“قفزة أخرى”.. وثب الفلسطيني تحت ظل الحصار

يطغى الحزن ويتسرب الوجع إلى متابع الوثائقي الإيطالي “قفزة أخرى”، مع أنه لا يكرس نصه بالكامل لنقل أجواء الحرب والقصف المعتاد للطيران الإسرائيلي على قطاع غزة وما يخلفه في كل مرة من دمار وخراب وموت، بقدر ما يحاول بهدوء لافت رصد حياة مجموعة من الشباب الفلسطينيين اتَّخذوا من رياضة “الوَثَابة” أو كما تسمى عالميا بـ”باركور” (مجموعة حركات الوَثب والقفز فوق الحواجز والموانع بأكبر قدر من السرعة والسلاسة بهدف الوصول إلى نقطة محددة) هواية لهم يبددون بها ضجرهم ويخففون من حدة الحصار المفروض عليهم، لكنها بالنسبة لاثنين منهم وهما جهاد وعبد الله كانت تعنى أكثر من ذلك، إنها حلمهما في الاحتراف والوصول إلى العالمية، وهي وسيلة لكسر الحواجز والانطلاق إلى عالم أرحب.

يرافق المخرج الإيطالي “إيمانويلي جيروزا” في فيلمه “قفزة أخرى” (One More Jump) الشابين في مكانين مختلفين، عبد الله في مدينة فلورنسا الإيطالية، وجهاد في خان يونس، ويقارب مصائرهم ونهاية أحلامهم ارتباطا بالأوضاع القاهرة التي يعيشها الفلسطيني في قطاع غزة.

منازل خربها قصف الاحتلال.. ساحات التدريب

يمهد المشهد الافتتاحي للتعريف بالرياضة بصريا من خلال لقطات مأخوذة من زوايا مختلفة توجز بمجموعها التفاصيل الدقيقة للعبة، ويظهر فيه شباب وصبيان فلسطينيون وهم يقفزون ويتجاوزون حواجز خطيرة، وكان تأثيث المشهد غنيا في تعابيره، إذ أن أغلب أسطح البنايات التي يعبرونها قفزا هي بقايا بيوت خربة تركها القصف الإسرائيلي وراءه، والفراغ الكبير الذي يتحركون فيه هو نتاج حصار جائر قلص مساحات العمل في كل مكان.

فريق باركور غزة اتخذ من أسطح البنايات التي دمرها القصف الإسرائيلي مكانا ليمارس رياضة القفز

يكاد يخلو البحر في غزة من القوارب، والسواحل خالية من الصيادين، مما وفر لهم فضاء واسعا ليتحركوا وسطه ويتحرروا من ضغط هائل يواجهونه في بيوتهم وأزقتهم، فيعيدون بمرح خلال الاستراحات تمثيل مشاهد تقارب القصف الإسرائيلي الذي يذكرهم به دوي أصوات القنابل التي يسمعونها، والدخان المتصاعد نتيجة القصف لمناطق ليست بعيدة عن أماكن تدريبهم.

فريق باركور غزة.. إصرار رغم قسوة الظروف

تدنو كاميرات الوثائقي من اللاعبين خلال توقفهم عن الجري والقفز، وتستمع إلى حواراتهم وهواجسهم المعلنة المعبرة عن أسى وحزن لما هم فيه من حال، وتقترب عبرهم أكثر من مدربهم مجاهد الذي ترك سفر صديقه وزميله عبد الله -مؤسس فريق باركور غزة إلى إيطاليا- أثرا عميقا في نفسه، وحزنا على فريق بدأ بالتفكك بعده، وكان عليه إعادة لُحمته ثانية.

لم يبقَ مساعد لعائلته بعد زواج إخوته وتركهم البيت سواه، كان على مجاهد الاعتناء بوالده المريض المقعد على كرسي متحرك، ورعاية والدته وشقيقته، وفي الوقت نفسه عليه إعادة تشكيل (فريق باركور غزة) من جيل جديد من الهواة.

مؤسس فرقة باركور غزة عبد الله يمارس رياضة القفز في مدينة فلورنسا الإيطالية بعد رحيله إليها

تحاصره البطالة واستياؤه على سَفَر عبد الله، وينعكس تأثيرهما في أحاديثه مع أصدقائه وزملائه، كان مؤمنا بأن جذوة نار الفريق لم تخمد، وبمواصلته تأهيل جيل جديد من “الوَثَابة” إنما يواصل ما بدأه عبد الله، ومن مزاياه كمدرب أنه يجمع في تعليمه بين المبادئ الأخلاقية للرياضة وبين تقنياتها وفنونها، كان يُحيل وجودها إلى وجود الفلسطيني وإصراره على البقاء، وقد علمه غياب زميله مبدأ العمل الجماعي والمواصلة حتى في حالة غياب القائد، لأي سبب كان.

حلم يخفف ثقل الوضع.. معاناة المؤسس في غربته

يظهر عبد الله في فلورنسا الإيطالية بالقرب من إحدى محطات قطارتها وهو يتدرب على القفز وعبور حواجز إسمنتية شديدة الخطورة، ويظهر في مشاهد أخرى متجولا في الأسواق باحثا عن عمل.

يلتقط الوثائقي تفاصيل صغيرة تشي بسوء وضعه، فهو يبيت في بيت مهجور، ويتواصل مع أهله في فترات متباعدة، يخفي حقيقة ما يُعانيه في غربته ويتابع تطورات فريقه الأول في غزة عبر الهاتف.

جهاد يقول إنه يسعى للحصول على فيزا إلى دولة أوروبية، سعيا لمستقبل أفضل لنفسه ولعائلته

غربة عبد الله في إيطاليا شديدة الثقل على روحه، لكن إصراره على تحقيق الحلم الذي جاء من أجله يخفف من وطأتها، فكل ما يعانيه في عزلته يبرره برغبته في الوصول إلى مستويات عالية في اللعبة التي أحبها، والتي يستحيل الوصول إليها في غزة في ظل الحصار وقلة الإمكانيات.

تكشف صِلاته البسيطة ببعض الأصدقاء وحواراته معهم حجم الحزن الكامن في داخله، ومع ذلك ظل يتابع تدريباته الفردية في ظروف قاهرة.

غربة داخل الوطن.. أنتم السابقون ونحن اللاحقون

ما يؤرق الطرفين في غزة وفلورنسا هو الشعور بالغربة داخل الوطن وخارجه، يتابع الوثائقي محاولات جهاد للحصول على تأشيرة دخول دول الاتحاد الأوروبي “شنغن”، للخروج من غزة والبحث عن حل خارجها يؤمن حياة أفضل له ولعائلته بعد اشتداد الحصار عليهم من كل صوب.

يترسخ في الخارج ذات الشعور المزدوج عند عبد الله، فرفضه فكرة الرجوع من دون تحقيق ما جاء من أجله وشعوره بالوحدة والعزلة يعززان لديه الإحساس بالحيرة والغربة.

لقطة من مسيرات العودة الكبرى والمواجهات اليومية بين سكان غزة وقوات الاحتلال الإسرائيلي

يتابع الوثائقي تفاصيل عيش مجاهد في ظل مرض والده وبطالته الطويلة، ويزيد الحصار الإسرائيلي وغلق المعابر حتى من الجانب المصري الخناق على سكان القطاع، ويعجز عن تأمين الدواء لوالده، فحتى الصيدليات والمؤسسات الصحية غير قادرة على توفير الأدوية الضرورية، ما دامت مدنهم مسورة بجدران جيش الاحتلال والعزل العنصري، كل هذا يفسر بطريقة غير مباشرة سبب بحث مجاهد عن حل خارج المكان كما فعل عبد الله قبله.

مسيرات العودة ودوافع الهجرة.. فسحة الأحاديث الخاصة

تصل ترددات فكرة السفر إلى أذهان الكثيرين من أعضاء الفريق ويساعد قبولها عندهم على فهم أسباب مغادرة عبد الله لهم، فهم يعرفون جيدا دوافع هجرته، لكنهم لا يعرفون بالضبط الظروف الصعبة التي يعيش فيها وتجعل مشروع مشاركته في مسابقة دولية تقام في السويد حلما ربما ينهي به بؤس حياته خارج غزة المنكوبة بالحصار والصراع المرير مع عدو يزيد من الضغط عليها دون رحمة.

يستغل الوثائقي وجوده في القطاع لينقل مشاهد من مسيرات العودة والمواجهات اليومية بين المحاصرين في مدنهم وبين قوات الاحتلال المدججة بالسلاح والقنابل المسيلة للدموع، ويشارك بعض أعضاء الفريق فيها ويقدمون للجرحى والمصابين ما يمكنهم من مساعدة.

عبد الله على ضفاف نهر في فلورنسا قبيل مشاركته في مسابقة السويد الدولية

وبعيدا عنها قليلا وحال اجتماعهم في بيت أحدهم سرعان ما ينتقل الحديث من العام إلى الخاص وكيف يبدد الحصار أحلامهم ويحرمهم من عيش حياة سوية، بحيث تغدو لعبة “باركور” عزاء لهم، تقدم ممارستها بعضا من متع غابت من حياتهم.

من غزة إلى السويد.. انتقال بين ضفتين

يذهب الوثائقي -توافقا مع عمله المتنقل بين أوروبا وقطاع غزة- لمشاهدة مقطع من مشاركة عبد الله في مسابقة السويد الدولية، يبدو الفرق بينه وبين بقية المشاركين بينا، فجلهم يتمتع بلياقة جسمانية عالية وأعمارهم أقل من عمره.

مدرب فرقة باركور في غزة مجاهد يتأمل غزة من نافذته بعد أن منعته إسرائيل من السفر خارجها

لم يشر الفيلم إلى سوء التغذية والقلق اللصيق بالفلسطيني ولا بؤس عيشه علنا، إنما ترك أمر توصيلها للمتفرج عبر المقارنة البصرية بينه وبين بقية المشاركين، لكن فشل محاولة عبد الله وخروجه من التصفيات الأولية يعزز ذلك الانطباع الذي نقله الوثائقي بشكل مبطن.

يعيد من طرف آخر التذكير بالمشتركات التي تجمعه بإخوته في الوطن عبر نقله خبر حصول مجاهد في غزة على تأشيرة دخول لدول الاتحاد الأوروبي.

شعب تحت الحصار.. شلل في الداخل والخارج

قبلت والدة مجاهد قرار سفره على مضض وتمنت له التوفيق فيه، أما العدو فلم يُسهل له خطوته لتحقيق طموحه المشروع في البحث عن حياة أخرى خارج الأسوار التي سوروها بتعمد حول القطاع، ليظل الشاب الطموح أسيرا في وطنه بعد أن منعته إسرائيل من الخروج، ويظهر في مشهد تعبيري مؤثر كسجين يتأمل العالم من خلال نافذة صغيرة، بعد أن أحبطت أحلام الشابين وتوحدت عذاباتهم مع عذابات شعب بأكمله يعيش تحت الحصار.

ما يزيد من الحزن الغالب على أحداث الوثائقي إعلانه في ختام مسيرته خبر تعرض عبد الله لحادث أثناء التدريب أدى إلى عجزه عن الحركة، لقد شُل جسده في الخارج كما شُلت حرية زميله وصديقه مجاهد في الداخل.

بقدر ما هو مؤثر فيلم “قفزة أخرى” على مستوى الحبكة والسرد والقدرة على نقل المشهد العام للحياة في قطاع غزة، فإن الاشتغال الفني والجمالي فيه لا يقل روعة، فالتصوير مذهل في قدرته على نقل تفاصيل حركة الرياضيين والأماكن التي يَجرون فيها قفزا وعبورا، فقد ساهم اقتراب الكاميرا من وجوههم في نقل تعابيرها والتسلل إلى المستوى النفسي بأوضح صوره، كما عملت على تسريب كل الحزن الكامن في نفوسهم إلى المتلقي المشدود انتباهه طيلة الوقت.