“فارس الظلام”: من القصص إلى الأفلام

أحمد الديب

في عام 1939 عرف العالم “باتمان” لأول مرة في قصة مصورة قدمها “بوب كين” و”بيل فينجر” في سلسلة القصص المصورة “ديتكتيف كوميكس”. وفي عام 1986 عرف العالم “باتمان” من جديد في الرواية المصورة “ذا دارك نايت ريترنز” التي كتبها ورسمها “فرانك ميلر” ليكتب بها شهادة ميلاد جديدة للشخصية، وللقصص المصورة بشكل عام. وتصديقا لمقولة “جوكر” في فيلم “ذا دارك نايت” – حينما قال إن الجنون مثل الجاذبية الأرضية تماما: كل ما يتطلبه الأمر هو دَفعة صغيرة ! – بدأ جيل جديد من الكُتاب والرسامين في إظهار جنونهم الخاص بعد دَفعة “ميلر”، فبدأت ملامح “باتمان” – وعالمه كله – تنضج وتتشكل لتصبح أكثر عمقا وواقعية.

هذا هو ما حدث بحذافيره في “باتمان” التليفزيون والسينما. فقد بدأت “باتمان” في الظهور على الشاشة الكبيرة في عام 1943 بنفس الصورة الساذجة السطحية، حتى ظهر “باتمان تيم برتون” عام 1989 – بعد انطلاق ثورة “فرانك ميلر” في القصص المصورة – وحقق نجاحا ملحوظا على المستوى الجماهيري، والمستوى السينمائي، والأهم على مستوى تقديم الشخصيات، فقد استعان “برتون” بممثلين من حجم “جاك نيكلسون” و”ميشيل فايفر” و”كريستوفر ووكين” و”داني دي فيتو” للقيام بأدوار أعداء باتمان التقليديين: “جوكر” و”كاتوومان” و”بنجوين” وغيرهم.

نجاح الفيلم شجَّع إنتاج جزء آخر عام 1992 نجح نجاحا نسبيا كذلك، لكن الفيلمين التاليين لباتمان – “باتمان فوريفر 1995″ و”باتمان آند روبين 1997” – عُهد بإخراجهما إلى المخرج “جول شوماخر” الذي قدَّم للمشاهدين صورة لهذا العالم اعتبرها الكثيرون هي الأسوأ على الإطلاق، اعتزل بعدها “باتمان” السينما تماما لثمانية أعوام كاملة – هل لاحظ الذين شاهدوا “ذا دارك نايت رايزز” شيئا؟! – قبل أن يكتشف أن السينما في حاجة شديدة إليه. عندئذ حمل “كريستوفر نولان” الأمانة، وقرر أن يبدأ “باتمان” من جديد في “باتمان بيجنز 2005 – Batman Begins”

ولإن كان تقديم “تيم برتون” لهذا العالم ناجحا إلى حد ما، فإن تقديم “كريستوفر نولان” هو – بلا جدال – الأكثر إبهارا وعمقا وواقعية والتزاما بالروح الجديدة للشخصيات التي بدأها “فرانك ميلر”. على المستوى البصري (الكادرات والديكور والأزياء والمؤثرات، إلخ..) هناك تفوق لا يبرره التفوق الزمني في التكنولوجيا فقط، فـ”نولان” نفسه يُعتبر من الذين يسبقون عصرهم من ناحية الإخراج البصري. غير أن ما يعنيني هنا – وما يعنيني دائما – هو جوهر العمل، وجوهر العمل هنا هو القصة، و”كريستوفر نولان” المخرج رائع، لكن “كريستوفر نولان” الكاتب هو – ببساطة – ظاهرة.

لا أعرف من أين أبدأ حديثي عن ثلاثية “باتمان نولان”: Batman Begins 2005 – The Dark Knight 2008 – The Dark Knight Rises 2012، لكنني إذا تتبعت خطوات “نولان” وجدتُ أن عليَّ أن أبدأ من بداية “باتمان” نفسه: كيف بدأ؟ وكيف أصبح؟ وهنا يقدم “نولان” رؤية قريبة جدا من رؤية “فرانك ميلر” في روايته المصورة “باتمان: يير ون” – الصادرة عام 1987 – التي يعيد فيها حكاية أصل “باتمان”، في تناول عميق يبتعد عن فكرة “البطل الخارق الذي يفعل كل شيء” ليجعلنا نتأكد من المعنى الذي كرّره “نولان” عبر ثلاثيته: “باتمان ليس شخصا، بل هو رمز. يمكن لأي شخص أن يكون باتمان”. وإن غضضنا الطرف عن صعوبة أن تتوفر ثروة “بروس وين” الهائلة لأي شخص، رأينا أن “باتمان” هو – بالفعل – رمز.

 هو الضلع الثالث الذي تحتاجه العدالة أحيانا. فمثلث العدالة في رؤية “ميلر” و”نولان” يتكون من أضلاع ثلاثة: “جيمس جوردون” الشرطي – يد القانون – الذي  يحاول جاهدا التمسك بمبادئه عن فهم لا عن سذاجة في مدينة لا ترحم ولا تترك الفرصة لمن يريد أن يرحم. و”هارفي دينت” النائب العام – لسان القانون – و”فارس جوثام الأبيض” كما يُسميه “بروس وين”، الساعي إلى تحقيق العدالة على وجهها الناصع (فللعدالة – ككل شيء هنا – وجهان!) إلى الحدّ الذي يجعله مهووسا بالملاحقة الجنائية لكبار مجرمي مدينة “جوثام”. لكن ضلعيّ العدالة – اليد واللسان – لا يتمكنان دائما من إحكام القبضة على الإجرام، فرجال الشرطة يرتشون والشهود يزوِّرون أو يختفون في “ظروف غامضة”! لذلك قُتل والدا الطفل “بروس وين” في ليلة مظلمة باردة ومضى القاتل حرّا بلا محاسبة، ولذلك وُلد “باتمان” في ليلة مظلمة باردة بعد أعوام عديدة، ليكون رمزا يقذف الرعب في قلوب المجرمين. ليكون الضلع الثالث الضروري لاكتمال مثلث للعدالة – روح القانون – الفارس الأسود.

في ثلاثية نولان نتعرف على “جوثام” المدينة الأمريكية الصميمة التي تظهر لنا من لقطة بعيدة، تظهر مبانيها المتراصّة الشاهقة فنفكر: يا للحضارة ! وعندما نقترب من الشرّ الكامن في أزقتّها الضبابية المظلمة وشبكة صرفها الهائلة المدفونة تحت الأرض بعيدا عن العيون نفكر: يا للقذارة ! مدينة ذات وجهين، يحاول “بروس وين” و”جوردون” و”جون بليك” أن يثقوا في الخير الذي تبقى فيها، ويحاول “راس الغول” ومنظمته و”جوكر” و”بين” و”كرين” أن يثبتوا أنها وكر للشرّ في هذا العالم، ويخطو “هارفي دينت” و”سيلينا كايل” في منطقة الظلّ الرمادي بين الفريقين، لكل منهما وجهان!

في ثلاثية “نولان” كل شيء أقرب للواقع، ربما للتأكيد على أن “كل شخص يمكن أن يكون باتمان”، وربما للإشارة إلى أننا نعيش في عالم لا يختلف كثيرا عن عالم مدينة “جوثام” إذا نزعنا عنها مبالغات القصص المصورة. و”جوكر” نولان – الذي أدّى دوره الممثل الذي أخرج عبقريته متأخرا جدا، “هيث ليدجر” – خير مثال: فقد تتبع “نولان” و”ليدجر” خطوات كُتاب الروايات المصورة من أمثال “آلان مور” و”جرانت موريسون” في قصصهم من أمثال “ذا كيلينج جوك” و”آركام أسايلام”، فنجحوا في إزالة “الماكياج” الصبياني السخيف الذي تراكم فوق وجه “جوكر” عبر المئات من القصص التي لم ترَ فيه غير مهرج مخبول يصبغ وجهه ويحاول تقليد الأطفال سيئي التربية ! الصورة التي لم يبتعد عنها كثيرا – للأسف – “جوكر” تيم برتون الذي أدى دوره الممثل الكبير “جاك نيكلسون”.

في الصورة التي قدمها “نولان” يشرح “ألفريد” – بالأداء الفائق للممثل الإنجليزي الكبير “مايكل كين” – لباتمان تصورّه لشخصية “جوكر” فيقول: “بعض الناس لا يبحثون عن أي شيء من الأشياء المنطقية، كالمال. هؤلاء الناس لا يمكن شراؤهم أو مجادلتهم أو التفاوض معهم. لأنهم لا يريدون سوى رؤية العالم يحترق! “، ويصِّدق “جوكر” بعد ذلك على تلك المقولة بحذافيرها، فيحرق نصيبه من المال أمام ذهول أحد مجرمي “جوثام” التقليديين وهو يقول: “أنا رجل بذوق بسيط: يعجبني الديناميت، والبارود، والبنزين.. هل تعرف الرابط بينها؟ إنها جميعا رخيصة! “، ثم يقول له باحتقار: “كل ما يهمكم هو المال، لكن هذه المدينة تستحق نوعا أرقى من الإجرام، وأنا سأعطيه لهم! أخبر رجالك أنهم من الآن يعملون لحسابي. هذه مدينتي أنا! “.
 
وبالطبع فإن هذا الاحتقار للمجرمين التقليديين يقابله ما يشبه الإعجاب بالبطل غير التقليدي، باتمان. ونرى هذا واضحا عندما يقول “جوكر”: “لقد حاولتُ أن أتخيل العالم بدون “باتمان”: المجرمون يحاولون كل يوم سرقة بعض المال، والشرطة تحاول كل يوم إيقافهم. لقد بدا ذلك.. مملا جدا!” وعندما يقول لباتمان: “بالطبع لا أريد أن أقتلك! ماذا كنت لأفعل من دونك؟! أعود لسرقة هؤلاء المجرمين؟! لا.. لا.. لا.. أنتَ.. تكمِّلني..”، ويقول له في مواجهة أخرى: “هذا هو ما يحدث بالضبط عندما تتواجه قوة لا يمكن إيقافها مع جسم لا يمكن تحريكه! إن إفسادك أنتَ أمر مستحيل، أليس كذلك؟ بالطبع أنتَ لن تقتلني لاعتقادك – لسبب ما – أنك أفضل من أن تفعل ذلك، وبالطبع لن أقتلك أنا لأن وجودك – ببساطة – ممتع للغاية ! يبدو أن قدَرَنا معًا أن نظل نفعل ذلك، للأبد.”، ويتخلى للحظة عن أسلوبه الساخر وهو يقول لباتمان بما يشبه النصيحة: “لا تتحدث كواحد منهم. أنت لست كذلك، حتى لو كنت تريد! بالنسبة لهم أنت مجرد مخبول، مثلي تماما. هم يحتاجونك الآن، لكنهم سينبذونك – كالمجذوم – في أقرب فرصة ! هل تعرف؟ قواعدهم تلك، أخلاقياتهم، هي محض دعابة سمجة ! عند أول شعور بالخطر سيتخلون عنها. هم فقط متحضرون بالقدر الذي تسمح لهم به ظروفهم ! سأريك هؤلاء “المتحضرين” وهم يأكلون بعضهم بعضا ! لذا لا تعتبرني مسخًا من فضلك، أنا – فقط – أسبق الآخرين بقليل! “.

وهذه هي – تقريبا – العبارة الوحيدة الجدية التي نسمعها من “جوكر” الذي يهزأ بالجدية، وبالجادِّين، فيقول لهارفي دينت: “هل أبدو لك حقا كواضع خطط؟! هل تعرف أي شيء أنا؟ أنا كلب مسعور يطارد السيارات، لا يعرف مطلقا ماذا سيفعل إن أمسك بواحدة ! أنا – فقط – أفعل الأشياء. للعصابات خطط، وللشرطة خطط، ولجوردون خطط. هم جميعا أصحاب خطط، يخططون للسيطرة على عوالمهم الصغيرة. وأنا لستُ من أصحاب الخطط. أنا لا أفعل شيئا غير أن أُظهر لهم حقيقة ضعفهم ! أنتَ نفسك كنتَ من أصحاب الخطط. انظر ماذا فعلت بك خططك ! أنا – فقط – أخذت خططك أنتَ وقلبتها رأسا على عقب! “، ثم يضيف وهو يتوغل أكثر – بخطواته المدروسة – في نفسية هارفي دينت المنهارة: “بالقليل من إزعاج النظام، تسود الفوضى كل شيء. أنا أعمل لحساب الفوضى. هل تعرف أكثر ما يميز الفوضى؟ إنها.. عادلة..”.

هذه كلها نماذج مكتوبة فقط تحمل لكم شيئا يسيرا من روح تلك الشخصية كما كتبها “نولان” وجسّدها “ليدجر”، لكن كيف لي أن أكتب عن نظرات “ليدجر”، وعن نبرات صوته، وعن لزماته العصبية التي طوَّرها بنفسه، وعن “ماكياجه” المذهل الذي صممه بنفسه، وعن حركة يديه وعينيه وهو يصفق لجوردون داخل زنزانته (موضوع التصفيق هذا كله لم يكن في السيناريو وارتجله “ليدجر” عند التصوير!)، وعن تعبيرات وجهه وهو يحاول استفزاز الشرطي بتذكيره بأنه قتل ستة من زملائه، وعن مشهد خروجه بمعظم جسده من السيارة المسرعة ليستمتع بالهواء المندفع في وجهه وشعره، وعن المشهد كله وهو معلق من قدميه – كصورة الرجل المشنوق في أوراق التاروت – في مواجهته الأخيرة مع باتمان؟

وهذا العُمق في التناول لم يتم التعامل به مع شخصية “جوكر” فقط، بل انعكست هذه الرؤية على كل الشخصيات تقريبا. “ألفريد” وعلاقته شديدة الخصوصية بـ”بروس وين”، “جوردون” وضميره المثقل دائما بين طريقتين لتنفيذ العدالة، “هارفي دينت” و”هارفي دينت” الآخر، “جون بليك” الشرطي المثالي الذي تتطلب مثاليته ما يفوق احتمال إنسانيته، “فوكس” العجوز العبقري الصموت مخزن أسرار “وين”، “سيلينا كايل” التي تحمل في أعماقها أكثر قليلا مما يبدو، “بين” الكابوس – حِساب مدينة “جوثام”! – الذي هو في الحقيقة مجرد صورة مظلمة لـ”بروس وين” إن كان قد اختار الطريق الذي رسمه أمامه مُعلمه “راس الغول”، و”راس الغول” نفسه ومنظمته، المؤمنون – لأسباب يمكننا تفهمها بسهولة – بالحلول الجذرية لمشاكل العالم، وإن تطلبت بعض القسوة.

ويظل السؤال الحتمي دائرا عن أفضل أجزاء الثلاثية، في رأيي أنا أن الجزء الأول – الرائع بالطبع – هو مجرد مقدمة ضرورية مشتركة للجزأين الثاني والثالث (بالإضافة إلى قصة بداية باتمان)، لذا تنحصر المقارنة عندي بين الجزئين الآخرين: الجزء الثاني فائق على مستوى حبكة القصة والعمق النفسي للشخصيات والأداء التمثيلي الذي وصل –  في أحيان كثيرة – إلى مستوى العبقرية (يكفي أداء “هيث ليدجر” بالطبع)، أما الجزء الثالث فتميَّز بارتفاع مستوى الخطر فصار يهدد المدينة بأكملها، أداء “توم هاردي” لشخصية “بين” استثنائي، وأداء “آن هاثاواي” لشخصية “سيلينا كايل” كان جيدا. القصة أيضا جيدة جدا، والسيناريو مليء باللقطات التي تحبس – حرفيا – أنفاس المتفرجين، والنهاية مفتوحة بعبقرية تجعلها قابلة لكل الاحتمالات تقريبا. لكن إن كان لا بد لي من اختيار أفضل الأجزاء فإني سأذهب – بعد تردد قليل – إلى تفضيل التكوين على الحجم، الدقة على الوزن، العمق على المساحة: الثاني على الثالث، لأنني أؤمن أكثر بالقصة، وبالأداء، وبـ”هارفي دينت”!

وأخيرا يبقى السؤال: هل سيعتزل “باتمان” السينما مجددا بعد القرار الحكيم لـ”نولان” بعدم إخراج أي أفلام “باتمان” أخرى؟ “نولان” نفسه يقول: “إن “باتمان” سيعيش طويلا جدا، سيعيش بعدنا جميعا.”، وأنا أنتظر أن تبدأ الشركة المنتجة في التفكير في “باتمان” بشكل جديد تماما يتناسب مع قامة ثلاثية أفلام تعتبر – بلا شك – من أفضل الأفلام في تاريخ السينما، فقد فتح “نولان” باب السينما على مصراعيه لهذه الشخصية ولهذا العالم بعمقه المذهل وتفاصيله شديدة الغنى، ودفع دَفعة الجنون الأولى التي أتمنى أن يستمر أثرها في السينما كما استمر في الروايات المصورة. وهناك – بالمناسبة – روايتان مصورتان أنتظر بفارغ الصبر تحويلهما لأفلام: “ذا دارك نايت ريترنز” لفرانك ميلر، و”ذا لونج هالوين” لجيف لوب. هاتان الروايتان كانتا مصدر إلهام كبير لـ”نولان” في ثلاثيته، لكنهما الآن في انتظار عبقري آخر مثله يدفعهما دفعة صغيرة إلى شاشة السينما. لذلك أجيب بأمل: إن “باتمان” سيعود حتما إلى السينما، لأنه البطل الذي تستحقه ( حتى لو لم تكن تدرك الآن كم هي بحاجة إليه! )، لأنه لم يسقط، بل – على الأحرى – بدأ.

المصادر
• Christopher Nolan’s Dark Knight Movie Trilogy: Batman Begins – The Dark Knight – The Dark Knight Rises.
• Frank Miller’s Batman graphic novels: Batman Year One – The Dark Knight Returns – The Dark Knight Strikes Again.
• Jeph Loeb & Tim Sale’s Batman graphic novels: The Long Halloween – Dark Victory.