأسبوع بالمدارس، مما جعل الأمة مستقرة، لكن منذ الثمانينيات بدأت الأوضاع تختلف تدريجيا”.

اعتقالات.. أب مغيب في السجون وعائلة تلاحق فرص زيارته

يأخذنا الفيلم في رحلات شتى، بين الماضي بدرجات متباينة، والحاضر شديد القسوة. فيبدأ الفيلم بلقطات فيديو أرشيفية سُجلت لإحدى الرحلات العائلية في منطقة خلابة، حيث يظهر جميع أفراد أسرة من الأسر بحالة من السعادة والبهجة، إلى أن ينقض عليهم رجال الشرطة ويأخذوا عائلهم.

معظم من يتم اعتقالهم هم مختصون في السياسة وأساتذة في المحاماة لكنهم يعتقولون نظرا لأنشطتهم وآرائهم المعارضة في العملية السياسية وقناعاتهم الدينية

 

تظل المخرجة تتنقل بنا بين الماضي والحاضر، تأخذنا لإحدى لحظات القبض على بعض الأهالي، فنعايش اللحظة من الخارج، حيث أفراد أمن ملثمون يُطوقون المكان، وشقيق المقبوض عليه يحكي ما حدث أمام الكاميرا. ثم تصطحبنا المخرجة إلى بيت آخر، حيث يلتف أفراد الأسرة حول المائدة يتناقشون اختيار من سيذهب منهم لزيارة الأب المعتقل، ومن سيضحي ليوفر متسعا للآخرين في الباص.

وتجعلنا المخرجة نعايش تجهيزات الأبناء والبنات لزيارة الأب، أو تثبت عدسة الكاميرا على إحدى الزوجات وهي تقرأ خطابات الأب لها ولأبنائها غير قادرة على منع دموعها، بينما الابن الأكبر يربت عليها ويقبّل رأسها، أو تذهب المخرجة إلى زوجة أخرى ترينا الورود التي صنعها لها الزوج من العجين أو الخبز في زنزانته.

وهناك أيضا تجهيزات الأطعمة والحلويات التي سيتم شراؤها وتقسيمها لتوزيعها على المساجين وفق شروط وقوانين السجن، وذلك بأعمال تطوعية ضمن المساندة الاجتماعية. ثم حديث الأبناء والبنات عن مشاعرهم عندما التقوا الأب في السجن للمرة الأولى بعد غياب طويل، فيقول الابن الأكبر “لم أكن أصدق أنني فقط إلى جواره، كأنني لم أره من قبل على الإطلاق، كأنني أراه للمرة الأولى في حياتي، لم أكن أريد أن أرحل”.

من زاوية أخرى تحكي إحدى الأمهات عن رد فعل طفها الصغير عندما رأى والده في المحاكمة، فقد “قفز الصغير إسكندر فجأة وتشبث بيد والده لجزء من الثانية، كان يمسك يد والده ويُقبلها وهو يبكي، لكن رجال الأمن هرولوا مسرعين وأبعدوه، مطلقين تحذيراتهم إذا فعل الطفل ذلك مجددا فسيتم حرمانهم من حضور جلسات الاستماع”.

واقع ثقيل.. عندما يكبر الأطفال قبل الأوان

يعج الفيلم بالكثير من الحب والألم والحزن ودفء العلاقات والمساندة، وهناك تفاصيل إنسانية عديدة ترينا كيف أن النساء اللواتي سُجن أزواجهن يناضلن برفقة أبنائهن من أجل تحقيق العدالة، وكيف يكبر أطفالهن في وقت مبكر قبل الأوان، والحزن يُوحّد الأمة بأسرها، ومع ذلك تعتقل السلطات كل عام المزيد والمزيد من تتار القرم.

يكافح أطفال تتار القرم الذين كبروا قبل أوانهم بعد أن اعتقلت السلطات الروسية آباءهم

 

ويسلط الفيلم الضوء على واحدة من أبرز المشاكل جراء هذا العنف وتخص الضحايا من الأطفال، فهناك أكثر من 30 عائلة ومئة طفل بحاجة إلى الرعاية والتعليم وتوفير الجو الأسري والتربوي والصحي، فمَنْ يوفر تكاليف كل هذا في غياب عائل الأسرة؟

أهل القرم.. 100 عام من الظلم

لكن رغم التضامن والمساندة الواضحة بين أهل القرم، ربما يساعد هذا الفيلم في تحقيق قدر من العدل لهذا الشعب، ربما لذلك كتبت المخرجة تقول “تُعد صناعة الأفلام الوثائقية اليوم أداة قوية للإعلان عن أفكار الفرد، وكذلك للتعبير عن مواقفه تجاه الأحداث المختلفة. أنا أصنع أفلاما تهتم بحقوق الإنسان، لقد اخترت قصة صعبة كنت أستعد لها منذ فترة طويلة، حيث قمت بتقييم جميع الصعوبات والمشاكل التي قد أواجهها. فالفيلم يدور حول مأساة شعب تتار القرم التي لمست شخصياتي، لكن هذا الظلم ليس جديدا، وإنما عمره أكثر من 100 عام، لذلك كنت أريد أن أتحدث عن القمع الذي بدأ عام 1938 وما زال مستمرا حتى يومنا هذا، فالشخصيات بفيلمي تجمعهم نفس المأساة، وهم يناضلون باستمرار من أجل الحق في العيش على أرضهم”.